الكتاب: "الكتّاب في العصر العباسي
الأول: دراسة في النظم والثقافة والمجتمع"
الكاتبة: عفاف عبد الحفيظ محمد رحمه
الناشر: دار آريثيريا، ط1، الخرطوم 2021.
عدد الصفحات: 221 صفحة
ـ 1 ـ
كان لطبقة الكُتّاب في العصر العباسي الأول
أهمية بالغة سياسيا وثقافيا واجتماعيا.. فقد تولوا كتابة الوثائق الرسمية
والدواوين والرسائل والفرمانات ومثلوا امتداداً عملياً للسلطة وجسراً يصلها
بالحياة اليومية في الآن نفسه. ولأنهم كانوا مثقفين متعلمين يجيدون اللغة العربية
والعلوم الإدارية جعلوا المكتوب الوسيلة الأساسية للحكم وإدارة الدولة في فضاء
ثقافي أساسه المشافهة. وارتقوا في مدارج السياسة. فأصبح بعضهم مستشارين سياسيين
وناطقين باسم الخلفاء. وأسهموا في نقل المعرفة من خلفيات متنوعة، مثل الترجمة عن
الفارسية والهندية واليونانية، وإجمالا كان لهم دور في نهضة العلوم في بغداد.
تنزع الباحثة إلى الوصف التاريخي على حساب التحليل النظري الذي يبحث في الدوائر الوسائطية في نقل المعرفة وتطويرها. وتهمل المقاربة الاقتصادية والاجتماعية الحديثة. وميل إلى الاطمئنان إلى النقل دون نقد الروايات. ومع ذلك ورغم هذه الهنات يمكن أن نعدّ أثرها "الكتّاب في العصر العباسي الأول: دراسة في النظم والثقافة والمجتمع" عملا جادّا ومتينا يجمع بين المنهج التاريخي الكلاسيكي واللمسة الثقافية التحليلية ويسدّ فراغًا واضحًا في دراسة الفكر الإداري الإسلامي.
ولكونهم مثلوا "العقل الإداري
والثقافي" للدولة جعلتهم د. عفاف عبد الحفيظ محمد رحمه موضوع دراسة قيمة من
منظور حضاري شامل يجمع بين النظم الإدارية، والثقافة، والمجتمع. فاتبعت منهجًا
تحليليًا تاريخيًا مقارنًا، يمزج بين السرد والتحليل، ويستند إلى المصادر الأصلية
مثل الجهشيارى، الطبري، ابن خلدون، الثعالبي، والمسعودي، مؤكدة أن دراسة الدولة
العباسية لا تكتمل إلا بفهم دورهم. وقسّمت أثرها إلى أربعة فصول مترابطة هي تطور
الكتابة والوزارة، وصلاحيات ونكبات الوزراء، والتثاقف والترجمة والتأليف، وطبقة
الكُتّاب في المجتمع العباسي.
ـ 2 ـ
في الفصل الأول من أثرها استعرضت الباحثة
نشأة الكتابة والدواوين في الدولة الإسلامية حتى العصر العباسي الأول. فسلطت الضوء
على تحول الكتابة من أداة إدارية بسيطة إلى صناعة فنية وسياسية متكاملة. وأبرزت
أنّ اتساع الدولة وتعدد شؤونها تطلب إنشاء دواوين متخصصة، كديوان الجند والخراج
والرسائل، لتنظيم المال والشؤون العسكرية والمراسلات الرسمية. وتلاحظ أن
"الكتابة لم تكن مجرد تسجيل، بل فنّ متقن[كذا] يُنشئ به رجال الدولة نظمها
الإدارية" (ص 65)، وهذا ما يرر تحوّل الكُتّاب إلى نواة الإدارة العباسية
ومصدرًا للنفوذ الاجتماعي والسياسي. وكانوا مؤهلين لهذه المنزلة، باعتبار انتمائهم
إلى الخاصّة المثقفة التي تجمع بين البلاغة والدقة، والمعرفة الشرعية والسياسية،
واستعدادهم المسبق لهذا الدور. فـ"ـالكاتب الصالح يجمع بين البلاغة والفطنة،
ليكون مؤهلاً للقيام بمهام الدولة" (ص 67).
