كتب

اتحاد المغرب العربي بين رياح الربيع العربي وموت الحلم الوحدوي.. قراءة في كتاب

تتميز العروبة في بلدان المغرب العربي، و بالتأكيد لعدة عوامل، منها إخفاق التجارب القومية العربية بالمشرق، وطبيعة سلوك النخب السياسية المغاربية الحاكمة.. الأناضول
الكتاب: المغرب العربي ثقل التاريخ ونداء المستقبل
الكاتب:مجموعة من الباحثيتن تحت إشراف الدكتور عبد الإله بلقزيز
الناشر: مركزدراسات الوحدة العربية ، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2013، (عدد الصفحات 333من القطع الكبير).

هذا هو الجزء الثاني والأخير من القراءة الخاصة التي يقدمها الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني لموقع "عربي21" حول كتاب "المغرب العربي: ثقل التاريخ ونداء المستقبل"، وهو عمل جماعي أشرف عليه الدكتور عبد الإله بلقزيز وصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت سنة 2013.

في هذا الجزء، يتوقف المديني عند تأثير الربيع العربي على فكرة الاتحاد المغاربي وإمكان بعثه من جديد بعد عقود من الجمود، مستعرضاً رؤى عدد من الباحثين حول جدوى التكامل الاقتصادي بين دول المنطقة، ورهانات النخب السياسية والمجتمع المدني في ظل واقع التبعية والتجزئة، لينتهي إلى تشخيص عميق لأسباب تعثر المشروع الوحدوي المغاربي بين إرث التاريخ وإكراهات الدولة القطرية.



الربيع العربي وتأثيره على  المستقبل المغاربي البديل

مع اندلاع انتفاضات "الربيع العربي" طرح الباحث مصطفى الفلالي الأسئلة التالية: هل يكون من فضائل ربيع الثورات العربية إنقاذ اتحاد المغرب العربي من غرفة الإنعاش، أم أنَّ لكل شعب في قضايا التحول شأناً يغنيه ويكفيه؟

هل يكون من أطيب حصاد الثورة تحرير مستقبل المشروع المغربي من احتكار الثلة القيادية في أعلى هرم الدولة وإشاعة مسؤوليته بأيدي المجتمع المدني في جميع ربوع المغرب، أسوة بما حررته الثورة من قرارات غيرها بعنوان التحول الديمقراطي؟

يرى الفلالي أنَّ البناء المغاربي قضية لصيقة بالواقع الداخلي لكل مجتمع، وليست مشروعاً منفصلاً في برزخ المقاصد النظرية السخية. وما عطالتها الطويلة على مدى ستة عقود إلا بسبب معارضتها لواقع البناءات القطرية وتنزيلها منزلة المنافسة لممارسة السيادة.فالدعوة إلى بعث الاتحاد المغاربي في غياب القدر العادل من التجانس بين الشعوب في التحول الديمقراطي، وفي خضم الانفلات الأمني في بعض الأقطار والاهتزاز الاجتماعي والضباب السياسي، دعوة تحمل في مقاصدها كثيراً من البراءة الفكرية ومن الثقة في تلقائية الضرورة التاريخية. إن في انطلاق الدعوة من الرئيس التونسي وفي الاستجابة الفورية والترحيب الحميم من سائر القادة المغاربة مع انشغال المجالس النيابية عن هذه المبادرة وانصراف الأحزاب السياسية والنخب الفكرية إلى قضايا غيرها، دليلاً على أن البناء المغاربي لم يخرج عن استفراد الثلة الحاكمة، وإن الرأي العام المغربي لا يبرح يتعامل معها بمنطق التفويض والاستقالة. كذلك شأن القضية منذ قيام مكتب المغرب العربي في القاهرة عام 1947، وعند انعقاد مؤتمر الأحزاب السياسية في طنجة في نيسان / أبريل 1958 وعند إنشاء اللجنة الاستشارية القارة في تونس عام 1964، وصولاً إلى لقاء الانفراج السياسي في زرالدة بالجزائر، وإبرام اتفاقية مراكش في شباط / فبراير 1989.

