كتب

الكيان الصهيوني والبيت الأبيض.. قراءة تاريخية في علاقة غير عادية.. كتاب

انتشار الصهيونية غير اليهودية في الأوساط الإنجلوسكسونية (فئة الواسب): وهذه الفئة هي أقوى المجموعات الإثنية المسيطرة في الولايات المتحدة، التي ينتمي إليها معظم الرؤساء الأمريكيين..
الكتاب: الكيان الصهيوني من التأسيس إلى الأزمة
الكانب: محمد رشاد الشريف
الناشر:د ار كنعان للدراسات و النشر والتوزيع-دمشق، الطبعة الأولى 2012، (عدد الصفحات 219 من القطع المتوسط)


هذا هو الجزء الأول من قراءة خاصة بـ "عربي21" يقدمها الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني لكتاب "الكيان الصهيوني من التأسيس إلى الأزمة" للكاتب محمد رشاد الشريف، والصادر عن دار كنعان للدراسات والنشر والتوزيع بدمشق عام 2012. يسلط المديني الضوء على العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، بوصفها عنصراً مركزياً في فهم نشأة الكيان الصهيوني واستمراره، كما يشير إلى أن هذه العلاقة تشكل علة من علل وجوده وشرطاً أساسياً لبقائه ونموه، ما يجعل أي تحليل للصراع العربي الصهيوني لا يستقيم دون تناول هذا البعد الحيوي.

يركز الجزء الأول من القراءة على البنية الثقافية والسيكولوجية والعوامل السياسية التي أسست لهذه العلاقة الاستراتيجية، بدءًا من الانتماء المشترك للمجتمعين الأمريكي والصهيوني إلى الغرب، مروراً بالدور المؤثر للتيارات البروتستانتية واللوبي الصهيوني داخل النظام السياسي الأمريكي، وصولاً إلى التأثير المتبادل بين المعتقدات الدينية والسياسات الأمريكية في دعم الكيان الصهيوني، وهو ما يفسر استمرار الهيمنة الإسرائيلية على القرارات الأمريكية في المنطقة.


علة وجودية

على كثرة ما كتب عن علاقة الكيان الصهيوني بالولايات المتحدة فإنه لا يستقيم حديث عن هذا الكيان ونموه وتطوره، وما هو عليه اليوم، دون التعرض إلى هذه العلاقة التي تشكل علة من علل وجوده وشرطاً أساسياً من شروط استمراره وبقائه. فمن نافل القول أن العلاقات التي تقوم بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، منذ بداية وجود هذا الكيان، ومنذ بدايات المشروع الصهيوني، علاقة غير عادية تختلف عن العلاقات التي تقوم بين الدول، ومن الأهمية بمكان النظر في التطور التاريخي لهذه العلاقات، والأسس والبنية التي قامت عليها، من أجل رؤية أكثر دقة وموضوعية للصراع العربي الصهيوني، وآفاق تطوره، ما دامت هذه العلاقات تشكل عنصراً أساسياً من عناصره.

ومما يعطي هذا الموضوع أهمية وراهنية وصول هذه العلاقة إلى مستوى، يثير الدهشة، بحيث صار يتجلى بشكل سافر في المرحلة الحالية، أن القادة الصهاينة هم الذين يملون على الإدارة الأمريكية سياستها، تجاه الصراع العربي الصهيوني والمنطقة العربية، وهو ما ظهر بشكل فجٍ، خلال حرب الإبادة الجماعية الأمريكية-الصهيونية على قطاع غزة طيلة سنتين، حيث ظهر وكأن نتنياهو هو رئيس الدولة العظمى والرئيس الأمريكي ترامب هو رئيس الدولة الصغرى التابعة، الذي تحول إلى الناطق الرسمي باسم الحكومة الصهيونية الفاشية، وليؤكد أنَّ أمن "إسرائيل" أولوية قصوى للولايات المتحدة، ووصل الأمر ذروته، حين وقف أعضاء الكونغرس مصفقين لنتنياهو وهو يلقي خطابه أمامهم، في كل زيارة يقزم بها إلى واشنطن ، وهو تبجيل لا يحظى به رئيس أمريكي، ولا يلقاه نتنياهو في الكنيست الصهيوني نفسه..!

