كتب

اندماج المهاجرين.. الهوية والتنوع الثقافي من زاوية جديدة.. قراءة في كتاب

شهدت بلدان الجنوب الأوروبي كإسبانيا وإيطاليا والبرتغال ارتفاعا ملحوظا في معدلات الأجانب بسبب طلبات اللجوء أو تجميع العائلات أو الهجرة غير الشرعية.
الكتاب: نكران الثقافات
الكاتب: هوغ لاغرانج، ترجمة سليمان رياشي
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط 1، الدوحة -قطر 2016
عدد الصفحات: 400 صفحة


ـ 1 ـ

تصادر دراسات علم الاجتماع على أنّ للمعازل (الغيتوهات) التي وضع فيها الأجانب ففصلتهم عن المجتمعات الغربية في عامة القرن العشرين آثارا كارثية. فقد أثرت في الأجيال الثانية والثالثة للهجرة. فخلقت لديهم شعورا بالتهميش الممنهج عسّر اندماجهم. فكان لإحساسهم بالرفض تبعات جمة تحملتها هذه المجتمعات نفسها لاحقا.

ولا يرفض هوغ لاغرانج مؤلف كتاب "نكران الثقافات" دور العوامل اقتصادية أو تمييزية في تفسير فشل تعسّر اندماج الأجيال الثانية أو الثالثة من أبناء المهاجرين كما يعتقد أغلب السوسيولوجيون. ولكنه يعتقد أنّ الاقتصار على هذه الزاوية رسّخ ما يصطلح عليه بـ"ـنكران الثقافات" ويقصد بالعبارة رفض المجتمعات الأوروبية وفرنسا خاصّة، الاعتراف بوجود الثقافات متعدّدة داخلها ناشئة عن تعدد الأعراق في نسيجها والتّمسك بالمقابل، بفكرة الثقافة الواحدة التي هي ثقافة البيض من أصول فرنسية. ويرى أنّ زوايا أخرى يمكن تمنحنا فهما أفضل للظاهرة بعيدا عن هذا التبسيط الذي يغذّي أشكالا متعددة من الصدام المجتمعي والصراع الثقافي. ويبدو المفكر واعيا بأنه يسلك مسلكا وعرا وأنّ عليه أن يكون حذرا وهو يعبر طريقه بين متاهتين: العنصرية البيولوجية من ناحية والحتمية الثقافية من ناحية ثانية.

ـ 2 ـ

تَشكل في القرن العشرين أملان انتهى كلّ منهما بخيبة أمل صادمة كانت لها ارتداداتها على العالم الغربي وأثرها على العالم بأسره لاحقا. فنهاية الحربين مثلت حلما بمواصلة ثورة الأنوار وتوسيع هامش الحريات في كثير من البلدان وسريان ضرب من التضامن الاجتماعي عبر الحد من أوجه اللامساواة. وأخذ العالم يسير بسرعة كبيرة نحو التحكم في التكنولوجيا وانفتحت الحياة الاجتماعية وتحررت المرأة واكتسبت شرائح كثيرة حق الاقتراع. وفي ظل تسارع النمو الاقتصادي أخذت أوروبا تستقدم المهاجرين من خارجها للمساعدة في بناء اقتصادها. ثم كانت الانتكاسة التي عصفت بكل تلك الأحلام.

خلق "إنكار الثقافات" فجوة بين الواقع الاجتماعي والتمثلات الأكاديمية. وجعلها غير قادرة على تفسير الظواهر السوسيولوجية. ففي الواقع، تختلف المجتمعات في تمثلاتها للمفاهيم الأساسية مثل منزلة المرأة في المجتمع ودورها فيه والعلاقة بين الفرد والجماعة، أو معنى الرجولة وتصوراتها لمفهوم السلطة وصلتها بالطاعة والهيمنة الأبوية. فمثل هذا السلوك يعدّ علامة على الانضباط الاجتماعي في الشرق أو في دول الغرب الإفريقي، أما في الثقافة الأوروبية فيمثل أمارة على القمع أو التخلف وفقدان الاستقلالية.
وفي نهاية الستينات فرضت الحرکات الاحتجاجية الشبابية المناوئة للسلطة نفسها في إيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا. ووجدت لها صدى واسعا خارج الدوائر الطلابية، عند المثقفين والسياسيين وعلماء الاجتماع وباحثي الفلسفة. ولكن الصدمات الاقتصادية الكثيرة ومنها خاصّة النفطية تلتها مباشرة. ومع ارتفاع أسعار النفط وتباطؤ النمو وتزايد البطالة والتهرّم السكاني ارتفعت البطالة، وانسدّ الأفق أمام الأجيال الشّابة.