ينطلق البناء الإقليمي لاتحاد المغرب العربي من الأرضية التي تقوم عليها هذه الأنظمة المعنية ، أي أرضية التبعية و التخلف و التجزئة، و الاستسلام لخط التسوية على الصعيد القومي. و هو كمشروع وحدة إقليمية، يحكمه منطق التعاون الجماعي المتعدد الأوجه بين هذه الأنظمة، في محاولة لبناء وحدة فوقية من طبيعة تأليفية بين الدول الخمس لبناء لبنة المغرب العربي الكبير، يحقق السلم لهذه الأنظمة عبر حل الأزمات المتفاقمة سياسيا ً و اقتصاديا ً و أمنيا ً، ويعمل على منع الانفجارات غير المتوقعة، و السيطرة على بؤر التوتر، و يحمي فيه النظام القوي النظام الضعيف.
ينشأ في الذهن سؤالان بشأن هذه المبادرة؛ الأول، هل عملية الإنعاش لمشروع عليل بلغ أرذل العمر هو عمل ظرفي مقصود لغير ذاته، وذريعة لخطاب من جنس الدعاية الحزبية، يوظف في ظروف معينة، ثم يطرح جانباً ويعاد إلى فراش التمريض إلى حين حاجة جديدة، أم أن الأمر غير ذلك، والقصد قصد صدق من ورائه حمية التعلق بمشروع حضاري مقصود لذاته، بما يعنيه من منافع مشتركة لشعوب المنطقة من أمن واستقرار ورخاء، وما يجره للجهة من وزن سياسي بين الأمم، وما يمهد له من نهضة مستأنفة.

هل هذا القصد هو اليوم من حصاد الثورات الشعبية لا تلبث أن تعم موجتها جميع أرجاء الفضاء المغربي، فتتحول الضرورة التاريخية إلى تاريخ معيش في نسيج الواقع وبنفحة الأمل الفسيح مثلما كتب ذلك الوزير الأول المغربي عبد الله إبراهيم أمين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في 3 آب/ أغسطس 1988 في جريدة الحزب.

هل يقبل جيل الثورة والانفتاح، أو هل يرضى شباب العزم وفك الأغلال أن يطول به العيش خارج الزمان في برزخ الاستثناء العربي، وفي تناقض وجودي بين ما في النفس من حمية التغيير، وما في الآفاق من إمكانيات متاحة ومن تحولات متسارعة، وبين ما في الأنظمة المهيمنة من حران وعبثية الثورة لا تعيش في بيئة الخلف بما هي ضرورة عقلانية وقطيعة مع السفاهة وإبداع ثقافي. وإنه من الخلف بالمنطق الجيو - سياسي أن تبقى بمنازل التهميش والضيق والكبت مجموعة بشرية تزيد على مئة مليون نسمة بينها نسيج عريق من وحدة الأساسيات الثقافية في الدين واللغة والتاريخ، بما يحفل به التاريخ من المحن الداخلية والخارجية، ومن سجل الإبداعات العلمية والعمرانية وما يسكن بالأفئدة من حمية التطلع إلى المستقبل الكريم. وتتوسع هذه المجموعة في فضاء ستة ملايين كيلومتر مربع على أعرض واجهات الحوضين الشرقي والغربي من المتوسط، ومن ربوعها تنطلق المسالك التجارية والثقافية إلى شعوب القارة جنوب الصحراء الكبرى، وتتحكم في المعبرين الأساسيين للملاحة بين المحيط والمتوسط، ثم هي تمثل الجناح الغربي للأمة العربية، وهي المؤتمنة بذلك على ما جلبته إلى هذه الربوع الأطلسية من الرسالة الحضارية الشرقية.

منذ عمر جيلين يقبع مشروع البناء المغربي في بيئة عجز سياسي تعطلت بسببه جميع قرارات التنفيذ حتى في حق الاتفاقات المصادق عليها بعد معاهدة مراكش، وباتت هذه الجهة تشكل مع سائر أقطار البلاد العربية منطقة الاستثناء الشرقي في جغرافية التحالفات الإقليمية القائمة في مختلف قارات العالم. لا تتسع هذه الورقة لتحليل الأسباب المفسرة لهذه العطالة المزمنة. نكتفي بإشارات موجزة لأهم هذه الدواعي المعرقلة.

