كتب

تفكيك الشرق الأوسط بين صدام الحضارات ونمطية العنف الإسلامي.. قراءة في كتاب

يُعرض الغرب كالعم الطيب الذي يقف على عتبة دار أحد الأقرباء البعيدين ـ جغرافياً حاملاً له سَلَّةٌ من الهدايا، ربما كمثل مغترب لبناني عائد إلى قريته الجبلية من سيراليون أو مِنْ سَاؤ پاؤلو.
الكتاب: تفتيت الشرق الأوسط -تاريخ الاضطرابات التي يثيرها الغرب في العالم العربي-
الكاتب: د. جيرمي سولت،ترجمة: د. نبيل صبحي الطويل
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر، دمشق -سوريا- الطبعة الأولى 2011،(عدد الصفحات 456 من القطع الكبير)


في هذا الجزء الثاني من القراءة التي يقدمها الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني للكتاب المثير للجدل "تفتيت الشرق الأوسط ـ تاريخ الاضطرابات التي يثيرها الغرب في العالم العربي" للمؤلف جيرمي سولت، نسلط الضوء على محاولة الغرب فهم الشرق الأوسط من خلال عدسة صدام الحضارات التي طرحها صموئيل هنتنغتون، وتحليل تفكيك المجتمعات الإسلامية بين عنف داخلي ومواجهة الخارج.

يناقش هذا الجزء، كما يوضح المديني، رؤية هنتنغتون التي ترى أن العنف ليس مجرد انعكاس للصراع القومي أو الطائفي، بل نتيجة اختلاف حضاري عميق، ما أضفى على المسلمين دوراً مركزيّاً في التفسيرات الغربية للاضطرابات الإقليمية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. في الوقت ذاته، يكشف الكتاب الترابط العميق بين الحضارات الغربية والإسلامية تاريخياً، ويعيد قراءة تاريخ العثمانيين وصعودهم وانحسارهم كجزء من هذا الصراع، مع التركيز على كيف تداخلت المجتمعات المسلمة مع سياسات الغرب وإرثه الثقافي والتنموي.

هذا الجزء يطرح سؤالاً محورياً: هل العنف الإسلامي حضاري بالضرورة، أم أنه نتاج تاريخ طويل من التدخل الخارجي، والهشاشة الداخلية، وفشل المشاريع الحداثية المفروضة من الغرب؟ ومن هنا، يقدم المديني قراءة نقدية تربط بين النظريات الغربية عن الصراع الحضاري ووقائع التاريخ السياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط، مستعرضاً دور المجتمعات المسلمة، الأتراك، والغرب في تشكيل مسار الأحداث على مدى قرون.


3 ـ مجتمعات منحرفة.. هنْتِنْعْتُن وصراع الحضارات

يصف صموئيل هَنتِنْعْتُن عالماً بدائياً حيث الحياة الإنسانية في حالة صراع واقع أو مبتدئ ليس بسبب طبيعته الحيوانية كما يُحاجج هوبز ولكن بسبب الاختلاف المدني ـ الحضاري! وحتى إن حقيقة أكثر الصراعات تدميراً في تاريخ العالم كانت الحروب القومية والأمبريالية ـ لم تُثْنِ هَنْتِنْعْتُن عن التأكيد أن أطول الصراعات وأعنفها على مدار القرون ولدتها الخلافات الحضارية. والصراعات الشديدة التي انفجرت عبر القرون داخل الحضارة الغربية، يُبررها ويُفسرها هَنْتِنْعْتُن على إنها حروب أهلية غربية٥. ويجعَلُ هَنْتِنْعتُن أكثر ادعاءاته تحدياً وإثارة عن الإسلام والغرب في كتابه: صدام الحضارات وإعادة إنشاء النظام العالمي. يُحاجج تحت عنوان: الحدود الدموية للإسلام أن أغلب الصراعات الناشئة عن حدود مختلف عليها حدثت وتحدث على حدود تتحلق حول آسيا وأوروبا - أوراسيا - وأفريقيا التي تفصل مسلمين عن غير مسلمين. وفيما، على المستوى الكوني للسياسات العالمية صدام الحضارات الأولي هو بين الغرب.. وبقية العالم، إلا أنه على المستوى المحلي هو صدام بين الإسلام والآخرين.