ـ 3 ـ

لقد تحوّلت نزعة التفاؤل في الحالين إلى تشاؤم اتخذ أشكالا سلوكية مختلفة. ومثلت الشرائح الهشة والطبقات الاجتماعية الدنيا للمجتمعات الغربية الضحية المباشرة لهذا الارتداد. فلم يكن بوسعها أن تواجه فقدان مواقع العمل أو خفض الأجور. وانتشرت أوجه اللامساواة في المداخيل. وتشكلت كتلة من العمال الفقراء الذي يعيشون في أحياء خاصّة بهم من المدن الصناعية. فتقاسمت البؤس على اختلاف الدول التي تنتمي إليها. فقد واجهت الولايات المتحدة في نهاية حركة الحقوق المدنية أزمة تدهور داخلي حاد في معازل السود. فتفككت الأسر وانتشر السطو واستهلاك المخدّرات والاتجار بها. وبلغ عدد السجناء أكثر من 65 سجيناً لكل عشرة آلاف مواطن غالبيتهم من السود الدين كانت جرائم القتل عندهم أرفع بعشر مرّات من البيض وحالات حمل المراهقات أعلى بأربع مرات. فوجد اليمين الأميركي في ذلك حجة ليتهمهم بالانهيار الأخلاقي، وبإسهامهم في تدمير المجتمع الأمريكي. وغيّب بالمقابل الأسباب الحقيقية ذات العلاقة بانعدام العدالة الاجتماعية.

وشهدت بلدان الجنوب الأوروبي كإسبانيا وإيطاليا والبرتغال ارتفاعا ملحوظا في معدلات الأجانب بسبب طلبات اللجوء أو تجميع العائلات أو الهجرة غير الشرعية. ومنها كان تسربهم إلى بلدان الشمال. فساد الشعور لدى الأوروبيين بأنهم يتعرضون لاجتياح من بلدان جنوب المتوسّط. ورُفع في فرنسا شعار ميشال روكار الوزير الأول في نهاية ثمانينات القرن الماضي: " لا تستطيع فرنسا أن تستقبل كل بؤس العالم".

ـ 4 ـ

كان لانتكاسة الحرية وخبوّ الأمل وارتداداتهما شرقا وغربا. ولتفسير تفاعل الغربيين مع هذه الارتدادات المحبطة انطلق هوغ لاغرانج، من مصادرة سارية في علم الاجتماع. فللمجتمعات كافة وسائل تستدعيها آليا عندما تفقد مقومات توازنها وتحاول من خلالها مواجهة تمزقها. فتستنبط جملة من الإجراءات، وتعيد ضبط أولوياتها. فكان أن عادت المجتمعات الغربية إلى حصنها المنيع وهو النزعةُ المحافظة. ففي أمريكا مثّل وصول رونالد ريغان إلى السلطة بداية صعود اليمينيين. ونشطت حركة مناهضة التيارات المطالبة بقدر أكبر في المساواة وفي فرض الحقوق. وشملت الأوساط الإنجيلية والكاثوليكية. وأطلقت حملات من أجل استعادة القيم العائلية الأصيلة، وتقوية سلطة الأهل في مواجهة تمرّد الأبناء، ومنع الإجهاض. وفي أوروبا تراجعت الحربة متأثرة بالأصوات التي ترثي القيم الأصيلة وتعلن تدهور المجتمعات. ولم يسلم خطاب الكنيسة من هذه الانتكاسة، خاصّة زمن بابوية يوحنا بولس الثاني وبندكتوس السادس عشر.

ولم تكن هذه الارتدادات أقل وطأة شرقا وجنوبا. فقد ارتبط تباطؤ النمو العالمي واستمرار الصراع في الشرق الأوسط دون أفق لحلّه وانهيار النظام الشيوعي الذي كان يضمنا قدرا من التوازن في العلاقات الدولية بمرحلة جديدة من التوترات الأيديولوجية. وأثار نشوء نظام عالمي جديد أحادي القطب الغيظ الشرقي الدّفين تجاه الغرب الاستعماري، فظهر في شكل تشنجات هوياتية وردّات فعل أصولية منها التصور الوهابي السلفي في باكستان وأفغانستان ونشاط الأصوليات لدى الترك والفرس. أما في البلدان العربية فقد انبثق هذا الخطاب من حطام التيارات القومية العربية المتهالكة. فازدهر التيار المحافظ المقاوم للمساواة بين الجنسين والمقوي للقيم البطريركية المتشددة. ومالت المجتمعات إلى الاكتفاء بالتحديث السطحي.