جدوى التكامل الاقتصادي بين بلدان المغرب العربي

يعيش العالم اليوم عصر التكتلات والتجمعات الإقليمية في سبيل التعاون والتكامل الاقتصادي مع دول الجوار، لمواجهة الصراعات والمشكلات الاقتصادية التي تعانيها بالدرجة الأولى، وتحقيق التنمية وحرية التجارة وحرية انتقال رؤوس الأموال واليد العاملة... إلخ، حيث يُفتح باب العضوية في وجه هذه التكتلات لمجموعة البلدان المتجاورة جغرافياً، والتي تمتلك مقومات متشابهة نحو الاندماج في مجموعات متراصة تربطها مصالح اقتصادية. من الأمثلة على ذلك، نجد الاتحاد الأوروبي، رابطة جنوب شرق آسيا المعروفة اختصاراً بالآسيان، وفي الأمريكتين النافتا والميركوسور، وتجمع دول شرق وجنوب أفريقيا الكوميسا وغيرها. وكلها تكتلات تبحث عن مزيد من تكاثف الجهود وتوحيد الإرادات نحو البحث عن سبل تعاون ترتقي بالاقتصاد والسياسة والأمن على مستوى تلك البلدان المتوحدة الجهود. كما كانت هناك محاولات عربية عديدة في هذا الإطار مثل: السوق العربية المشتركة سنة 1964؛ ومجلس التعاون لدول الخليج سنة 1981.

تهدف هذه الدراسة للباحثتين الجزائريتين عائشة عوار،ولطيفة بن يوب  إلى قياس تحليل تجربة جديدة في ميدان الاندماج في الوطن العربي وهي تجربة الاتحاد المغاربي من خلال محاولة الإجابة عن الإشكالية المطروحة في ما يتعلق بإمكان إحداث تكامل اقتصادي بين بلدان المغرب العربي، في ظل ما تعرفه الساحة العالمية من تشابك وتدافع وتعقيد في العلاقات الاقتصادية الدولية، والتي يحكمها منطق القوة والتكتلات الإقليمية.

انطلاقاً من هذا يمكن صوغ إشكالية البحث كما يلي: ما مدى إمكانية التكامل الاقتصادي بين دول المغرب العربي؟

في البداية تقدم الباحثتان نظرة شاملة على التكامل الاقتصادي، من خلال استعراض الطرح النظري لهذه المقولة، إذْبرزت فكرة التكامل الاقتصادي كظاهرة دولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مع الاقتصادي جاكوب فاينر (J) Viner) سنة 1950م الذي يعود إليه الفضل في وضع أساس نظرية الاتحاد الجمركي التي تمثل جوهر نظرية التكامل الاقتصادي.

إن كلمة "تكامل" (Integration) كلمة ذات أصل لاتيني بدأ استعمالها عام 1620م في قاموس أكسفورد الإنكليزي بمعنى تجميع الأشياء كي تؤلف كلاً واحداً. هذا المعنى يتفق مع المعنى الدارج لكلمة تكامل التي تدل على ربط أجزاء بعضها إلى بعض ليتكون منها كل واحد. كما تعني أنها تكميل أو التمام أو الكل التام، أما من ناحية الفعل فتدل على عملية الربط بين الأجزاء المنفصلة وتجميعها لتكون في الأخير كلاً متكاملاً.

ولقد عرف كثير من علماء الاقتصاد التكامل الاقتصادي، فعرفه بيلا بلاسا على أنه عملية وحالة؛ فبوصفه عملية يتضمن التدابير التي يراد بها إلغاء تام للحواجز الجمركية بين الوحدات الاقتصادية التابعة إلى دول قومية مختلفة، وهو كحالة لكونه يشير إلى إلغاء مختلف صور التفرقة بين الاقتصادات القطرية.