وحسب رأي هَنتِنْعْتُن المسلمون منشغلون أكثر من أتباع أية حضارات أخرى بالعنف فيما بينهم، ويبدو أنهم ميالون إلى الصراع العنيف. وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر2001، عندما بدا أن فكرته عن صدام الحضارات قد سجلت ضربة قاضية لنظرية فرنسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، عاد هنتنغتن إلى فكرته الرئيسة بقوة أكبر: السياسات الدولية المعاصرة هي عصر حروب المسلمين. يحارب المسلمون بعضهم بعضاً ويحاربون غير المسلمين أكثر بكثير مما يفعله أهل الحضارات الأخرى. ولقد حَلَّتْ حروب المسلمين محل الحرب الباردة كشكل رئيسي للصراعات الدولية، وتشمل هذه الحروب: حروب الإرهاب! وحروب العصابات الفدائيين والحروب الأهلية والحروب البينية بين دولتين. وهذه الأمثلة لعنف المسلمين يمكن جمعها في صدام كبير واحد هو صدام الحضارات بين الإسلام والغرب أو بين الإسلام وبقية العالم، ومع ذلك ليس الأمر حتمياً، وعلى الأغلب إن عنف المسلمين سيبقى متفرقاً ومتنوعاً ومتكرراً.

بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر2001، عندما بدا أن فكرته عن صدام الحضارات قد سجلت ضربة قاضية لنظرية فرنسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، عاد هنتنغتن إلى فكرته الرئيسة بقوة أكبر: السياسات الدولية المعاصرة هي عصر حروب المسلمين.
في تعليقه على كتابات هنتنغتون، يقول الكاتب جيرمي سولت: "حَتَّى زمان ميور وَصَفَ المنتقدون المسيحيون الإسلام بأنه دين الجنس والسلطة والعنف؛ ومن المفارقة في التنويعات الحديثة لهذه النظرة القديمة، أن ضعف المسلمين الآن هو الذي يقود إلى العنف حسب رأي هَنْتِنْعْتُن وَلويس، وكلا المؤلفين يَسْتَبْعِدان تأثير الغرب كسبب صحيح لغضب المسلمين. ويُعرض الغرب كالعم الطيب الذي يقف على عتبة دار أحد الأقرباء البعيدين ـ جغرافياً حاملاً له سَلَّةٌ من الهدايا، ربما كمثل مغترب لبناني عائد إلى قريته الجبلية من سيراليون أو مِنْ سَاؤ پاؤلو. والعم الطيب يفرغ جعبته من الهدايا مقدماً إياها كلها بدون استثناء: الديمقراطية والبرلمانات ـ المجالس النيابية ـ والمطابع والطرق والجسور والمعامل والسكك الحديد والكهرباء، كلها ملفوفة بحزمة واحدة اسمها: الحداثة، ولكن ويا لرغبه عندما يكتشف أن المتلقين مستاؤون من غناه ويبدون حنقهم وإحباطهم منه وتنتهي العودة إلى دياره بكارثة، وتتهاوى كل عملية التحديث وتنتهي الحفلة العم الطيب العزيز الغرب يتعجب مجروح المشاعر أنا أحاول فقط العون والمساعدة.

