كتب

محو غزة.. عندما يتحول الدعم الغربي إلى شريك في الإبادة.. كتاب جديد

لن تنشأ الملاحقة القضائية الفعالة للإبادة الجماعية إلا عندما تتمكن اتفاقية الإبادة الجماعية من تحقيق هدفها النهائي: منع جريمة الإبادة الجماعية، والمعاقبة عليها، والتحول من "عدالة المنتصرين" إلى "عدالة الضحايا".
منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول ٢٠٢٣، ترتكب إسرائيل فظائع إبادة جماعية في غزة. فلماذا لم تُستخدَم اتفاقية الإبادة الجماعية لمنعها؟ ولماذا أثبتت الاتفاقية عدم فعاليتها منذ إقرارها وحتى الآن؟ هذان سؤالان من الأسئلة المحورية التي يجيب عنها دان شتاينبوك في كتابه: "عقيدة المحو: منع الإبادة الجماعية، إسرائيل، غزة، والغرب"، الذي نشر في 2025 عن دار "كلاريتي برس"، أتلانتا، الولايات المتحدة.

في تقديمه للكتاب، قال مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق: "وصف الإبادة الجماعية لا يكفي لوصف القتل الجماعي المتعمد لفلسطينيي غزة. فهي إبادة غير عادية، لأنها تُرتكب على مرأى ومسمع من العالم أجمع لفترة طويلة دون أي إجراء لوقفها. لقد خلقت الولايات المتحدة والأوروبيون الوحش الذي نراه اليوم. وقد لا يعرف من أنشأ إسرائيل أي نوع من الوحش خلقوه. لكنهم لا يستطيعون تبرير فشلهم في وقف الفظائع التي تُرتكب أمام أعينهم. والأسوأ من ذلك، أنهم يدعمونها من خلال التمويل والتزويد بالأسلحة".

وفي هذا المقال، نقدم عرضا موجزا لكتاب شتاينبوك، خصوصا وأن كاتبه يهودي معارض للكيان، وقد تنبأ بانهياره في كتابه "سقوط إسرائيل" الصادر عام 2024، والذي ذكرنا من قبل الأفكار التي اشتمل عليها كتابه في مقال: "الكيان المتهالك" على عربي 21 في 2/6/2025.

محو غزة محو للدول

إن الدمار الشامل الذي لحق بغزة هو مقدمة لما هو أسوأ بكثير. محو غزة هو محو للأمم والدول. فما يحدث في غزة لن يبقى فيها. ما يحدث فيها هو حملة مُتعمدة لتدمير الشعب الفلسطيني، كليًا أو جزئيًا، كجماعة وطنية وإثنية ودينية. وقد حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أن "لا شيء يبرر إبادة غزة التي تجري أمام أعين العالم". والهدف النهائي لهذه الإبادة هو التدمير الكامل لأي شيء فيها، حتى لا يبقى منها شيء.

جانب آخر من عقيدة المحو: استهداف الذاكرة والتاريخ. ومن هنا، يأتي محو إسرائيل للمتاحف والمكتبات والمؤسسات التعليمية والفنية والثقافية الفلسطينية بغزة، أو ما كان يُطلق عليه "الإبادة الثقافية". إبادة تهدف إلى تغييب تاريخ غزة عن الأنظار، ومحوه من الذاكرة، وإخفائه إلى الأبد.

إن الدمار الشامل الذي لحق بغزة هو مقدمة لما هو أسوأ بكثير. محو غزة هو محو للأمم والدول. فما يحدث في غزة لن يبقى فيها. ما يحدث فيها هو حملة مُتعمدة لتدمير الشعب الفلسطيني، كليًا أو جزئيًا، كجماعة وطنية وإثنية ودينية. وقد حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أن "لا شيء يبرر إبادة غزة التي تجري أمام أعين العالم". والهدف النهائي لهذه الإبادة هو التدمير الكامل لأي شيء فيها، حتى لا يبقى منها شيء.
وفي الصورة الكبيرة لمحو غزة، فإن تدميرها والجهود المبذولة للقضاء على سكانها وتطهيرهم عرقيا "أمام أعين العالم أجمع"، يعكس السجل الطويل والمظلم للغرب من التدمير المدني الشامل على أساس الاستعمار الجديد. ولن تنشأ الملاحقة الفعلية للإبادة إلا عندما تتمكن اتفاقية الإبادة الجماعية من تحقيق هدفها النهائي: منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها.

