كتب

فرنسا بين بلفور والاعتراف بفلسطين.. من شريك في التأسيس إلى باحث عن التكفير

إن فرنسا كانت سباقة في إدراك أهمية هذه المنطقة، بالتالي سباقة إلى ابتكار انشاء دولة يهودية في فلسطين تكون تابعة لها ومنفذة لمصالحها.
الكتاب: فرنسا وإعلان بلفور
الكاتب: فيليب بريفو 
ترجمة: لبنى محمد سعيد الحليمي، وآخرون
الناشر: دار الكلمة للنشر والتوزيع، فلسطين، الطبعة الأولى، 2023م


جاء إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتاريخ 24 تموز/يوليو 2025 بنيته الاعتراف بدولة لتكون فرنسا أول دولة بين مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، التي ستعلن اعترافها الرسمي بدولة فلسطين ضمن اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ضمن المساعي الفرنسية لمحاولة إحياء مسار التسوية الفلسطينية الإسرائيلية وتحقيق السلام، لكن كيف حدث هذا التحول المفاجئ في الموقف الفرنسي على مدار عقود ماضية، لتبادر فرنسا إلى ذك هل هو تكفير عن ذنوب سابقة؟

نادراً ما كان مصير شعب بأكمله مرتبطاً بخطاب من بضعة أسطر يوجهها وزير إلى فرد، نص مليء بالغموض تضمن التزماً سياسياً من دولة إلى مجموعة ذات نفوذ، ليس قوة قانونية في القانون الدولي، كانت المساعي البريطانية- الأمريكية تهدف لمنع أي دور لفرنسا في فلسطين، وتدارك أي اتفاق يقضي بسيطرتها على الأرض المقدسة، إذ كانت الصداقة اليهودية البريطانية من الساسة قد وصلت لمرحلة السطو الدولي والاستيلاء على بلد، وطرد سكانه الأصليين والشرعيين من أجل منحه لأخرين، ليس بالتطهير العرقي فقط، بل بالقانون الدولي الذي تواطؤ على فلسطين والفلسطينيين.

زواج المصلحة:

يجب أن يكون مفهوماً أن عام 1915م، والنصف الأول من عام 1916م، كان كارثياً بالنسبة للحلفاء والإنجليز بعد فشل الهجوم التركي الألماني على قناة السويس في الثاني، والثالث من فبراير 1915م، أنشأت لندن بالتعاون مع فرنسا عملية الدردنيل وحققت فشلا ذريعا، وجاء أيضا تحريض العملاء الألمان في بلاد فارس وأفغانستان على الحدود مع الهند، ودخول بلغاريا الحرب إلى جانب الامبراطوريات المركزية واستسلام الجيش الإنجليزي في العراق." هذا ما جعل الانجليز يدخلون في التفاوض مع الفرنسيين على الشرق الأدنى، وأنهم تخلوا عن شمال سوريا وبلاد ما بين النهرين، حتى لا يكونوا على اتصال مع روسيا، وأنهم وافقوا على بناء عمارات فرنسية انجليزية في فلسطين".

كان عام 1917م العام المحوري للحرب العالمية الأولى، كان العالم القديم، سياسياً وعسكرياً، بؤرة تنافس أوروبي، بعد عامين من الصراع الدموي، بينما ظلت الاستراتيجية العسكرية هي استراتيجية نابليون الذي جعل المشاة أساس المعارك، والهجوم قاعدة ذهبية، ولكن لا مجال للحروب الأوروبية آنذاك، فهناك صيد سمين في المشرق العربي، جوهرة العرب" فلسطين" تتجاذبها السياسات الاستعمارية وتتنافس عليها، بالخداع للعرب والمحاصصة بين الغرب.

نصت اتفاقية سايكس بيكو 9 ـ 16 يونيو 1916م على تدويل فلسطين، حيث كان نفوذ فرنسا مع ذلك يعني وضعها تحت السيادة الفرنسية البريطانية بعد الحرب، مما آثار استياءً كبيراً من اليهود والإمبرياليين البريطانيين، استغلت بريطانيا العظمى خطأ فرانسوا جورج بيكو في اللعبة الدبلوماسية المعقدة التي انخرطت فيها فرنسا وانجلترا في الشرق الأوسط لنشر اعلان بلفور في 2 نوفمبر عام 1917م، وسحب الرهان، بمجرد ما علمت به كان على فرنسا الاحتجاج على هذا الاغتصاب.