ويشير "ماخلوب" إلى أن مصطلح التكامل الاقتصادي قد استخدم بداية في التنظيم الصناعي للإشارة إلى مجمعات المشروعات الصناعية المتكاملة.ويعرف تينبرغن التكامل الاقتصادي على أساس احتوائه على جانبين سلبي وايجابي؛ فيشير التكامل في جانبه السلبي إلى إلغاء واستبعاد أدوات معينة في السياسة الاقتصادية الدولية، أما الناحية الإيجابية منه، فتشير إلى الإجراءات التدعيمية التي يراد بها إلغاء عدم الاتساق في الضرائب والرسوم بين البلدان الرامية إلى التكامل وبرامج إعادة التنظيم اللازمة لعلاج مشاكل التحول والانتقال إلى المجتمع الجديد الموحد.

ومن خلال ما سبق يمكن تعريف التكامل الاقتصادي بأنه عمل إرادي من قبل دولتين أو أكثر، يقوم على إزالة كل الحواجز والقيود أو الحواجز الجمركية والكمية على التجارة الدولية في السلع وانتقال عناصر الإنتاج، ويتضمن تنسيقاً للسياسات الاقتصادية وإيجاد نوع من تقسيم العمل بين البلدان الأعضاء بهدف تحقيق مجموعة من الأهداف التي تعظم المصلحة الاقتصادية المشتركة لكل دولة عضو، مع ضرورة توافر فرص متكافئة لكل من البلدان الأعضاء.

وترى الباحثتان أنَّهُ حتى  يتم استيعاب منهجية التكامل الاقتصادي لا بد من تسليط الضوء على أهم أشكاله العملية منها:

ـ منطقة التجارة الحرة في هذه المرحلة يلغي فيها قطران أو أكثر جميع القيود والرسوم الجمركية على تجارتهم البينية ولكن يحتفظون بتعريفاتهم الأصلية تجاه العالم الخارجي.

ـ الاتحاد الجمركي: يُعَدُّ درجة أكثر تقدماً من منطقة التجارة الحرة يتم من خلاله توحيد التعريفة للدول الأعضاء في مواجهة العالم الخارجي بعد إزالة القيود على حركة التجارة البينية.

ـ السوق المشتركة: عندها يكون قطران أو أكثر اتحاداً جمركياً ويسمحان بالإضافة إلى ذلك بحرية حركة عوامل الإنتاج ـ عمل ورأس المال ـ في ما بينها.

الاتحاد الاقتصادي هو تجمع اقتصادي يتضمن إضافة إلى إلغاء القيود على تجارة السلع وعوامل الإنتاج تنسيق السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية، إلى جانب السياسات الاجتماعية والضريبية.

لأما التكامل الاقتصادي التام فهو أرقى مرحلة من مراحل التكامل الاقتصادي، ويؤدي إلى ذوبان البنى الاقتصادية للدول الأعضاء في بنية واحدة، وذلك بإنشاء هيئة نقدية مركزية تصدر عملة موحدة تكون من صلاحيتها مسؤولية السياسة النقدية للكتلة الاقتصادية.

كانت ليبيا أولى أقطار المغرب العربي في الحصول على الاستقلال، وكان النظام الليبي أيام الملكية نظاماً مسالماً ومهادناً، وكانت علاقاته العربية جيدة، وأدى مع آخرين دوراً مهماً في دعم حرب التحرير الجزائرية، لذلك قبلت ليبيا دعوة جيرانها، ولكنها لم تقم بدور فعال في الفضاء المغاربي، تغير هذا الأمر بعد الانقلاب العسكري في العام 1969، وأصبحت ليبيا، ولعدة سنوات، المصدر الرئيسي وراء مظاهر الاضطراب في جو العلاقات المغاربية.
ومن أهم أهداف التكامل الاقتصادي الحصول على مزايا الإنتاج الكبير من خلال اتساع حجم السوق، وتشجيع الاستثمارات وإزالة كل العوائق التي تعترض حركة السلع والعمل ورأس المال، والإفادة من مهارات الفنيين والأيدي العاملة داخل منطقة التكامل، وتسهيل وتيسير عملية التنمية الاقتصادية، وزيادة المنافسة وتنويع الإنتاج وتحسين الكفاءة الإنتاجية.