استراتيجية مجربة للتدمير والإزالة

"عقيدة المحو"، هذا الكابوس الجهنمي لاستراتيجية الإبادة الإسرائيلية في غزة، هي استراتيجية مجرّبة للتدمير الشامل ،اختبرتها إسرائيل لأول مرة قبل عقدين من الزمن في لبنان دون أي تدخل دولي. 

وُضعت هذه العقيدة لأول مرة عام ٢٠٠٥ على يد غادي آيزنكوت، القائد العسكري الإسرائيلي السابق. ومن المثير للاهتمام أنه ليس متطرفًا، فقد أصبح لاحقًا سياسيًا مؤثرًا يدعم الديمقراطية وحل الدولتين لإقامة دولة فلسطينية. ولكن بصفته استراتيجيًا عسكريًا، فقد فتح "صندوق باندورا"، صندوق كل الشرور طبقا للميثولوجيا الإغريقية، الذي تبناه لاحقًا كلٌّ من حزب الليكود بزعامة نتنياهو واليمين الإسرائيلي المتطرف المسياني وعلى رأسه بن غفير وسموتريش.

استندت استراتيجية آيزنكوت إلى فكرة أن الجيش الإسرائيلي سيُلحق أضراراً جسيمة بالضاحية الجنوبية في بيروت لخلق ردع فعال ضد حزب الله للقضاء عليه نهائيًا، أو على الأقل لفترة طويلة.

عندما تبنى الجيش الإسرائيلي هذه العقيدة وطبقها بالضاحية الجنوبية، كانت الحرب الباردة قد ولت، وتم إنشاء محاكم جنائية دولية مؤقتة. وصارت اتفاقية الإبادة الجماعية جزءًا من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وكان للأمم المتحدة مستشار خاص مُكلّف بتحذيرها لمنع الإبادة الجماعية. إذن، ظاهريًا، كانت الأمور جاهزة للتعامل مع عقيدة عسكرية تستهدف صراحةً المدنيين والبنية التحتية المدنية. ومع ذلك، عندما صرّح آيزنكوت علنًا بأن إسرائيل ستتبنى هذه العقيدة الجديدة لم يُثر ذلك أي استنكار دولي، ناهيك عن التدخل. وكان هذا الصمت هو ما جعل حرب الإبادة الشاملة التي نراها اليوم مسألة وقت لا مسألة مبدأ.

التدمير المدني الكامل كهدف استراتيجي

بعقيدة المحو، استهدف الجيش الإسرائيلي البنية التحتية المدنية عمدًا لإحداث معاناة هائلة للسكان المدنيين، سعيًا منه على ما يبدو إلى إرساء ردع فعال. وبعد استخدامها في حرب لبنان عام 2006، استُخدمت مجددًا في حرب الرصاص المصبوب بغزة 2008 ـ 2009، والتي أودت بحياة 1200 ـ 1400 فلسطيني، ودمّرت أكثر من 46 ألف منزل، وشردت أكثر من 100 ألف شخص. وكان ذلك تطبيقا لما قاله آيزنكوت: "إن ما حدث في الضاحية الجنوبية في بيروت عام 2006، سيحدث في كل مكان تُطلق منه النيران تجاه إسرائيل. سنستخدم قوة غير متناسبة، ونُسبب دمارًا هائلاً".  وبذلك، ترسخت هذه العقيدة فعليًا. ولم يعد تدمير المدنيين مجرد أضرار جانبية مؤسفة، بل أصبح محور عقيدة عسكرية جديدة.