ويُعلّق كل واحد من أقربائه: كان عليه أن يكون أكثر معرفة وفهماً... ولكن فات وقت الأسف. لقد وقع الأذى. فرضت الديمقراطية بمراسيم الحاكم الفرد وولدت لعبة سياسية جديدة... تجاهلها الناس أو راقبتها الغالبية الكبرى من الشعب بإبهام مُرْبِك. وَسُحِبُوا إلى عالم الحداثة سواء كانوا على استعداد لذلك أم لا، وانتزعوا من خدر التفسخ المريح، ومن أوهام الاستعلاء والاكتفاء الذاتي، وتتحرك الشعوب المسلمة من الرضى الجاهل نحو المحركات القلقة والضغينة الحاسدة قبل أن تنتهي أواخر القرن العشرين إلى لخبطة متخثرة من الإذلال والامتعاض والغيظ. وهذا الخط من التفكير هو، ربما الوحيد الذي يستطيع تفسير حالتهم العقلية. وبالتأكيد ارتكب العم الغرب بعض الأخطاء في مسيرته ولكنها ليست سيئة إلى الحد الذي يُبرّر هذه الحالة، فسلوكهم هم هو الذي يحتاج إلى مستشار ماهر وليس نحن. وفلسطين كسبب مركزي للعدوانية العربية والإسلامية، يمكن عدم المبالاة بها، فهي ليست إلا المظلمة المرخصة، بتعبير البروفسور لويس.

والحجة التمدينية فَرَّخَتْ عديد التفصيلات. فرنسيس فوكوياما يقابل نجاح الغرب بفشل المسلمين.. وبالنسبة لفوكوياما الموضوع الملح الحاضر ليس هو الإرهاب نفسه بل البحر الإسلامي الفاشستي الذي يسبح فيه الإرهابيون والذي يُشكل تحدياً عقيدياً، والذي هو، بطريقة ما، أكثر أساسية مما شكلته الشيوعية. والإسلاميون الفاشستيون يرفضون كل ما يدعو له الغرب، بخاصة تسامحه وتعدديته، والتي تجد المجتمعات المسلمة بعامة صعوبة في قبولها بسبب فقدانها لسياسة التقليد العلماني الذي نلاحظه كثيراً في تاريخهم نفسه. وبالنسبة لفؤاد عجمي: فإن رجال الظل الذين يهاجمون أهدافاً أمريكية يتغذون من تيار معارض للأمركة يجري بحرية، يضرب متى يشاء ولا حدود له، بين الإسلاميين والعلمانيين سواء.

وعندما طارت النفاثات باتجاه البرجين في نيويورك، في الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001، كان هناك ارتياح ورضَى في المجتمعات المنحرفة - المُحبطة - المُمْتَعِضة لأن الثور الأميركي الراكض وبهجة النصر التي أخافت العالم ضربًا، وكان هناك ركام وسخام في شوارع نيويورك. وأدى تفجير البرجين إلى التفتيش عن العدالة في أفغانستان والعراق حيث الجنود الأميركيون يقفون مستعدين للمساعدة في اليد الأولى بندقية وفي الثانية مفك براغي ويرد ذكر شوارع الفلوجة والنجف ليس كمعابر وممرات للموت، كما أصبحت تحت تأثير النيران الأميركية الأرضية والجوية، ولكن كأماكن حيث الأمال الباكرة بثقافة تَمْتَن لتحريرها وبالتالي حريتها، ومشتاقة لخلق نظام سياسي جديد، وبدا أن هذه الأمال أصيبت بضربة رغماً عن نبل جهود الحرب"(ص33).

4 ـ المدنيات الغربية المترابطة والإسلام العدواني

ليس كل المختصين الغربيين بشؤون الشرق الأوسط والإسلام أي المستشرقون ، هم وحدهم الذين صَوَّروا الحضارة منعزلة والإسلام عدوانياً في جوهره، ضد الغرب ومنفصلاً حضارياً عنه. هاملتون جيب هيمن على دراسات الشرق الأوسط والإسلام في الجامعات البريطانية والأمريكية في النصف الأول من القرن العشرين، مثل برنارد لويس في النصف الثاني منه. وفي كتاب صدر عام 1951، وهو الوقت الذي بدأ فيه تقريباً، برنارد لويس الحديث عن أفكاره في صدام الحضارات؛ ولقد تحدى جيب التمييز المفتعل بين مدنية الغرب والحضارة الإسلامية أو العربية: في هذه النقطة ليس هناك أي شك في أن حضارة الشرق الأوسط وحضارة ما يُسَمَّى العالم الغربي مترابطتان بإحكام؛ وكلاهما، قبل وبعد ظهور الإسلام، كانتا متداخلتين.