يقول المؤرخ الفرنسي جون فرانسوا بورييه: "الاتفاقيات الموقعة لم تفعل شيئاً حيال ذلك فحسب، بل تخلى كليمنصو المشبع بأفكار الثورة الفرنسية، عن حقوق فرنسا في الأرض المقدسة حدث في 1 ديسمبر 1918م في لندن، يروي هذا الكتاب أصول هذه القصة المكونة منذ ذلك الحين من دماء الشعب الفلسطيني ودموعه".

إعلان بلفور أم انتصار الغموض:

السمة الغالبة لهذا الإعلان الشهير هي أن جميع كلماته خاطئة، بما في ذلك العنوان نفسه الذي تم تسميته بيان، وهو في الواقع رسالة بسيطة للورد روتشيلد، ولكن هذا ليس أسوأ ما فيه؛ اللافت في الأسطر التالية هو غموض الصيغ التي تسمح بتفسيرات متناقضة تفسح المجال لجميع أنواع المناورات الاحتيالية.

كان هناك شيء واحد واضح في هذا الإعلان، وهو الغياب التام للإشارة إلى الحكومة الفرنسية، في أنه وفقاً لاتفاقيات سايكس بيكو، كان المقرر تدويل فلسطين، أي في الوقائع، تبقى تحت إدارة دولية من فرنسا وبريطانيا، ومن هنا جاء سولكولوف الذي لا هوادة معه، للحصول على موافقة باريس لصالح هذا الابتكار السياسي، يقول الكاتب تم اختيار جميع شروط هذا الإعلان بعناية لتكن غامضة وغير واضحة لتلائم جميع التفسيرات لماذا؟ لأنه في ذلك الوقت كان هناك أكثر من 600.000 عربي مسلم ومسيحي، بينما كان اليهود الذين يعيشون هناك بالكاد 60.000 ونظرياً كانت اتفاقيات سايكس بيكو لا تزال قائمة، لذلك كان هناك مخاوف لدى اليهود تشجعهم على ضرورة التقدم واكمال باقي الأمور، اللغة الإنجليزية تحدثت فقط عن الوطن القومي اليهودي، وهو مصطلح ليس له معنى في القانون الدولي، وذلك لتجنب كلمة الدولة التي هي واضحة، ولكنها لم تكن ستفشل في إثارة الصعوبات على كل من الجانبين الفلسطيني والفرنسي على حد سواء، وكذلك في أذهان الانجليز والصهاينة أيضا، كانت مصطلحات الوطن القومي اليهودي مجرد قناع لتغطية الغرض الحقيقي للعملية في المدى القريب(ص85).

يقول إسرائيل زانغويل: "لو لم يكن اليهود أقلية في فلسطين، لما كانت هناك حاجة لبيانات خاصة بالفورية باسمهم"، ومع ذلك لم يرض الصهاينة بذلك لأن إنجلترا في نظرهم قد ارتكبت خطأ فادحاً بعدم عمل أي شيء يمكن أن يضر بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين، وبالبحث عن الحقوق الدينية الفكرة الغامضة جداً للحقوق المدنية، بدت خطيرة جداً بالنسبة فما كان من حاييم وايزمان إلا أن وضع جملة" على أنها وسيلة لتقييد مهمتنا إلى الحد الذي يجعلها مشلولة تماماً"

على الرغم من براعة التراكيب والانشاءات الفكرية كان الصهاينة غير متأكدين من حقهم المزعوم في احتلال فلسطين  لدرجة أن زانغويل كتب في عشرينيات القرن الماضي عن العرب:" يجب أن نقنعهم بأدب المغادرة العاجلة" بعد كل شيء، لديهم شبه الجزيرة العربية التي تغطي مليون كيلو متر مربع باستثناء الأراضي الجديدة التي حررها الأتراك بين سوريا وبلاد ما بين النهرين، ولا تمتلك إسرائيل شبراً واحداً من الأرض، لا يوجد سبب خاص للعرب للتشبث بهذه الكيلومترات القليلة إن طي خيامهم والتسلل بعيداً هي احدى عاداتهم التي يضرب بها المثل!.