إذن، قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بسبعة عشر عامًا، كان هناك إجماع عام واسع بين النخب العسكرية والسياسية الإسرائيلية على أن الجيش الإسرائيلي سيستخدم في أي حرب قادمة قوة غير متناسبة، وسيُحدث دمارًا هائلًا عبر قوة نيران كثيفة. ومن الغريب أن ما وُصف آنذاك باستراتيجية الضاحية، لم يجذب اهتمامًا يُذكر من الهيئات الدولية التي من المفترض أنها مُكرسة لمنع الإبادة الجماعية. ومع ذلك، وبعد شهر واحد فقط من حرب غزة المستمرة الآن، اتهم آيزنكوت "مؤسس عقيدة المحو" حكومة نتنياهو بـ"سلوك شبه إجرامي". وحاول نتنياهو إخفاء بروتوكولات الحرب الحالية، وتسريب الأكاذيب إلى وسائل الإعلام، والتأثير على أهداف الحرب لإرضاء اليمين المتطرف المتشدد.

فقد آيزنكوت ابنه واثنين من أبناء أخيه في حرب يعارضها الآن. ومع ذلك، فإن الاستراتيجية التي شكلت الأساس لمشروع إسرائيل لإبادة غزة كانت إلى حد كبير من صنع يده. ومن وجهة نظر تاريخية، تجمع "عقيدة المحو" بين أشكال الحرب المميتة: القصف الضخم والعشوائي لتدمير المباني والبنية التحتية الضرورية للحياة، العقاب الجماعي، إضافة إلى عمليات مكافحة المقاومة. لكن الجديد في حرب غزة هو "الإبادة الخوارزمية": الاستخدام المخيف للذكاء الاصطناعي في فظائع الإبادة الجماعية.

غزة والتجويع المسلح

استخدمت إسرائيل المجاعة لأول مرة في غزة كسلاح منذ ما يقرب من عقدين من الزمن. وذلك، بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في يناير كانون الثاني 2006، حاصرت إسرائيل القطاع بدعم من الغرب بقيادة الولايات المتحدة. وقد اشتد استخدام سلاح التجويع في الحرب الحالية.

وشوهدت وفيات الجوع بالفعل في أوائل ربيع عام 2024. ومع ذلك، تم قمع هذه الصور إلى حد كبير في الغرب. وتُظهر "عقيدة المحو" أن المجاعات غالبا ما كانت بمثابة مقدمة للإبادة الجماعية، وأن المجاعة قد تم تسليحها في بعض الأحيان عن قصد. وهذا ما أكده رافائيل ليمكين، مؤسس اتفاقية الإبادة الجماعية، فالقتل هو الأسلوب الأكثر مباشرة للإبادة الجماعية، لكنه ليس الأسلوب الوحيد. فقد تكون الإبادة بالقتل البطيء والعلمي عن طريق التجويع الجماعي؛ أو بالقتل السريع عن طريق الإبادة في غرف الغاز.

في حالة غزة، فإن الأدلة التراكمية على المجاعة الجماعية وفيرة وساحقة، ومن المستحيل إنكارها. وكان مستوى السعرات الحرارية في أجزاء معينة من غزة أقل من المستوى اللازم للبقاء على قيد الحياة، وأقل أيضا من المستوى الذي لوحظ وسط التجارب التي نفذتها الإمبراطورية البريطانية في أواخر القرن التاسع عشر بالهند، وتسببت في وفاة الملايين. وما كان في مناطق معينة من غزة، كان أيضا أقل مما كان عليه في معسكرات الاعتقال الألمانية في عام 1940 وفي نهاية الحرب العالمية الثانية.

خطة الجنرالات.. أبيدوا جميع المتوحشين!!

في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ذهب الرئيس الأسبق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، جيورا آيلاند، إلى مدى أبعد في عقيدة المحو. عندما قال - كما فعل اليمين المتطرف المسياني منذ عهد الحاخام مائير كاهانا والحاخامات القوميين المتطرفين في سبعينيات القرن الماضي - بما أن معظم الفلسطينيين في غزة يدعمون حماس، فإن جميع الفلسطينيات في القطاع هنّ أمهات وأخوات وزوجات مقاتلي حماس. وهكذا، لم يكن من حق إسرائيل فحسب، تجاهل معاناة الفلسطينيين، بل كان عليها أخلاقياً فِعل ذلك. ومن هذا المنطلق، لم يكن العقاب الجماعي انتهاكاً للقانون الدولي، أو ميثاقاً أخلاقياً منحرفاً.