ليس صحيحاً أن الشرق الأوسط دخل التاريخ الحديث بدون تقاليد علمانية، لأن الطبقة المسلمة الحاكمة مارست عبر قرون أخلاقيات مؤسسة على التقاليد الامبراطورية القديمة لغرب آسيا وهي بعيدة تماماً عن قيم الإسلام.
ويحاجج جيب بأن اليونان استعارت من مصادر شرقية، ولاحقاً أعادت ما استعارته. فالمسيحية القروطسية والإسلام القروطسي نسبة للقرون الوسطى -وشكراً لإرثهما المشترك ولمشاكلهما المشتركة، فقد كانا مترابطين بوثاق من النسب الروحي والفكري، وإن العالم العربي كان جزءاً متمماً ومتكاملاً مع العالم الغربي بالمعنى الواسع للتعبير.

وفيما يخص فَرْضَ الأشكال الغربية للحكومة على شرق أوسط مذهول، لم يكن الغربيون هم الذين دعوا لتبني مدونات القوانين والمؤسسات البرلمانية، والدراسة الإلزامية، وحرية الصحافة، فإن كل هذه المؤسسات طلبتها شعوب الشرق نفسها.

وحسب ما كتب جيب، ليس صحيحاً أن الشرق الأوسط دخل التاريخ الحديث بدون تقاليد علمانية، لأن الطبقة المسلمة الحاكمة مارست عبر قرون أخلاقيات مؤسسة على التقاليد الامبراطورية القديمة لغرب آسيا وهي بعيدة تماماً عن قيم الإسلام.

والمؤرخ العربي المتميز فيليب حتّي توسع في هذا الموضوع بملاحظته أن المجتمعات المسلمة كانت لها تقاليد علمانية في الحكم يعود تاريخها تقريباً إلى بداية الإسلام. والواقع أنه خلال حكم الممالك الإسلامية الكبرى، كانت العقائد والمبادئ، دائماً في الدرجة الثانية بعد مصلحة الحاكم والدولة والمشرعين والفقهاء في المؤسسات الدينية الذين كانوا يُستشارون ويُستفتون، لتبرير شرعي لأي أمر قضى به الحاكم أو أراد القيام به، وأي عالم يتجاسر على إبداء رأي الشرع في أمر لا يريد الحاكم سماعه، قد يُعدم بقطع رأسه.

5 ـ صعود الأتراك

في سياق هذا الاستعراض التاريخي للعداء المتفشي بين الإسلام والغرب، ينتقل الكاتب جيرمي سولت إلى المرحلة العثمانية،حيث  تحرك المسلمون خارج شبه جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي من خلال البديل التركي. القباب المكسوة بالأجر الأزرق - الأخضر والمآذن المحيطة بقبر الصوفي الكبير جلال الدين الرومي في قونيا ومأذننا المسجد المركزي في أرضروم هي من بين الإنجازات الهندسية المعادية التي تذكر بأعمال السلاجقة الأتراك، إلا أن العثمانيين هم الذين تركوا أكبر بصماتهم على تاريخ العالم. ففي قرنهم الامبراطوري الأول بعد استيلائهم على القسطنطينية عام 1453، اكتسحوا المناطق المعرضة المجاورة لهم عام 1514 وسحقوا الفرس في شلديران، وضموا أيضاً العراق وسوريا وغرب شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا... حتى المحيط الأطلسي إلى مُلْكِ السلطان، وعام 1526 هزموا ملك هنغاريا في موهاكس، وبعد ثلاث سنوات حاصروا فيينا وواجهوا أول معاركهم الخاسرة هناك: ولقد عاكسهم في طريقهم سوء الأحوال الجوية وخسروا آلاف الجمال التي تكسرت أرجلها في التضاريس الخشنة، ثم واجهوا دفاعات لم يستطيعوا اقتحامها وكان عليهم أن يتراجعوا. وعام 1683 وصل العثمانيون مجدداً، إلى فيينا إلا أنهم صُدُّوا ورُدُّوا على يد الجيش المسيحي المشترك. لقد وصلوا أوج قوتهم، وكان على هذا الصعود الدراماتيكي أن يتبعه الآن انحسار تدريجي.