صدر إعلان بلفور نيابة عن حكومة جلالة الملكة، كما لو أن فلسطين كانت بالفعل مستعمرة انجليزية، ولكن لم يكن هذا هو الحال، وفقا لاتفاقيات سايكس بيكو التي صادقت عليها إنجلترا وفرنسا وروسيا، كان لا بد من تدويل هذه المقاطعة التركية، التي كانت تحكمها الإدارة الفرنسية والبريطانية؛ لذلك ليس لإنجلترا الحق في التخلص منها بمفردها.
يدعي زانغويل بأن اليهود طردوا من فلسطين "لا يمكن لأي شيء أن يكون أبسط من ذلك... لا يمكن لأي شخص طرد من بلده مرة واحدة إلا أن يعود إليه بحد السيف! فكان السيف وانجلترا التي أعطت هذا التصريح، في محاولة لتحقيق تغيير سكاني في فلسطين، فهو لم يكن تصريح لليهود المقيمين في فلسطين فقط، بل ليهود العالم، باستخدام الوسائل القانونية وغير القانونية بموجب القانون الدولي أو ببساطة بموجب قانون الأمم المتحدة، من أجل الوصول إلى هدف محظور لأن الغاية تبرر الوسيلة، فهم لا يريدون جزءً من فلسطين بل فلسطين كلها (ص90).

الإسرائيليون أن الفلسطينيين ومعظمهم من الفلاحين الفقراء، قد هاجروا وتركوا منازلهم وأراضيهم بحرية، وقبلت القوى العظمى بهذه الكذبة الهائلة دون صعوبة، لا بد من القول إن هذه الجريمة الحقيقية ضد الإنسانية كانت امتداداً لإعلان بلفور الذي اعترف بحكم الأمر الواقع بأن فلسطين ملك اليهود ولهم وحدهم!

ابتكار هائل لم يلحظه أحد تقريباً في فرنسا:

الشخص الوحيد الذي أدرك التغيير الكبير الذي أحدثه إعلان بلفور هو فرانسوا جورج بيكو الذي عاد إلى مصر "أنا مقتنع بأن تشجيع الجمهور المتهور لهذه الحركة ـ أي الصهيونية ـ سيلغي اتفاقياتنا"، فبريطانيا لم ترضي اليهود، ولكنها أرادت الإطاحة بالفرنسيين وطموحهم في فلسطين.

كانت الحكومة الفرنسية أيضاً تنظر "بتعاطف تجاه الحركة الصهيونية، فمن ناحية، لا يمكننا أن نكون معادين لتطلعات القومية اليهودية بقدر ما تتوافق مع تطلعات القوميات الأخرى في فلسطين"، بل أنها رأت أن "تنوع الأعراق التي تسكن هذه المنطقة، قد يؤدي لتنوع الأديان والطوائف وتحول دون الاستيلاء على الأماكن المقدسة التي ستبقى دولية إلى حد ما.. وبهيمنة الجميع، وهناك صعوبة بإنجاح هذه الفكرة في بلد يجب أن يكون للجميع، ويستوعب جميع الطوائف والشعوب، كل هذا يتعارض مع فلسفة اعلان بلفور".

يستغرب الكاتب من هذا الطرح قائلا: "لم يكن هناك شيء أبعد من ذلك ضد الأيديولوجيا الصهيونية التي كان اليهود شعباً لها في المقام الأول، وقد ورد ذلك بوضوح في إعلان بلفور، الذي يشير إلى أن اليهود هم الشعب الوحيد المستحق لفلسطين بالرغم من أن العرب والمسيحيين والمسلمين عاشوا هناك لألاف السنين وكانوا الأغلبية إلى حد بعيد، ووصفوا بأنهم مجتمعات غير يهودية".

إن الموقف الفرنسي من فلسطين كان بعيداً جداً، إن لم يكن معارضاً للموقف الذي دعا إليه إعلان بلفور، ولكنه كان يتماشى مع ما وعد به جورج بيكو في 9 أبريل 1917م، وأكده جول كامبون 4 يونيو1917م، لتطوير الاستيطان في فلسطين، الذي لم يكن ثورياً لأنه كان بروح ـ اقتداء ـ لما فعله البارون إدموند روتشيلد في القرن التاسع عشر،  يضيف الكاتب هنا: "كان من الضروري الاستمرار في خداع العرب الذين ما زالوا بحاجة إليهم، وتجنب فقدان ثقة الفرنسيين، أعطت الحكومة الإنجليزية اليهود أملاً حقيقياً بوجود دولة، هذا يعني أنه سيكون لديهم سيطرة كاملة على هذا البلد" (ص96)

ما القيم القانونية والتاريخية المرتبطة بهذا الادعاء؟

الجواب بسيط لا شيْ.