استخدمت إسرائيل المجاعة لأول مرة في غزة كسلاح منذ ما يقرب من عقدين من الزمن. وذلك، بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في يناير كانون الثاني 2006، حاصرت إسرائيل القطاع بدعم من الغرب بقيادة الولايات المتحدة. وقد اشتد استخدام سلاح التجويع في الحرب الحالية.
ومثل بطل رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد (1899)، بدا آيلاند متفقاً مع قول كونراد: "أبيدوا جميع المتوحشين!"، وهذا هو المبدأ الأخلاقي المطلق للاإنسانية.

وكما استخدم النازيون العقاب الجماعي ضد اليهود والبولنديين والشيوعيين والغجر في أربعينيات القرن الماضي، استغل آيلاند ذلك العقاب ليشير إلى أن ما قد لا يحققه الجيش بالقوة العسكرية، تستطيع الحرب البيولوجية أو "الإبادة البيولوجية" تحقيقه، ف"الأوبئة في جنوب غزة ستُقرّب النصر، وستقلل الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي". نعم، أثارت هذه الحجج إدانة دولية واسعة؛ لكن هذه الأنواع من الإبادة كانت متوافقة مع الأهداف الاستراتيجية ل"عقيدة المحو" الإسرائيلية.

من أصول الإبادة.. الأرض المحروقة والعقاب الجماعي

يذكرنا نوع الإبادة الذي شهدته غزة خلال العامين الماضيين بسياسة الأرض المحروقة، وهي استراتيجية عسكرية راسخة تقوم على تدمير كل ما يُمكّن جيش العدو من خوض حرب، بما في ذلك تدمير: البنية التحتية الحيوية، المؤسسات المدنية والحكومية، المباني، المحاصيل والأراضي الزراعية، الثروة الحيوانية، الأمن، وما إلى ذلك. ومن الأمثلة التاريخية على هذا النهج: الحرب الأهلية الأمريكية، حروب الهنود الأمريكيين، وحرب ألمانيا النازية ضد الاتحاد السوفيتي. لكن الاستراتيجية الإسرائيلية تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك: تدمير البنية التحتية للسكان المستهدفين بالكامل لتحقيق تهجير جماعي "طوعي"!! أو قسري، وفي نهاية المطاف إبادة.

ومن عناصر العقاب الجماعي: قتل المدنيين، بما ينتهك مبدأ المسؤولية الفردية، لاستهدافه أفرادًا غير مسؤولين عن الأفعال المرتكبة، مما يُقوّض الأنظمة القانونية الحديثة، التي تحصر المسؤولية الجنائية بالأفراد. وقد استُخدمت سياسة العقاب الجماعي على نطاق واسع عبر التاريخ، لا سيما في نضالات التحرير ضد الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية. وقد اتسمت هذه السياسة باستخدام القوة المميتة، وأشكال العنف غير المميتة، مثل التهجير القسري والتعذيب والاغتصاب، مثلما ظهر جليا في برنامج هاملت الاستراتيجي الأمريكي خلال حرب فيتنام. وهذه أعمال محظورة بموجب اتفاقيات جنيف.
إسرائيل تضرب بالقانون الدولي عرض الحائط

بفضل دعم واشنطن وتقاعس بروكسيل، تمكنت إسرائيل من تجاهل جميع المحظورات الواردة في اتفاقيات جنيف وتعديلاتها. فاقترنت الإبادة في غزة بقصف عشوائي واسع النطاق في واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، مما شكّل سابقة تاريخية. وتمت هذه الإبادة بدعم من الولايات المتحدة التي أنفقت منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ما لا يقل عن 22,8 مليار دولار على المساعدات العسكرية لإسرائيل والعمليات ذات الصلة في المنطقة.

وبناءً على أسلافها التاريخية، والقصف المكثف واستخدام الذكاء الاصطناعي لزيادة الموت والدمار، كانت النتيجة هي الإبادة والمحو. وبحلول أواخر أبريل/نيسان 2024، وبعد نصف عام تقريبًا من الحرب، أسقطت إسرائيل أكثر من 70 ألف طن من القنابل على غزة، متجاوزةً بذلك قصف مدن دريسدن وهامبورغ ولندن مجتمعةً خلال الحرب العالمية الثانية.