ـ 5 ـ

عرضنا في ما سبق من هذه الورقة تشخيص هوغ لاغرانج للانتكاسة التي اتخذت شكل حلقات مترابطة متعاقبة من خلال مفهوم "نكران الثقافات". فعرض الظواهر المرتبطة بالمهاجرين وطرح إشكاليات شائكة على صلة بمفهوم الهوية الذي يتحوّل باستمرار نحو التصلب ويغذي الخطاب اليميني الرافض للهجرة والمهاجرين. وعنى بالمفهوم النزعة الأيديولوجية التي تتجنّب الإقرار بتأثير الخلفيات الثقافية على السلوك الاجتماعي في التعامل مع الأزمات الاجتماعية وفي التعاطي مع ظاهرة الهجرة حذَرَ الاتهام بتبني خطاب تمييزي أو عنصري.

وهذا الموضوع معهود متداول بلا شك، غير أنّ عالم الاجتماع الفرنسي تناوله من زاوية مغايرة هي دور الثقافة في تفسير السلوك الاجتماعي ووصله بقضايا الهجرة، وبالتمثل الغربي، والفرنسي أساسا، لفكرة التّعدد الثقافي وكيفية تعاطيه معها. فانتقد بشدة الرؤى الليبرالية الحديثة. فقد سقط، الخطاب السوسيولوجي والسياسي الفرنسي منذ الثمانينات من وجهة نظره، في نوع من الطهرية الفكرية، بحيث جعل الثقافة "موضوعًا محرّمًا" في التحليل. وأضحى التفسير السائد لأي ظاهرة اجتماعية (كالعنف المدرسي أو فشل الاندماج أو الفقر المزمن) يعتمد حصريًا على العوامل الاقتصادية أو البنيوية، متجاهلًا الأبعاد الثقافية العميقة.

ـ 6 ـ

خلق "إنكار الثقافات" فجوة بين الواقع الاجتماعي والتمثلات الأكاديمية. وجعلها غير قادرة على تفسير الظواهر السوسيولوجية. ففي الواقع، تختلف المجتمعات في تمثلاتها للمفاهيم الأساسية مثل منزلة المرأة في المجتمع ودورها فيه والعلاقة بين الفرد والجماعة، أو معنى الرجولة وتصوراتها لمفهوم السلطة وصلتها بالطاعة والهيمنة الأبوية. فمثل هذا السلوك يعدّ علامة على الانضباط الاجتماعي في الشرق أو في دول الغرب الإفريقي، أما في الثقافة الأوروبية فيمثل أمارة على القمع أو التخلف وفقدان الاستقلالية.

وللوصل بين اختلاف التمثلات وقضايا الاندماج، استند هوغ لاغرانج إلى بحوث ميدانية أجراها في الضواحي الفرنسية، ذات التفاوت الحاد في نسب الهدر المدرسي والعنف العائلي بين فئات مهاجرة مختلفة ليرّد هذا التفاوت إلى الثقافي، أكثر من العوامل الاقتصادية. فحين تهاجر عائلات مشرقية أو إفريقية إلى أوروبا، تحدث صدامات شديدة بين هذه المرجعيات الثقافية غير منسجمة. أما الطفل فيجد نفسه ممزقا بين مرجعين متناقضين: الأسرة التقليدية والمدرسة الحديثة. ولأنّ فرص الذكور للاحتكاك بالعالم الخارجي دون رعاية الأسرة أكبر، كانت نسبة الهدر المدرسي بين الذكور من أصول إفريقية مثلا أعلى بثلاثة أضعاف من مثيلاتها لدى الفرنسيين الأصليين أو الأوروبيين الشرقيين.