رهانات النخب السياسية والمجتمع المدني

وتطرق الباحث والأستاذ الجامعي عمر التير إلى ظروف ليبيا التي تختلف حالتها عن بقية أقطار المغرب العربي، إذ لم يصلها الاستعمار الفرنسي، ولكنها خضعت لاستعمار إيطالي، ثم كانت الأولى بين هذه البلدان من حيث الحصول على الاستقلال في نهاية عام 1951، وبموجب ترتيبات من هيئة الأمم المتحدة. ولأن بريطانيا أدت دوراً مهماً في ترتيب هذا الاستقلال، كما فعلت من قبل في المشرق العربي، أصبحت ليبيا دولة ملكية، يحكمها ملك ينتمي إلى أسرة جزائرية، خرج جده من الجزائر يحمل تعليماً دينياً أهله للتفكير في ابتداع طائفة جديدة من أجل تخليص الإسلام مما علق به من شوائب.

كانت ليبيا  أولى أقطار المغرب العربي في الحصول على الاستقلال، وكان النظام الليبي أيام الملكية نظاماً مسالماً ومهادناً، وكانت علاقاته العربية جيدة، وأدى مع آخرين دوراً مهماً في دعم حرب التحرير الجزائرية، لذلك قبلت ليبيا دعوة جيرانها، ولكنها لم تقم بدور فعال في الفضاء المغاربي، تغير هذا الأمر بعد الانقلاب العسكري في العام 1969، وأصبحت ليبيا، ولعدة سنوات، المصدر الرئيسي وراء مظاهر الاضطراب في جو العلاقات المغاربية.

حصلت موريتانيا على استقلالها في العام 1960، وأعلنت جمهورية، لها رئيس استمر هذا الوضع قرابة الثمانية عشر عاماً قبل أن تصلها جرثومة الانقلابات العسكرية واليوم يحكمها عسكري هو صاحب آخر انقلاب بعنوان رئيس جمهورية منتخب، وكانت الجزائر هي آخر بلدان المغرب من حيث الحصول على الاستقلال، وقد خاض أبناؤها حرب تحرير دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، واضطرت فرنسا مرغمة على إعطائها الاستقلال، وأصبحت جمهورية برئاسة أحد زعماء التحرير ولم يمر وقت طويل قبل أن ينقلب العسكر على النظام ويستلم السلطة. وهو أول انقلاب عسكري مغاربي وكان تقليداً لما بدأته بلدان المشرق العربي ابتداء بانقلابات العراق في ثلاثينيات القرن العشرين، ثم لحقت به سوريا في نهاية الأربعينيات، وفي الخمسينيات انضمت مصر والسودان، وتوجت ليبيا انقلابات العسكر العربية في أواخر الستينيات، أقول توج الانقلاب العسكري الليبي الانقلابات العربية، لأنه منذ أيامه الأولى بدا متميزاً، وقد نشط خلال سنوات بقائه في السلطة في إثارة مختلف أنواع الفتن والاضطرابات، إلى جانب عدد كبير من محاولات الاتحاد مع آخرين، وقد شملت هذه المحاولات مصر والسودان وسوريا وتونس والجزائر والمغرب، وكانت جميعها محاولات صبيانية تعج بالتشنجات وبالأعمال غير المسؤولة.

 وأخيراً، توجت هذه الأنشطة بالإعلان عن اتحاد المغرب العربي الذي يضم الأقاليم الخمسة، ولا يحمل في الوقت نفسه من مقومات الاتحاد عدا اسمه. فهو كيان ولد بين كم كبير من المتناقضات، ومع أنه لم يحصل على شهادة وفاة بعد، لكنه يعيش حالة موت سريري بلغة الطب. المهم من الناحية الرسمية أنه يمكننا الحديث اليوم عن مغرب عربي يضم الأجزاء الخمسة، لكن لا يزال التعريف المحدود القديم موجوداً بوضوح في كتابات المثقفين الذين يتعلل بعضهم بأن البيانات عن ليبيا وموريتانيا يصعب الوصول إليها.