رغم أنَّ الكيان الصهيوني منذ نشأته اعتمد على الدول الأوروبية (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا الغربية..) في مرحلة معينة، لتقديم الدعم المالي والعسكري المباشر له، غير أنَّ حرب حزيران سنة 1967، وهزيمة الأنظمة القومية العربية في تلك الحرب، هي التي أقنعت الولايات المتحدة بشكل قوي إلى أن تصبح علاقاتها مع الكيان الصهيوني عضوية واستراتيجية، وكما يقول المفكر الاقتصادي المصري الراحل فؤاد مرسي: صارت الولايات المتحدة منذ حرب حزيران 1967، المصدر الرئيسي للأموال الأجنبية على مختلف أشكالها، من تبرعات وقروض واستثمارات إلى "إسرائيل".
في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: "الكيان الصهيوني من التأسيس إلى الأزمة"، المتكون من مقدمة وأربعة فصول، والصادر عن دار كنعان للدراسات و النشر والتوزيع بدمشق عام 2012، ويتضمن 219صفحة من القطع المتوسط،يركز الكاتب على الدعم والتأييد الأمريكي الذي حظي به الكيان الصهيوني، في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، منذ بدايات وجوده، بل منذ بدايات المشروع الصهيوني كله، وكان سبباً أساسياً من أسباب وجوده، وتطوره ونموه وازدهاره وتجاوزه كل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي مر بها في تاريخه. وقد لعبت الولايات المتحدة بالنسبة للكيان الصهيوني ككيان استعماري استيطاني، دور الدولة الأم الراعية، التي أمنت له الحماية والرعاية، والتفوق العسكري النوعي على البلدان العربية مجتمعة.

بنية وأسس العلاقة الأمريكية ـ الإسرائيلية

رغم أنَّ الكيان الصهيوني منذ نشأته اعتمد على الدول الأوروبية  (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا الغربية..) في مرحلة معينة، لتقديم الدعم المالي والعسكري المباشر له، غير أنَّ حرب حزيران سنة 1967، وهزيمة الأنظمة القومية العربية في تلك الحرب، هي التي أقنعت  الولايات المتحدة بشكل قوي إلى أن تصبح علاقاتها مع الكيان الصهيوني  عضوية واستراتيجية، وكما يقول المفكر الاقتصادي المصري الراحل فؤاد مرسي: صارت الولايات المتحدة منذ حرب حزيران 1967، المصدر الرئيسي للأموال الأجنبية على مختلف أشكالها، من تبرعات وقروض واستثمارات إلى "إسرائيل".

وفي ضوء هذا المستوى غير المسبوق في العلاقات الدولية، الذي وصلت إليه العلاقة بين أمريكا و"إسرائيل"، يطرح الكاتب محمد رشاد الشريف االسؤال التالي: ما هي طبيعة بنية هذه العلاقات، وما هي الأسس التي تقوم عليها، وجعلتها في هذا المستوى..؟؟.

ويحدِّدُ الكاتب العوامل المؤثرة

أولاً ـ المستوى المتصل بالبنية الثقافية السيكولوجية

المنشأ الاستعماري الاستيطاني المشترك والذي يتصل بطبيعة نشأة كلا المجتمعين الأمريكي والصهيوني، من المستوطنين المهاجرين، وينعكس في النهج البراغماتي، في النظر إلى الوقائع السياسية، فالمجتمع الأمريكي الذي قام على الهجرة والاستيطان وارتكب في تاريخه المجازر العنصرية الرهيبة، ضد السكان الأصليين من الهنود الحمر، لا ينظر في قطاعه الأوسع الإنجلو سكسون، وذوي الأصل الأوروبي عامة إلى الاحتلال والاستيطان الصهيوني، على حساب شعب فلسطين، كجريمة أو اغتصاب أو عدوان، بل ينظر إلى الواقع القائم حالياً، ويحاول إضفاء الشرعية عليه، على خلاف النظرة الحقوقية والمبدئية والتاريخية، التي تنظر بها الشعوب العربية والإسلامية، ومعها الآسيوية والإفريقية، إلى هذه القضية. وفي الوقت نفسه فإن المنشأ الاستعماري الاستيطاني للمجتمع الأمريكي الإنجلو سكسون بوجه خاص، لديه عناصر ثقافية وأيديولوجية وسيكولوجية، تشبه الصهيونية: رسالة الرجل الأبيض، العنصرية، ومقولات التفرد والهيمنة.. تجعله يقبل ويسوغ مقولاتها العنصرية، حول أرض الميعاد وشعب الله المختار.

الشعور المشترك بالانتماء إلى الغرب: وهو الذي ينطلق من اعتبار أن الصهاينة ينتمون إلى الغرب، بما يختزنه هذا الغرب من روح استعلائية عدائية، تجاه العرب والمسلمين، وشعوب الشرق عموماً، والتي تعود إلى النزاعات التي جرت عبر التاريخ بين الطرفين، وعلى احتكار العرب والمسلمين في السابق لدور الوسيط الإجباري لعلاقات الغرب بالعالم حسب قول د. سمير أمين، الذي يقول أيضاً: إن الأوروبيين عملوا باكراً على كسر هذا الاحتكار، ومنع قيام وحدة عربية قادرة على مواجهة تحدي العصر.

ويجري تعزيز هذا الشعور، من خلال الترويج الواسع في الولايات المتحدة والغرب عموماً، لمزاعم أن إسرائيل المنتمية للغرب، هي الديمقراطية الوحيدة، التي تملك نظاماً انتخابياً حراً، وتعددية سياسية واسعة، في الشرق المتخلف الذي تحكمه، أنظمة استبدادية، وأنها تمثل الامتداد الحضاري للغرب المتقدم بوجهه الإنساني، وبالتالي فهي تستحق الدعم والإسناد، وكما يقول أ. روزنتال: حتى خصوم إسرائيل يعرفون أنها تحكم نفسها، وفق قواعد ومعايير ديمقراطية لا مثيل لها في أي مكان في الشرق الأوسط، وبدون هذه المقاييس التي تفرضها على نفسها، ما كانت لتستحق كل هذا الدعم والتعاطف، الذي لا تحصل عليه أية دولة أخرى في العالم.