صدر إعلان بلفور نيابة عن حكومة جلالة الملكة، كما لو أن فلسطين كانت بالفعل مستعمرة انجليزية، ولكن لم يكن هذا هو الحال، وفقا لاتفاقيات سايكس بيكو التي صادقت عليها إنجلترا وفرنسا وروسيا، كان لا بد من تدويل هذه المقاطعة التركية، التي كانت تحكمها الإدارة الفرنسية والبريطانية؛ لذلك ليس لإنجلترا الحق في التخلص منها بمفردها.

كان الأمر في أذهان الفرنسيين مجرد تطوير استعمار بدأ بالفعل في القرن الماضي من قبل البارون أدمون دي روتشيلد على وجه الخصوص، لذلك لم يكن هناك جديد، والصيغ الغامضة في إعلان بلفور بالكاد تخفي انشاء دولة جديدة وحقيقة أن فلسطين الآن تنتمي إلى اليهود، لهم وحدهم "من الغريب أنه في البلدان التي قدمت نفسها على أنها منارات للديمقراطية، سواء كانت فرنسا أو إنجلترا، لم يتم تقديم اعلان بلفور إلى البرلمانات، بعد تحقيق في مجلس الشيوخ من قبل أحد أعضائه... أصبح من الواضح أن التصديق على الإعلان لم يتم تقديمه أبداً إلى مجلس الشيوخ أو مجلس النواب"، لكن تضمينه في مؤتمر لندن وفي سان ريمو على اعتبار أنه صيغ ضمن المعاهدات الدولية.

لم يصل إعلان بلفور إلى نهاية الآمال الصهيونية، بل إنها حرمت أفعالهم الحالية والمستقبلية من كل المشروعية، التاريخية والقانونية على حد سواء، ففي المعركة التي كانت على وشك أن تدور بين الطائفتين الفلسطينية واليهودية كانت الشرعية إلى جانب العرب، الذي لا يمكن بالتالي وصفهم بالإرهابين، بل أنهم يدافعون عن أنفسهم فقط، فإن الطائفة اليهودية اللاشرعية تحت غطاء الانتداب البريطاني أولاً، ودولة إسرائيل ثانياً، هي بالفعل خارجة عن القانون.

الإعلان من وجهة النظر الفرنسية يحمل تناقضا في حد ذاته، من ناحية الادعاء بأن اليهود هم شعب، مما منحهم الحق في أن تكون لهم دولة، من ناحية أخرى، قد أضعفت هذه المطالبة إلى حد كبير أي أساس تاريخي وقانوني لهذه المتطلبات، لأنها تحدثت عن الاستيطان في فلسطين، وليس عن إعادة التوطين كما كان يود وايزمان وأصدقاؤه (ص105).

من ابتزاز سوكولوف إلى ضربة رأس كليمنصو:

وصل سوكولوف إلى باريس لممارسة ابتزاز حقيقي على الحكومة الفرنسية؛ لإجبار الحكومة الفرنسية على الموافقة على تصريح بلفور وإصدار بيان مواز له بعبارات أكثر واضحاً، من حيث المصطلحات التي ترضي الصهاينة، وإيجاد توافق بين الحكومتين الفرنسية والبريطانية حول مسألة الاستيطان اليهودي في فلسطين، بل أنه طالب من جان غوت برسالة فرنسية رسمية" يجب أن تكون لطيفاً بحيث ترسل لي رسالة رسمية، على غرار الرسالة التي بعث بها السيد بلفور إلى اللورد روتشيلد".

كانت الخطابات الفرنسية عبارة عن كلمات فارغة تهدف إلى خداع العرب ولا تعني شيئاً للصهاينة، المهم هو أن فرنسا تظاهرت بالانحياز إلى إنجلترا من خلال الحديث عن وطن قومي، وبعبارة أخرى دولة يهودية، وكان لها نتيجتان رئيسيتان الأولى الاعتراف الدولي بالمزاعم الصهيونية، والنتيجة الثانية هي طرد فرنسا من الأراضي المقدسة.

أما ضربة رأس كليمنصو الذي ذهب إلى لندن وأجرى محادثة مع لويد جورج، فوجدت موجة من الانتقادات التي وجهتها الصحافة الفرنسية ضد السياسة الإنجليزية، فيقول الكاتب: " لم يفهم كليمنصو أن اعلان بلفور المدعوم بحماس من الجماهير اليهودية في إنجلترا والولايات المتحدة جعل الوجود السياسي الفرنسي في فلسطين صعباً للغاية؟ لذلك دفعت السياسة الواقعية كليمنصو إلى اللجوء إلى حلفائنا للتعامل معهم بدلاً من الدفاع، موقف جعله يشعر بالفعل، بالضياع!"