إن الأهداف في غزة نموذجية لنوع الفظائع الجماعية وتدمير البنية التحتية التي تغطيها اتفاقية الإبادة الجماعية. والأسوأ من ذلك، أن أكثر من ثلثي الذين لقوا حتفهم في غزة، وفقًا لمعظم الروايات، هم من النساء والأطفال وكبار السن، ومن المرجح أن يكون الرقم النهائي أعلى بكثير.

شركاء غربيون في الإبادة

لم يكن حجم الدمار في غزة قابلاً للاستمرار إلا بفضل التدفق المستمر للأسلحة الأمريكية، والذي تضمنه المساعدات العسكرية الأمريكية والتمويل اللازم لها. وهذه المساعدات هي نتيجة نصف قرن من التعاون العسكري الثنائي في الظلال المظلمة للتاريخ، بدءاً من العلاقات العسكرية لإسرائيل مع جنوب أفريقيا في عهد نظام الفصل العنصري والمشاركة في "الحروب القذرة" التي شنتها الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية، وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وحتى آسيا منذ سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.

وفقا لاتفاقية الإبادة الجماعية، فإن المادة الثالثة منها صريحة بشأن الجرائم التي يمكن المعاقبة عليها بموجب الاتفاقية، بما في ذلك "التواطؤ في الإبادة الجماعية". وفي الولايات المتحدة، يبدو أن المسؤولية الإضافية تبدأ على أعلى مستوى من صانعي القرار، بما في ذلك إدارتي بايدن وترامب وقائمة طويلة من مرؤوسيهم الذين لم يدقوا ناقوس الخطر بشأن استخدام عمليات نقل الأسلحة إلى إسرائيل في تجاهل صارخ للسياسة الخارجية للولايات المتحدة. وكذلك، الدعم الاستخباراتي والدبلوماسي، إلى جانب الدعم المفتوح للتطهير العرقي والمشاركة المباشرة في التصعيد الإقليمي. ونقلت إدارة ترامب أهوال التواطؤ إلى مستوى مختلف تماما فاق ما فعلته إدارة بايدن: مستوى أعمق وأكثر تدميرا.

بفضل دعم واشنطن وتقاعس بروكسيل، تمكنت إسرائيل من تجاهل جميع المحظورات الواردة في اتفاقيات جنيف وتعديلاتها. فاقترنت الإبادة في غزة بقصف عشوائي واسع النطاق في واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، مما شكّل سابقة تاريخية. وتمت هذه الإبادة بدعم من الولايات المتحدة التي أنفقت منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ما لا يقل عن 22,8 مليار دولار على المساعدات العسكرية لإسرائيل والعمليات ذات الصلة في المنطقة.
ويجب أيضا محاسبة المستفيدين من الإبادة. والأسوأ من ذلك، الأبواب الدوارة السائدة بين الإدارة الأمريكية والبنتاغون والمجمع الصناعي العسكري، ومراكز الفكر المفضلة لديهم. فهم جميعا مشاركون في استراتيجية المحو، مما يولد مخاطر أخلاقية هائلة وتضاربًا في المصالح. كما أن نقل الأسلحة يسمن بطون مقاولي الدفاع.

ولا تمثل الولايات المتحدة سوى ثلثي عمليات نقل الأسلحة إلى إسرائيل، لكن أوروبا تزود إسرائيل بالباقي: ألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والعديد من اللاعبين الأصغر. كما تعتمد إسرائيل على أوروبا في التجارة.

إذن في غزة، تضغط إسرائيل على الزناد، لكن إمدادات الرصاص والأسلحة والتمويل والاستخبارات تأتي من الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة.