يطرح الباحث عمر التير السؤال التالي:هل نقول إن الاتحاد المغاربي وُلدَ جسمًاً يعاني أكثر من مرض عضال، تأتي الدولة القطرية في مقدمتها، فبعد أن وحد الكفاح ضد الاستعمار أبناء المغرب العربي، تفرقوا بعد بروز الدولة القطرية، عندما اهتم كل حاكم بتعلية وتقوية الأسوار حول الجزء الذي أصبح دولة مستقلة ذات اسم وعلم ونشيد، ثم سار قدماً مدافعاً عن هوية فرعية؟ لذلك تعمد عدد من الكتاب عند الحديث عن الاتحاد المغاربي التأكيد أنه مشروع ولد ميتاً، أو على الأقل في حالة موت سريري. لكننا نفضل أن نصفه بالقطار الذي بدأ رحلة، ثم توقف في محطة لا تحمل اسماً، ولا عنواناً، ولا تاريخاً لتحركه. ومن هنا جاء السؤال: هل يمكن لرياح الربيع العربي أن تحرك هذا القطار ليتقدم، ولو إلى مسافة محدودة؟

يبدو أن في الدولة القطرية نوعاً من الفيروسات الغريبة التي من شأنها أن تحوّل الحاكم إلى إنسان من نوع مختلف، بحيث يصبح التشبث بكرسي الحكم الهدف الرئيسي الذي يسعى إلى الحفاظ عليه إلى أن توافيه المنية. لقد كان الأمل معقوداً على تونس التي حظيت بزعيم مناضل، عاش ودرس في بلد الديمقراطية، ويفترض أنه تعلم واستبطن قيم الديمقراطية، لكن ما إن مرت فترة على تربعه على كرسي الحكم حتى أجرى تعديلاً على الدستور التونسي، بحيث يبقى الرئيس رئيساً مدى الحياة.

خاتمة

ينطلق البناء الإقليمي لاتحاد المغرب العربي من الأرضية التي تقوم عليها هذه الأنظمة  المعنية ، أي أرضية التبعية و التخلف و التجزئة، و الاستسلام لخط التسوية على الصعيد القومي. و هو كمشروع وحدة إقليمية، يحكمه منطق التعاون الجماعي المتعدد الأوجه بين هذه  الأنظمة، في محاولة لبناء وحدة فوقية من طبيعة تأليفية بين الدول الخمس لبناء لبنة المغرب العربي الكبير، يحقق السلم لهذه الأنظمة عبر حل  الأزمات المتفاقمة سياسيا ً و اقتصاديا ً و أمنيا ً، ويعمل على منع  الانفجارات غير المتوقعة، و السيطرة على بؤر التوتر، و يحمي فيه النظام القوي  النظام الضعيف.

فهو بناء إقليمي يحافظ على الخصوصيات القطرية، و لا يعمل على إزالة الحدود الموروثة من عهد التقسيم الكولونيالي، و التي دعمتها و رسختها الطبقات و النخب  الحاكمة. وهو لايعدو أن يكون محورا ً سياسيا ً مؤقتا ً محدود الأهداف، لا يلزم أطرافه بتغيير اختياراتهم  السياسية والاقتصادية، و لايقطع علاقاتهم بالإمبريالية الأمريكية، و لا يطرح موضوع الوحدة الاندماجية الكاملة التي تزيل الحدود، و هو ما طرحه العقيد القذافي مرارا ً دون أن يجد آذاناً صاغية.

من الجدير بالذكر هنا أن مفهوم القومية العربية الذي يحيل في الخطاب الأيديولوجي والسياسي في المشرق العربي  على أيديولوجية الوحدة العربية التي جسدتها كل من الناصرية والفكر البعثي، يتموقع في الخطاب السياسي المغاربي كهوية عربية معيشة. ذلك أن العروبة السياسية التي تبدو  كمرجعية قوية في المشرق العربي، نجدها في المغرب العربي مبنية بشكل أضعف.إذ لم تستطع بلورة منطقها المستقل في هذه البلدان ، لأنها ارتبطت بردود الفعل الوطني في جل مراحل تطوره.

وتتميز العروبة في بلدان المغرب العربي، و بالتأكيد لعدة عوامل، منها إخفاق التجارب القومية العربية بالمشرق، وطبيعة سلوك النخب السياسية المغاربية الحاكمة، بسمتين طبعاها بشكل واضح:

1 ـ التشبث  بالدولة الوطنية، ذلك أن النخب السياسية  التي قادت حركات التحررالوطني ضمن الشروط التاريخية و السياسية محددة لتطور حركات الاستقلال وسيرورتها في هذه البلدان  ، اتخذ وعيها القومي العربي معناه الكامل في الوعي الوطني الخاص، واضطرت إلى تفضيل الجانب الوطني .