يبدو أن هناك سوق حقيقي، على أعلى مستوى، بين الفرنسيين والإنجليز والأميركيين لمنح فرنسا سوريا الحالية، بشرط أن تتخلى عن كل شيء أخر وخاصة فلسطين، وهذا ما يفسر الصمت الذي همس فيه كليمنصو دائماً في هذه القضية، وغضبه عام 1919من عندما قدمت له إنجلترا بطاقة بتر سوريا وتخلي فرنسا عن حمايتها الكاثوليكية التي أجبرت عليها في مؤتمر سان ريمو، هذا من شأنه أن يفسر سبب قبول الولايات المتحدة، التي كانت تجهل في البداية اتفاقيات تتعارض مع 14 نقطة لٍ ويلسون التي لم تتم إلا بشروط ان يوافق البريطانيون على مراعاة أهداف الحرب الأمريكية التي كانت أولها التصديق على المطالب الصهيونية في فلسطين. (ص120)

"كانت أمريكا على وفاق مع إنجلترا، لذلك اتفقنا على توريط فرنسا بمشاكل مالية ومادية وعسكرية هائلة، وكان الوضع معقداً في فلسطين حيث كان 90% من السكان معاديين للصهيونية وفي سوريا أيضا كان 70% من السكان ضد فرنسا، في الشرق الأوسط بشكل عام تطبيق النقاط الـ 14الشهيرة شريطة التخلي عن تدويل فلسطين، وجدت كل دولة من الدول الثلاث مصلحتها هناك فرنسا على نهر الراين وسوريا، والتي نسبت إليها كجائزة ترضية، وأنجلترا في الشرق الأوسط حيث اقتطعت نصيب الأسد، والصهانية أي الولايات المتحدة في فلسطين التي تم التخلي عنها لهم في تحد لكل قواعد القانون والأخلاق!"

هزيمة فرنسا في سان ريمو:

نوه فيليب بيرتبلو إلى نقطة في غاية الأهمية، فتصريح بلفور أشار للحقوق المدينة والدينية لغير اليهود، ولكنه لم يتطرق للحديث عن حقوقهم السياسية، في حين أن التصريح كان ينص على ضرورة تمتع يهود الدول الأخرى بها! كان هذا الجزء موضع غرابة واضحة، إن لم نقل أنه ضرب من التناقض!

لكن تفسيره بسيط: طالب اليهود وهم أقلية آنذاك وقد قدر لهم ان يبقوا كذلك بالحصول على حقوقهم السياسية في فلسطين، الدولة التي يحلمون بإقامة دولتهم المنشودة فيها قريبا بالتواطؤ مع بريطانيا، لقد كانوا قلة قليلة جداً كما وصفهم زانغويل، فقد كان عددهم يبلغ 60.000 بينما كان عدد الذين يسكنون أرض فلسطين من غير الديانة اليهودية 600.000 وإن منح الحقوق السياسية لكافة الأديان، وقبول الاعتراف بالفلسطينيين كأصحاب حق، كان سيعيق إمكانية تحقيق مشروعهم إلى الأبد. (ص133)..

لم يناقش المؤتمر سوى قضية واحدة وهي إقامة وطن قومي لليهود، الأمر الذي يعني مناقشة تسهيلات انشاء وتطوير المستعمرات اليهودية العامرة زراعياً وصناعياً على بعض بقاع الأراضي الفلسطينية؛ ما يمكن اليهود القادمين من أنحاء العالم بأسره من إيجاد مأوى لهم على وجه أرض الميعاد، كان حديثه تكراراً للتأكيد على الموقف الأصلي لفرنسا، وهو موقف فقد قيمته الجوهرية باعتراف نولين فولين بإعلان بلفور، فقد نص المؤتمر وبشكل صريح، على أن الجماعات اليهودية لن تتفوق بحقوق سياسية أو مدينة أو دينية على السكان النصارى أو المسلمين، ولن يتم أي اجراء من شأنه إعاقة حرية التمدن أو التقليل من الضمانات الممنوحة لكافة المجتمعات التي تحيا في فلسطين.