وكثيرا ما كانت الكتابة مرقاة للتدرج في
السلّم الاجتماعي والسياسي. فلما تتطلّب هذه الوظيفة من الدّقة والكفاءة والفطنة
ارتقى المميزون منهم إلى رئاسة الديوان. ثم نشأت استجابة لحاجة الخلفاء إلى
معاونين في الحكم والإدارة، فكانت امتدادًا طبيعيًا لتطور الكتابة، إذ كان الخلفاء
يستعينون برجال ثقة من الكُتّاب قبل أن يُعرف منصب الوزير رسميًا وقبل أن تنقسم
الوزارة إلى نوعين: وزارة التفويض التي تمنح الوزير صلاحيات واسعة، ووزارة التنفيذ
التي يقتصر دور الوزير فيها على تنفيذ أوامر الخليفة. وتعرض الباحثة عفاف عبد
الحفيظ محمد رحمه العلاقة بين الوزارة والخلافة في هذه المرحلة فتقول:
"الوزير حلقة الوصل بين الخليفة والدواوين، بين السياسة والتنظيم، وبين السيف
والقلم" (ص 70).
ويصادر هذا الفصل على أنّ الكُتّاب والوزراء
معًا قد شكّلوا أساس البيروقراطية العباسية، فارتبطت الكتابة بالوزارة ارتباطًا
وثيقًا، وكانت آلياتها وأدواتها، من النسخ إلى صياغة المراسلات الرسمية، مرآة
لتطور الدولة ونضجها الإداري. ومن هنا يمكن القول إن مؤسسة الكتابة والوزارة أسستا
قاعدة ثابتة لإدارة الدولة العباسية، وجسّدتا تفاعل الفكر السياسي مع الممارسة
التنظيمية.
ـ 3 ـ
في الفصل الثاني المعنون بـ"ـصلاحيات
ونكبات الوزراء" سعت الباحثة إلى تحليل سلطة الوزراء في العصر العباسي الأول.
فعرضت الصلاحيات الواسعة التي مُنحت لهم في إدارة الدولة، التي غالبت ما قادتهم
إلى نهايات مأساوية عرفت بــ"ـالنكبات". فأشارت إلى المكانة المحورية
التي احتلها الوزراء في بنية الدولة العباسية. وتبنت أطروحة مدارها على أنّ
الوزارة لم تكن مجرّد وظيفة إدارية، بل مثلت مركزَ ثقلٍ سياسي يجمع بين القلم
والسيف، وبين المشورة والتنفيذ. فقد كان الوزير يتولى إدارة الدواوين والإشراف على
الجباية والمراسلات. وكان ينسّق علاقات الدولة الداخلية والخارجية.
وإجمالا كان
يمثّل الذراع التنفيذية الأولى للخليفة. ومع اتساع الدولة، مُنح الوزراء سلطات شبه
مطلقة، فاقترب بعضهم من مرتبة الخليفة نفسه، وهذا ما جعل المنصب محفوفًا بالمخاطر
السياسية وجعل الخلفاء يخشون تعاظم نفوذ وزرائهم، فيلجؤون إلى الإقصاء أو الاغتيال
فيما عُرف في المصادر بـ"ـنكبات الوزراء".
من هؤلاء الوزراء المنكوبين أبو سلمة
الخلال، أول وزراء الدولة العباسية. فقد أسهم في تثبيت أركان الحكم بعد قيام
الدولة سنة 132هـ، غير أنّ طموحه في توسيع صلاحياته وصلات محتملة ببعض العلويين
أوقعاه في خلاف مع المنصور، فانتهى مقتولًا، في أولى صور الصراع بين الوزير
والخليفة. ومنهم يعقوب بن داود وزير المهدي، الذي عُرف هذا الكاتب الفارسي بثقافته
واعتداله. لكن دعمه للموالي الفرس أثار الشبهات حوله، فكانت نكبته وسجنه رمزًا
لتوجّس الخلفاء من كل نفوذٍ غير عربيٍّ في البلاط.