انتشار الصهيونية غير اليهودية في الأوساط الإنجلوسكسونية (فئة الواسب): وهذه الفئة هي أقوى المجموعات الإثنية المسيطرة في الولايات المتحدة، التي ينتمي إليها معظم الرؤساء الأمريكيين، وتسيطر على مفاصل الاقتصاد الأمريكي، من خلال السيطرة على الصناعات الاستراتيجية، والاحتكارات والفعاليات الاقتصادية الكبرى في الولايات المتحدة.

وفي هذه الأوساط تنتشر معتقدات دينية تلتقي مع الدعوات الصهيونية لإعادة اليهود إلى فلسطين، وتقول أن عودة المسيح المخلص: مرتبطة بهذه العودة، والتي تنشط لها الكنائس الإصلاحية البروتوستانتية، التي يتبعها عشرات الملايين من الأمريكيين. وكما يقول د. هيرمان إيليت سفير الولايات المتحدة السابق في مصر: إن التأييد الأكبر لإسرائيل هو وسط الطائفة البروتوستانتية والكنائس الإصلاحية في الولايات المتحدة.

الشعور المشترك بالانتماء إلى الغرب: وهو الذي ينطلق من اعتبار أن الصهاينة ينتمون إلى الغرب، بما يختزنه هذا الغرب من روح استعلائية عدائية، تجاه العرب والمسلمين، وشعوب الشرق عموماً، والتي تعود إلى النزاعات التي جرت عبر التاريخ بين الطرفين، وعلى احتكار العرب والمسلمين في السابق لدور الوسيط الإجباري لعلاقات الغرب بالعالم حسب قول د. سمير أمين، الذي يقول أيضاً: إن الأوروبيين عملوا باكراً على كسر هذا الاحتكار، ومنع قيام وحدة عربية قادرة على مواجهة تحدي العصر.
التعاطف الذي يبديه الغرب والأمريكيون مع اليهود كضحايا للكارثة وهو يأتي كنوع من الشعور بالذنب تجاه اليهود بسبب ما تعرضوا له في فترات مختلفة من التاريخ الأوروبي، من الاضطهاد لأسباب ترتبط بالمهنة والوظيفة الاقتصادية واشتغالهم بالربا والتجارة، الذي تطلق عليه الصهيونية اللاسامية، وما روجته الحركة الصهيونية من أن اليهود هم أكبر ضحايا النازية في القرن العشرين، ووصمها مع أنصارها، من ينتقد الكيان الصهيوني بمعاداة السامية.

وبالإجمال فإن هذه العوامل المتصلة بالبنية الثقافية والسيكولوجية، والمزاج السياسي العام للمجتمع الأمريكي، وطبيعة وعيه، ومعتقداته، وروح الاستعلاء العنصرية، التي تسيطر على قطاعات واسعة منه، تحتاج إلى زمن طويل، ومتغيرات كبرى داخلية وخارجية لتتغير نحو وعي أكثر واقعية وإنسانية وعدلاً، في النظرة إلى القضية الفلسطينية، والصراع العربي الصهيوني.

ثانياً ـ المستوى المتصل ببنية النظام السياسي الأمريكي ودور اللوبي الصهيوني فيه

وهو ما يتصل بالنظام السياسي الأمريكي، القائم على احتكار السلطة السياسية، من قبل الحزبين الرئيسيين، الجمهوري والديمقراطي، والذي تكون في أواسط القرن الثامن عشر، في سياق الصراع بين المستوطنين البيض والهنود الحمر، وبين المستوطنين أنفسهم، وتوسع الولايات المتحدة، وتوطيد سلطتها غرباً وجنوباً، ضمن مناهج الإخضاع والاحتواء للسكان الأصليين، والخليط المتنوع من المهاجرين البيض والسود، لصالح هيمنة القوى الرأسمالية الصاعدة التي تحولت إلى رأسمالية احتكارية ذات طابع إمبريالي في القرن العشرين، ووصلت إلى زعامة النظام الاستعماري العالمي، بعد الحرب العالمية الثانية.

وهذا النظام لا يقوم فقط على تنافس الحزبين الرئيسيين على مراكز السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل وعلى التوازن بين هاتين السلطتين الكونغرس والبيت الأبيض، وعلى دور مؤثر المجموعات الضغط، التي تشكل جزءاً أساسياً من ديناميات النظام السياسي الأمريكي، وهذه اللوبيات مجموعات مصالح، مرتبطة بمهنة، أو مصلحة اقتصادية أو سياسية، أو مجموعات إثنية.. إلخ، وهي تؤثر في النظام من خلال نشاطات سياسية، أو إعلامية أو مالية.