ما يحدث في غزة لن يبقى فيها

إن الأهداف في غزة نموذجية لنوع الفظائع الجماعية وتدمير البنية التحتية التي تغطيها اتفاقية الإبادة الجماعية. لقد اُستهدف المقاتلون وغير المقاتلين على حد سواء، وقُتل أكثر من 62,000 فلسطيني، وجُرح ما يقرب من 160,000. ودُمرت المراكز الحضرية، والمخيمات، والمباني العامة والمستشفيات، والبيئة بأكملها. والحصيلة هي التدمير الشامل لغزة، فأصبحت غير صالحة للسكن. وعلى خلاف الحروب التي تكون بين جيوش أو جهات فاعلة غير حكومية، فإن الوضع في غزة مختلف عنها تماما: 70% من القتلى والجرحى هم من النساء والأطفال الذين لا علاقة لهم بالأعمال العدائية. وقد اُستهدف أكثرهم من القناصة الإسرائيليين. هذه ليست حربا. هذه هي المذبحة الجماعية.

وترافق مع هذه الإبادة تقليص أو إبطال التنمية المستقبلية، وبالتالي تقويض التقدم الاقتصادي بالكامل. ويرتبط الأثر الصافي لهذا التقويض بتراجع التنمية وتخلفها، كما يتضح من انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لغزة بأكثر من 80% في منتصف عام 2024.

إن ما حدث ويحدث في غزة لن يبقى فيها. فإذا تُركت "عقيدة المحو" دون رادع، فمن المرجح أن تُمهد الطريق لفظائع إبادة جماعية أكثر تدميراً وسحقاً في المستقبل.

الغرب وتفريغ اتفاقية الإبادة الجماعية من فعاليتها

من أحد الجوانب الأكثر إثارة للاهتمام هي الحجة القائلة بأنه، على عكس رغبات رافائيل ليمكين، تم نشر اتفاقية الإبادة الجماعية بطريقة تمكن من حدوث الإبادة الجماعية بدلا من استباقها ومنع حدوثها. فقد ركز ليمكين في الأصل على "الهجمات التحضيرية" وإشارات الإنذار المبكر، لاستباق الفظائع الجماعية قبل حدوثها. وقد كان مدعوما في البداية بشكل أساسي من البلدان النامية في جنوب الكرة الأرضية؛ وليس من قبل الدول الغربية التي سعى مندوبيها إلى تقويض سعيه. ومع ذلك، وبدلا من استباق الفظائع الجماعية الجديدة، أصبح الهدف هو تسمية الإبادة الجماعية وإدانتها وتسجيلها، ولكن فقط بعد وقوعها.

لقد تم تخفيف مواد اتفاقية الإبادة الجماعية بذكاء من قبل القوى الغربية لتقويض تدابير منع الإبادة الجماعية. وكل هذا يعود إلى الأيام الأولى للحرب الباردة، عندما دفن الرئيس الأمريكي هاري ترومان إرث الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ل"الأمم المتحدة الفعالة". وقد اختلفت الدوافع لدى الدول الغربية؛ لكن الموروثات الاستعمارية كانت القاسم المشترك. لم تُرد لندن فتح تحقيقات في الإبادة الجماعية في الإمبراطورية البريطانية. وكانت واشنطن قلقة بشأن توجيه الاهتمام الدولي إلى الفصل العنصري، والعديد من عمليات الإعدام خارج نطاق القانون للأمريكيين من أصل أفريقي، ومذابح الإبادة الجماعية للأمريكيين الأصليين. وكانت هذه المخاوف نموذجية أيضا للدول الاستعمارية السابقة الأخرى، بما فيها فرنسا وهولندا وكندا والسويد وألمانيا المهزومة وإيطاليا واليابان.

العدالة الدولية العرجاء

يشير سجل المحكمة الجنائية الدولية (ICC) خلال العقدين الماضيين إلى وجود فجوة كبيرة بين نطاق ولايتها الواسعة ومواردها المحدودة للغاية، ودعم الدول لها. وهناك فرق كبير بينها وبين المحاكم الخاصة التي أُنشئت لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب في بعض الصراعات. فقد ركزت الحكومات المؤثرة، وخاصة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، على صراعات مختارة بناءً على مصالحها، لدعم ما تعتبره عدالة دولية عبر محاكم خاصة بالاعتماد بشكل رئيسي على الغرب، المنتصر في 1945، مما حقق نتائج؛ لكنها تعتمد بشكل كبير على الدعم السياسي والاستخباراتي الأمريكي والقوات التي يقودها حلف شمال الأطلسي. وقد أدانت محكمة يوغوسلافيا السابقة ما يقرب من 90 شخصًا، بمن فيهم كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين. وبالمثل، أدانت محكمة رواندا أكثر من 60 فردًا، أي ما يقرب من ثلثي المتهمين بارتكاب جرائم.