وتتخذ تجربة البرامكة موقعًا محوريًا في هذا
السياق؛ فقد بلغ يحيى بن خالد البرمكي وابنه جعفر ذروة النفوذ في عهد الرشيد،
فأدارا الدولة بمهارة، ووسّعا سلطان الإدارة والعلم. وتضخم نفوذهما المالي والفكري
مما عجّل بنكبتهما سنة 187هـ، في لحظةٍ كشفت هشاشة العلاقة بين الخلافة ووزرائها
الأقوياء. تقول عفاف عبد الحفيظ محمد رحمة إنّ "نكبة البرامكة لم تكن حادثًا
طارئًا، بل نتيجة طبيعية لتنازع السلطتين السياسية والإدارية في بنية الحكم
العباسي" (ص 84).
وتختم الباحثة فصلها بسيرة الفضل بن سهل
وزير المأمون، الذي جمع بين وزارة السيف والقلم، فصار شريكًا فعليًا في إدارة
الدولة، وأسهم في تولية علي بن موسى الرضا ولاية العهد. لكنه انتهى قتيلًا إثر
مؤامرات البلاط، دلالةً على أنّ سلطة الوزير مهما اتسعت، تبقى مرهونة بحدود الثقة
السياسية. وهكذا تكشف نكبات الوزراء، كما ترى الباحثة، عن طبيعة النظام العباسي
الذي سعى دومًا إلى ضبط توازنٍ هشٍّ بين مركزية الخلافة وطموح رجالها الأقوياء (ص
90).
ـ 4 ـ
مثل التثاقف والترجمة والتأليف دعائم أساسية
في تشكّل الوعي الحضاري العباسي، وفق الفصل الرابع من أثر " الكتّاب في العصر
العباسي الأول". فلئن غلب الطابع الفارسي على بنية الإدارة العبّاسية
وأساليبها منذ نشأة الدولة، فإن هذا التأثير لم يكن استلابًا ثقافيًا بقدر ما مثّل
اندماجًا خلاقًا، جمع بين روح التنظيم الفارسية والعقل العربي الإسلامي. ومن منطلق
هذه القناعة تشير عفاف عبد الحفيظ محمد
رحمه إلى أنّ «العباسيين لم يأخذوا عن الفرس نظمهم الإدارية فحسب، بل أخذوا عنهم
تقاليد الكتابة ومظاهرها الشكلية» (ص 65). وهكذا وُلدت ثقافة ديوانية جديدة أعادت
صياغة مفهوم السلطة والمعرفة معًا.
برزت حركة الترجمة بوصفها الامتداد الأوسع
لذلك التثاقف. فقد رعَى الخلفاء والوزراء العلماء والمترجمين لنقل علوم الفرس
واليونان والهند إلى العربية ولاستيعابها والإفادة منها. فـ"ـبيت الحكمة في
عهد المأمون لم يكن دار ترجمة فحسب، بل كان دار تفكير وإبداع" (ص 68). وهذا
ما يفسّر الطابع الخلّاق لتلك الحركة التي تجاوزت النقل إلى إعادة إنتاج المعرفة
ضمن أفق إسلامي إنساني. وقد تصدّر ابن المقفع هذا المشهد بترجمته كليلة ودمنة
وتأليفه الأدب الكبير والأدب الصغير، اللذين رسّخا نوعًا جديدًا من الأدب السياسي
التعليمي عُرف لاحقًا بــ"ـمرايا الأمراء" أو الآداب السلطانية.
التثاقف العباسي لم يكن مجرد انتقال للمعارف، بل كان فعلًا حضاريًا مركّبًا جمع بين الإدارة والفكر، بين الديوان والكتاب، فأسّس لنهضة عقلية جعلت من بغداد مركز العالم الإسلامي ومختبرًا للتفاعل بين الثقافات، بحيث صيغت هوية معرفية جامعة تقوم على الحوار بدل الانغلاق، وعلى الإبداع عوضا عن التبعية.
ومثّل إدخال صناعة الورق إلى بغداد في منتصف
القرن الثاني الهجري محور اهتمام الباحثة في هذا الفصل. فعدّته من أهمّ مظاهر
النهضة الفكرية. فـ"تبدّلت صورة التأليف والقراءة بظهور الورق، فانتشرت الكتب
والمكتبات، ونشأت مهنة الوراقة بما تفرّع عنها من النسخ والتصحيح والتجليد» (ص
73). فصار الكتاب وسيلة لتداول الفكر، لا حكرًا على النخبة، وتهيّأت بذلك بيئة
اجتماعية تحتضن التأليف وتُثريه.