2 ـ التلازم بين العروبة و الإسلام ، إذ تشكل هذه العلاقة  عنصرا ً يميز المغرب عن المشرق. ففي المغرب العربي يستحيل  العثور على وعي قومي  عروبي  من دون الرجوع إلى الإسلام سواء في الكتابات المغاربية في فترة ما قبل الاستعمار، أو في النصوص السياسية المعاصرة. فالأمر يسير و كأنه لا انفصام بين بعد العروبة و الإسلام في الخطاب السياسي المغاربي.

إن الميتودولوجيا  المغاربية للوحدة  تقوم على التدرجية، ذلك أن الخطابات السياسية المغاربية مرحلية في عمقها و منطقها . و مع ذلك استبشرت  الجماهير العربية خيرا ً لولادة هذا الاتحاد المغاربي، الذي يشمل المنطقة من حدود ليبيامع مصر،إلى نهر السنغال. و في هذا الاتحاد دولتان  مهمتان ، من حيث الموقع وعدد السكان، هما المغرب و الجزائر. فقد حاولت الجزائر أن تلعب الدور الرئيس في اتحاد المغرب العربي، إلا أنها لم تتمكن من ذلك ، لتخلف قيادتها السياسية، و ضعف جيشها، و اضطراب وضعها الاقتصادي، و دخولها في أتون حرب أهلية طاحنة طيلة عقد التسعينيات بين العسكر والأصولية الإسلامية ، و إن كان  النظام المغربي، الأدهى سياسيا ً لم يستطع الفوز بالسبق، بسبب تفاقم مشكلاته الاقتصادية، و عدم رغبته في تنمية قواته العسكرية، و عدم قدرته عليها ،إضافة إلى قضية الصحراء الغربية التي تمثل عقدة الاستعصاء في تطبيع العلاقات الجزائرية ـ المغربية.

لقد قام الاتحاد المغاربي، والحركة الشعبية مقموعة، والأحزاب والقوى السياسية مسلمة لقياداتها، و الحركة القومية العربية منيت بهزيمة تاريخية عادلة، وبالتالي، فإن الحركة الشعبية وقوى ومنظمات المجتمع المدني لا تستطيع أن تدعي  أنها أسهمت الآن في فرض قيام مثل هذا التجمع الإقليمي، أو أن لها برامج لتطويره.

إن شهر العسل هذا المرتبط بقيام اتحاد المغرب العربي،  لم يطل إلا قليلا ً مع اندلاع الصراع بين بعض الأنظمة المغاربية  والحركات الإسلامية الأصولية، و فرض الحصار الدولي على الجماهيرية بسبب أزمة لوكربي، و بلوغ أزمة العلاقات بين المغرب و الجزائر  حالة الاختناق القصوى بتمادي الجزائر في خلق الفرص وافتعال الذرائع بشأن قضية الصحراء الغربية، ما يعني أن قضية توتر العلاقات المغاربية  أصبحت تشكل الخطر الكاسح، وأن الحديث عن المغرب العربي الكبير أصبح حديث خرافة، وأن هذا الاتحاد دخل مرحلة الموت السريري ويوشك أن يلفظ أنفاسه في غيبة أسرته التي تشتت شملها نتيجة التلاعب بمصير الوحدة المغاربية الذي كان حلم الجماهير في كل بلدان المغرب العربي أيام الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي.

وهناك إجماع لدى الباحثين والدارسين والسياسيين في منطقة المغرب العربي ، يؤكد  أن أسباب إخفاق التجربة الوحدوية لبلدان المغرب العربي تعود بالأساس إلى  العوامل التالية :

ـ غياب الإرادة السياسية والاستقالة التي تعيشها النخب المغاربية عن  وظيفتها النقدية  .