إعلان بلفور صناعة باريس:

قالت حنا آرنت، إن المنبوذ سياسياً هو الشخص الذي ليس له حقوق، وهذا هو حال الفلسطينيين منذ أكثر من قرن، منذ تنفيذ هذا التصريح المزعوم الذي خالف كل مفاهيم العدالة".

إن فرنسا كانت طرفاً أساسياً وفاعلاً في قيام إسرائيل، لأن في ذلك مصلحة أكيدة لها في المنطقة.
منذ البداية، لم يفرض هذا التصريح إلا بالقوة، وما أن استقر الصهاينة في فلسطين، حتى زودهم البريطانيون بالأسلحة والذخيرة بناء على طلب منهم، حيث قاموا بتأسيس قوة خاصة، وبدأوا بإطلاق النار كقطاع طرق على الفلسطينيين دون رحمة، لم يكن بوسع الفلسطينيين الذين تم تجريدهم من أسلحتهم، التقدم بالشكوى، لكل ما حدث معهم؛ لأن ثلاثة من بين خمسة من كبارة القضاة كانوا يهوداً، فالإدارة بحد ذاتها يهودية، ولقد عمل  البريطانيون على تقليص رواتب موظفي الخدمة المدنية إلى النصف، ما دفع الفلسطينيين إلى الاستقالة، أما الموظفون اليهود فقد تكفلت اللجنة اليهودية بدفع النصف الآخر(ص153).

صرح بن غوريون في أكثر من مناسبة " على الأوروبيين أن يقتنعوا شاءوا أم أبوا؛ أن إسرائيل، بسبب وضعها في الشرق الأوسط هي موقع متقدم للغرب في المنطقة، إنها الحدود الطبيعية للعالم الحر، من يضمن حدود إسرائيل أليس فرنسا؟ أليس الولايات المتحدة؟ يجب تجاوز الجغرافيا، يجب أن تمتد المنظمات العسكرية الغربية إلى الشرق الأوسط، لتشمل إسرائيل"

يمكن تلخيص سياسة فرنسا اتجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية بعدة نقاط:

ـ إن فرنسا كانت طرفاً أساسياً وفاعلاً في قيام إسرائيل، لأن في ذلك مصلحة أكيدة لها في المنطقة.

ـ إن فرنسا كانت سباقة في إدراك أهمية هذه المنطقة، بالتالي سباقة إلى ابتكار انشاء دولة يهودية في فلسطين تكون تابعة لها ومنفذة لمصالحها.

ـ الأصولية المسيحية قامت بدور لا يمكن اغفاله في المساهمة بتنفيذ الهدف الصهيوني المتمثل بقيام إسرائيل .

ـ الانحسار الذي شهده الدور الفرنسي، في بعض الأوقات إنما كان بسبب المد الذي شهده الدور الأمريكي، حين برزت أمريكا كقوة عظمى وورثت أدوار الاستعمار التقليدي.

أما يراهن عليه البعض من دور أوروبي لمصلحة السلام وحقوقنا، فإنه من باب التمني، أو التقليد الاعمى لما اتبعته الصهيونية، لأن الصهيونية صناعة أوروبية أصلاً رأت فيها أوروبا الاستعمارية خير من يمثل مصالحها في المنطقة.

فبعد عامين من الحرب الإسرائيلية لاحت في الأفق محاولات أوروبية خجولة للاعتراف بدولة فلسطين في شهر سبتمبر المقبل، من 5 دولة من بينها فرنسا وبريطانيا وهولندا، تلك الدولة التي لم يقدر لها ان تقوم كما قامت دولة إسرائيل عام 1948م، وفق قرار تقسيم فلسطين 181 لعام 1947م، وذلك خلال انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك سبتمبر 2025م، وهو ما عكس تحول أساسي في الموقف الأوروبي، إزاء مشروع حل الدولتين التي عملت إسرائيل كل ما بوسعها على وأده طوال السنوات الماضية، وهوموقف أوروبي لم ينضج إلى المستوى المطلوب تجاه موقفها من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، الذي كان يتطلب إعادة النظر في اتفاقية الشراكة الأوروبية ـ الإٍسرائيلية التي تمنح دولة الاحتلال امتيازات تجارية ضمن السوق الأوروبية، ويصعب فهم أن ما تقوم به الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا أنها أداة ضغط سياسي على إسرائيل لإيقاف حربها على الشعب الفلسطيني، من القتل والتجويع والتهجير.