وهكذا يتضح أن التثاقف العباسي لم يكن مجرد
انتقال للمعارف، بل كان فعلًا حضاريًا مركّبًا جمع بين الإدارة والفكر، بين
الديوان والكتاب، فأسّس لنهضة عقلية جعلت من بغداد مركز العالم الإسلامي ومختبرًا
للتفاعل بين الثقافات، بحيث صيغت هوية معرفية جامعة تقوم على الحوار بدل الانغلاق، وعلى الإبداع عوضا عن التبعية.
ـ 5 ـ
يختتم الأثر فصوله باستعراض هذا البنية
الاجتماعية والثقافية لمدينة بغداد في العصر العباسي الأول، مركز العلم والسياسة
والحضارة، مسلطًا الضوء على طبقة الكُتّاب التي برزت باعتبارها فئة وسطى بين
الخلفاء والعامة. فقد شكّلت هذه الطبقة جسرًا بين السلطة والمجتمع، وأمكن لها ان
تجمع بين العلم والوجاهة والثروة، وأن تسهم بفاعلية في تشكيل الذوق العام، ورعاية
الأدب والعلم، وربط الخلفاء بالشعراء والمفكرين.
كان الكُتّاب الذين "شكلوا نواة مجتمع
البيروقراطية البغدادية، متجاوزين حدود الدواوين لتأثيرهم في الذوق والسياسة" (ص
102) يعيشون في بيئة علمية غنية ومتنوعة، تجمع العرب والفرس وغيرهم من الأعراق،
مما أسهم في نشوء ثقافة هجينة متطورة. وقد أسست الدواوين قاعدة هذا المجتمع
البيروقراطي، فيما ظهرت عائلات تورّث المهنة مثل البرامكة وبني سهل، فغدت الكتابة
في بعض البيوت حكرًا يعزز مكانتها الطبقية. وتشير الباحثة إلى أنّ "استمرار
العائلات في حرفة الكتابة ساهم في ترسيخ نفوذهم الاجتماعي والسياسي" (ص 105).
تميزت حياة الكُتّاب بالرقي والترف، فكان
لهم لباس خاص ومجالس أدبية راقية لتبادل العلم والشعر والرسائل. واستخدموا الرسائل
الإخوانية للتواصل الثقافي والاجتماعي، فشكلت مصدرًا مهمًا لتوثيق الحياة اليومية
في بغداد، ورفعت مستوى النثر الفني. كما لعب الوزراء دورًا تكامليًا في دعم
الكُتّاب والأدباء، فكانت مجالسهم ملتقى للمفكرين والشعراء، وعززوا تطور الشعر
السياسي والمدائحي عبر الهبات والمكافآت، وهو ما يعكس تلاقي السلطة والثقافة في
قلب الدولة العباسية (ص 108).
يخلص الفصل إلى أن الكُتّاب والوزراء معًا
شكّلوا جوهر النشاط الحضاري في بغداد، إذ أسهموا في صوغ الهوية الثقافية للعاصمة،
وارتبطوا ببناء مجتمع متوازن يجمع بين الإدارة والفكر، وبين الوظيفة والثقافة،
فصاروا مرآة لتكامل الفكر والسلطة، ورمزًا للعقل الحضاري الذي صاغ وجه بغداد في
ذروة ازدهار الدولة العباسية.
ـ 6 ـ
تنزع الباحثة إلى الوصف التاريخي على حساب
التحليل النظري الذي يبحث في الدوائر الوسائطية في نقل المعرفة وتطويرها. وتهمل
المقاربة الاقتصادية والاجتماعية الحديثة. وميل إلى الاطمئنان إلى النقل دون نقد
الروايات. ومع ذلك ورغم هذه الهنات يمكن أن نعدّ أثرها "الكتّاب في العصر
العباسي الأول: دراسة في النظم والثقافة والمجتمع" عملا جادّا ومتينا يجمع
بين المنهج التاريخي الكلاسيكي واللمسة الثقافية التحليلية ويسدّ فراغًا واضحًا في
دراسة الفكر الإداري الإسلامي.