يقول الكاتب جيرمي سولت: "لم يثر أي من المسلمين الحنق والغيظ لدى المناظرين الجدليين المسيحيين مثلما فعل الأتراك. كان الإسلام القديم مقتاً وبغضاً لهم، إلا أن الأتراك ليسوا العرب المعتدلين القدامى؛ وربما لو غاب الترك في التاريخ لكان الناقدون المسيحيون أقل شدة أيضاً، إلا أن الأتراك لا زالوا موجودين كثيراً في الحاضر، ورُوِيَتْ عن انتصاراتهم في المعارك قصص فظيعة عن مذابح وخوازيق وأسلمة بالقوة والإكراه، وَعَنْ نساء اخترن الموت ولا العار على أيدي المسلمين بالانتحار برمي أنفُسِهِنَّ من المنحدرات الصخرية الشاهقة.

وفي التقديرات المسيحية الإسلام هو دين السلطة والقوة قبل كل شيء آخر وليس دين العدالة كما يراه المسلمون، ولقد وجد في الأتراك السبيل المثالي للتعبير عن أسوأ خصائصه، وَحُقِنَتْ هذه الانطباعات بقوة في وعي المسيحيين جيلاً بعد جيل. الإسلام ذاته أو شرور الحكومة المحمدية في أيدي الأتراك موضوع يثار بصورة منتظمة كأسباب لكل المشكلات الطالعة في الإمبراطورية العثمانية التي تمس المسيحيين وحقيقة حياة المسيحيين الذين يتعايشون بسلام مع المسلمين في فترات زمنية ما بين نوبات الاضطرابات، دفعت بالبعض ليضع جانباً كل التفسيرات المتعددة الأهداف والعابرة للتاريخ ويفتش عن أسباب أخرى"(ص44).

ببساطة كان الأتراك في مكان ليس لهم أن يكونوا فيه، وكثيراً ما كانت الصلوات تتردد عن يوم آب ستعود فيه القسطنطينية لأيدي المسيحيين واللوحات الكبرى التي تحمل اسم محمد والخلفاء الراشدين الأربعة منزوعة عن جدران أيا صوفيا، الكاتدرائية التي أصبحت مسجداً وهي آلان متحف قائم خارج قصر السلطان.

وبمجيء القرن التاسع عشر بدت هذه اللحظة تقترب بسرعة، ففي حروبها خسرت الامبراطورية العثمانية مساحات كبرى من الأرض في المناطق المحيطة بالبحر الأسود وفي القوقاز، والآن في بلاد البلقان حيث استمر النزيف العثماني. في عام 1821 قام اليونان في موريا Morea بهجوم عام ليس فقط على رموز الحكومة العثمانية محصلي الضرائب والرسميين الآخرين، ولكن على جميع المسلمين في المنطقة، وربما قتلوا خلال شهر واحد خمسة عشر ألفاً من الفلاحين المسلمين ودمروا آلاف المنازل وبطلب من السلطان عبر جيش مصري بقيادة إبراهيم باشا الشهير البحر المتوسط لإخماد التمرد اليوناني، وكان سينجح بلا شك في مهمته لولا التدخل العسكري البريطاني والفرنسي والروسي. ولقد دمرت أساطيلهم الأسطول المصري العثماني في نافارينو في 20 تشرين أول 1827، وأجبروا السلطان على إعطاء المتمردين اليونان استقلالهم. وبعثت هذه الحادثة إشارة إلى المسيحيين الآخرين بأنهم إذا تمردوا، قد تتدخل الحكومات الأوروبية لتأمين استقلالهم أيضاً.