أما المحكمة الجنائية الدولية، ورغم ما تتمتع به من سلطة قضائية واسعة، فدعمها السياسي ضعيف. ولهذا السبب، تحركت بحذر عندما بدأت عملياتها عام 2003. وقد تغير هذا النمط عام 2010، عندما أطلق المدعي العام للجنائية الدولية تحقيقًا في كينيا. وفي السنوات اللاحقة، ارتفع عدد التحقيقات إلى 17 تحقيقًا؛ لكن النتائج كانت قليلة. وعلى مدار أكثر من 20 عامًا، أصدرت الجنائية الدولية أحكامًا بالإدانة في 4 قضايا فقط، بينما باءت معظم أوامر الاعتقال الصادرة عنها بالفشل. ومع ذلك، يُظهر سجلها أنها يمكن أن تكون فعالة للغاية عندما تتوافق آراء الممولين الرئيسيين لها ومعظم الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. ونظرًا لمسارها الحالي، فمن المرجح أن تُثبت المحكمة عدم فعاليتها وضعف قدرتها على التنفيذ في حرب غزة، مثلما هو حادث في قرار اعتقال نتنياهو الذي لم ينفذ حتى اليوم بحجة حصانات الدول غير الأعضاء في الجنائية الدولية. وهذا ما صرحت به فرنسا وألمانيا. ولكن مع ذلك، يبقى للقرار قيمته المعنوية.

وبالنسبة لمحكمة العدل الدولية، فإن اتفاقية الإبادة الجماعية وُضعت للحيلولة دون تنفيذها. وظهر هذا القصور في استبعاد عناصر أساسية من قضية الإبادة الجماعية المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، واقترن ذلك بتخفيف العناصر المتبقية وتراجع إنفاذها.

ما المخرج إذن؟

لن تنشأ الملاحقة القضائية الفعالة للإبادة الجماعية إلا عندما تتمكن اتفاقية الإبادة الجماعية من تحقيق هدفها النهائي: منع جريمة الإبادة الجماعية، والمعاقبة عليها، والتحول من "عدالة المنتصرين" إلى "عدالة الضحايا". لكنها لن تكون قابلة للتطبيق ما لم يكن لبلدان جنوب الكرة الأرضية صوت وتمثيل مناسبين في منع الإبادة الجماعية بشكل خاص، وفي الحوكمة العالمية بشكل عام. وبدون مثل هذه القوى التعويضية الفعالة؟ فإن "عقيدة المحو" تشكل سابقة فظيعة وتوفر مخططا وحشيا لما هو أسوأ بكثير في المستقبل.

التعليق

في ختام هذا العرض الموجز لكتاب دان شتاينبوك، نؤكد أنه على الرغم من ضرورة التدافع الدولي بين الشمال والجنوب، وأهمية الحراك العالمي الرافض للحرب والداعم للقطاع، سواء على مستوى الحكومات والشعوب؛ فإن المخرج هو ما تعلمناه من ديننا وتاريخنا: توحد الأمة دعما ونصرة لغزة وشعبها الصامد ومقاومتها الباسلة؛ وإلا فلينتظر كل متواطئ أو ساكت "عقيدة المحو" التي ستُعملها إسرائيل فيهم وفي شعوبهم ودولهم لتحقيق مشروعها التوسعي في الشرق الأوسط، والذي يشمل فلسطين التاريخية وأراضي ست دول عربية أخرى على الأقل، والتي رأينا بوادر تنفيذها سواء بالتصريحات المتتالية لنتنياهو وقادة اليمين المتطرف، وفي الاستباحة الإسرائيلية المتكررة للأراضي العربية، وفي الدعم الأمريكي الصريح لهذا المشروع. وليس بالدبلوماسية وحدها، ولا بالمؤتمرات، ولا بالقرارات الدولية، أو الشجب والاستنكار، تتحرر الأوطان وتنال الشعوب حريتها.