ـ انعدام حرية الرأي و التعبير، فقد حُكِمت بلدان المغرب العربي منذ الاستقلال بشكل فيه الكثير من التعسف و منع لحرية التعبير، وهو ما جعل أغلبية المجتمعات العربية تعلن استقالتها من المشاركة في تدبير الشأن العام .

ـ عدم توفر قادة المغرب العربي على الإرادة السياسية اللازمة للقيام بهذه الخطوة ، ولعل الصراع على زعامة المغرب العربي بين القيادات التاريخية التي حصلت على الاستقلال - بورقيبة الحسن الثاني أولا ً، وبين الحسن الثاني وهواري بومدين ثانيا، وبين قيادات شابة تميل إلى الثورية وتسعى إلى "تصدير " تصوراتها المجتمعية ـ القذافي ـ ثالثا، قد لعب دورا ً مهما ًفي تأخير نشوء هذا الاتحاد.

إن مشكلة وحدة المغرب العربي ليست مشكلة عيب التركيب الديني أو الثقافي الخاص بالعروبة، بل مشكلة النخب السياسية الحاكمة التي أصبح همها الرئيس هو الاندراج في قنوات النظام الدولي الأمريكي بانضباط محكم للإستمرار في الحكم دون غاية غيرها.
ـ اختلاف المسارات التي عرفتها بلدان المغرب العربي بعد الاستقلال ، ففي حين اتجهت بعض البلدان شرقا ً إلى الاتحاد السوفييتي ـ ليبيا والجزائر ـ اتجهت بلدان أخرى غربا ً ـ تونس والمغرب ـ بل إن هذه الثنائيات نفسها عرفت صراعا ً كبيرا ً أو على الأقل هي لم تستطع أن توجد اتفاقا ً فيما بينها . فالصراع بين فرنسا وأمريكا على المنطقة انعكس في خلاف بين المغرب و تونس . كما أن البلدان التي اختارت أن تتجه شرقا ً لم تتمكّن من توحيد تصوراتها المجتمعية فشهدنا نظاما ً أقرب إلى هيمنة الأحزاب الستالينية في الجزائر في حين كانت ليبيا تعيش تجربة " الجماهيرية".

-إن القيادات السياسية المغاربية لم تكن واعية تماما بأهمية المشروع الوحدوي المغاربي.والحال هذه، ظلت  العلاقات بين بلدان المغرب العربي مرتبطة إلى حد اليوم بطبيعة تلك القيادات السياسية ،وحالاتها،وانفعالاتها ،وهو ما يجعل القرارات السياسية بل النظم السياسية نفسها تتماشى حسب مخيّلات وخيارات تلك القيادات. وهذا يعود بالأساس إلى غياب المؤسسات .

و كان من نتائج حالة الانغلاق السياسي وانعدام الحريات هروب عدد كبير من الكفاءات التي كان من المفترض أن تتحمل عبء التطوير و التغيير في بلدان المغرب العربي.

إن مشكلة وحدة المغرب العربي ليست مشكلة عيب التركيب الديني أو الثقافي الخاص بالعروبة، بل مشكلة النخب السياسية الحاكمة التي أصبح همها الرئيس هو الاندراج في قنوات النظام الدولي الأمريكي بانضباط محكم للإستمرار في الحكم دون غاية غيرها. و هي نخب لا تشعر بأي نوع من الانتماء للعروبة السياسية،إسلامية كانت أم علمانية.ثم إن معظم الطبقات والفئات  التي ظهرت في الجزء الثاني من القرن العشرين لتحكم المغرب العربي باسم شرعية قيادة حركة التحرر الوطني ، لم تتمكن من كسب الحد الأدنى من الشرعية الديمقراطية تجاه شعوبها لفقدان الإنجازات الحقيقية في تحقيق الديمقراطية ، و بناء دولة الحق و القانون بالتلازم مع بناء المجتمع المدني الحديث. كل هذا لم يتحقق ، بل حصل عكسه تماما ً، أي بناء الدول التسلطية، وهبوب رياح القوميات القطرية الاصطناعية التي باتت تشكل "جدارا ً حديديا ً" يفصل بين بلدان المغرب العربي.

إقرأ أيضا: ظل الأيدي المغاربية.. قراءة خاصة لمعوقات بناء وحدة المغرب العربي.. كتاب جديد