وعندما تمرد مسيحيو بوسنيا ـ هر سغوفينا عام 1875وتبعهم البلغار بعد عام واحد، أثار وليم إيوارت غلادستون السياسي البريطاني الداعي الدائم لحقوق المسيحيين في المقاطعات السلوفانية في الامبراطورية العثمانية، كراهية الأتراك بسبب دعوته العدائية هذه: إنهم ليسوا المعتدلين المحمديين الهنود وليس لهم شهامة صلاح الدين الأيوبي في سورية، ولا هم المثقفون المسلمون ـ المور ـ في الأندلس.

هذا ما كتبه في منشوره الشنيع: الفظائع البلغارية والمسألة الشرقية ١٨٧٦. كانوا ـ ويعني الأتراك ـ بصورة عامة وبعد اليوم الأسود الأول الذي دخلوا فيه أوروبا، أحد أكبر الأمثلة لأعداء الإنسانية بين بني البشر. وحيثما ذهبوا خلفوا وراءهم خطاً عريضاً من الدم، وحيثما حل سلطانهم غابت المدنية عن الأنظار. ولقد كانوا يمثلون في كل مكان حكومة بالقوة في مقابل حكومة بالقانون، وتوجههم في هذه الحياة قدرية قاسية لأن جزاءهم في الآخرة جنَّة حسية. وكانت صحف لندن تمتلئ بروايات عن قرويين ذُبحوا على أيدي مسلحين عثمانيين غير منظمين ـ الكثير منهم من اليوماكس ـ أي مسيحيين بلغار تحولوا إلى الإسلام أو شراكسة مسلمين من الذين طردهم الروس من القوقاز وأعيد إسكانهم في أراضي البلقان، أو من جماعات مكدسة في القرى مثل حطب الوقود.

ويبدو أن غلادستون لم يلاحظ المسلمين القتلى حوالي الألف منهم، الذين ذبحهم المتمردون البلغار قبل أن يتدخل العثمانيون وفي القمع الشرس الذي تلى ذلك، فَقَدَ ما بين ثلاثة آلاف إلى اثني عشر ألف مسيحي حياتهم، ولكن فظائع أكبر من الفظائع البلغارية حلت بالمسلمين بعد ذلك، عندما أرسل الجنود الروس المحاربة العثمانيين باسم المسيحية المضطهدة في نيسان عام 1877، هم والمتطوعون البلغار الذين ركبوا قطارات الجيش الروسي، ذَبَحُوا المسلمين حيثما وجدوهم، وقَرْيةً بعد قرية جرى نهبها وتدميرها وهاجمت العصابات البلغارية الضارية قوافل النازحين المسلمين الذي خرجوا من المناطق التي استولى عليها الروس. وضحايا هذه النوبة من القتل والاغتصاب والنهب شملت اليهود الذين كانوا آمنين ومحميين تماماً تحت حكم العثمانيين المسلمين. أكثر من 260000 مسلم قُتِلُوا أو ماتوا بسبب الحرب، وأكثر من نصف مليون مسلم طردوا من بلغاريا، وهم يمثلون أكثر من %55 من مسلمي بلغاريا، ولم يكن لدى غلادستون أي تعليق أو إشارة إلى هؤلاء أيضاً.

لم يكن هناك بيانات ومناشير ولا دعاية عن هذه الفظائع ولا اجتمعات في القاعات البلدية العامة للتحدث فيها عن المسلمين المنهوبين المسروقين والذين قتلوا على أيدي المسيحيين. وحصل تطهير ديني آخر للمسلمين الذين بقوا في المناطق الأوروبية من السلطنة، في حَرْبِ البلقان في عام 1912-1913وَسَيَرِدُ ذِكْرهم لاحقاً في هذا الكتاب. وانتهت الحرب دبلوماسياً في مؤتمر برلين عام 1878، والاتفاقية التي صَدَرَتْ كانت كضربة فأس موجهة إلى جذور الامبراطورية العثمانية. ومتشجعين بما أنجزه البلغار بدعم أوروبي، بدأ الماكيدونيون والأرمن الآن عصيانهم المسلح.

إقرأ أيضا: الشرق الممزق.. قراءة في التدخل الغربي وصراع الحضارات.. كتاب جديد