في نهاية الستينات فرضت الحرکات الاحتجاجية الشبابية المناوئة للسلطة نفسها في إيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا. ووجدت لها صدى واسعا خارج الدوائر الطلابية، عند المثقفين والسياسيين وعلماء الاجتماع وباحثي الفلسفة. ولكن الصدمات الاقتصادية الكثيرة ومنها خاصّة النفطية تلتها مباشرة. ومع ارتفاع أسعار النفط وتباطؤ النمو وتزايد البطالة والتهرّم السكاني ارتفعت البطالة، وانسدّ الأفق أمام الأجيال الشّابة.
إذن ما يميّز طرح لاغرانج هو إصراره على أن الثقافة تتفاعل مع الاقتصاد والسياسة وطرحه لما يسميه بـ"النموذج الوسيط" بين البنيوية الاقتصادية والأنثروبولوجيا الثقافية. ويجد في ما يسميه بالنموذج الجمهوري المجرّد الذي يفترض المساواة المطلقة بين الأفراد دون مراعاة فروقاتهم الثقافية ويتجاهل خصوصياتهم الرمزية والثقافية مثالا على العجر عن تشخيص مثل هذه الظواهر الاجتماعية.

ـ 7 ـ

نفهم عندئذ المراد بعبارة "نكران الثقافة" الواردة في عنوان الكتاب. فالمقاربات السوسبولوجية الغربية عامة والفرنسية خاصّة تسرع إلى إنكار ثقافة الوافدين الخاصّة المشكلة لهوياتهم وتتعمّد تجاهل التاريخ المشترك بين المستعمِر والمستعمَر سابقًا. ويجد لاغرانج في ذلك امتدادا للإرث الاستعماري، الذي لم تُعالج بعد، فهذه المقاربات تسعى إلى طمره تحت شعارات المساواة الشكلية بدل مواجهته.

وبالمقابل يرفض القول بتكافؤ جميع الثقافات أخلاقيًا التي تقول بها بعض الاتجاهات الأنتروبولوجية. فذلك يلغي إمكان النقد والإصلاح. ويرفض من جهة ثانية اختزال الفوارق في جوهر عرقي أو بيولوجي. ويجد الحل في الإقرار بالاختلاف دون الوقوع في الحتمية. فبدون مشروع بجمع بين الكونية والعقلانية والتعدد الثقافي وستمنح أوروبا المعاصرة اليمين المتطرف مبررات صعوده وستواجه أزمة هووية عميقة. فيخاف المواطن الأصلي من "فقدان هويته" ويخاف المهاجر من "ضياع ذاته".

ـ 8 ـ

ينزل كتاب "نكران الثقافات" التوترات التي تعيشها البلدان الغربية ضمن تنافسها المحموم على الموارد النادرة. فيعيدنا على نحو ما، إلى حمى الاستعمار بحثا عن المواد الأولية للدول الأوربية المتنافسة صناعيا. وكما هو الأمر في القرن التاسع عشر يدفع فقراء الجنوب الضريبة.

من نتائج هذه الحمى الجديدة الاختلال الكبير بين الفقراء والأغنياء أفرادا ودولا. وهذا ما فرض حركات سكانية نحو الشمال الذي يظل، رغم كل أزماته، مرفّها مقارنة بالجنوب البائس والمفقّر والمتحمل لتبعات التقدم الصناعي على مستوى تفاقم مشاكل البيئة والاحتباس الحراري والتصحر.

وضمن رؤيته العميقة ينقد الباحث الفرنسي حصر العقل الغربي لمسألة المساواة في الإطار الأوروبي وداخل بلدان الاتحاد. فالأسباب قائمة خارجهما. ويعسُر البحث عن حلول لها ما لم يتجاوز هذا العقل مركزيته وما لم يُعِد مأسسة الحياة الاجتماعية والتفكير في العقد الاجتماعي وما لم يلتفت إلى السياق العالمي المفتوح والمتباين ثقافيا ليأخذ هذا التنوع بعين الاعتبار. أما الحلول الحالية القائمة على الإلقاء بالأجانب خارج الحدود عبر وزارة الهوية الوطنية والاكتفاء بخطاب سياسي منافق يتحدّث كذبا عن تعددية لا يؤمن بها، فغير قادر على محو التمييز والتصدي لكره الأجانب.

انطلاقا من هذا الطرح يمثل "إنكار الثقافات" نقدًا أخلاقيًا للحداثة الغربية التي نزعت الطابع الثقافي عن الإنسان، وحوّلته إلى كائن اقتصادي أو قانوني. فيفيد كاتبه من منجز بيير بورديو، الذي يهتم بآليات إعادة الإنتاج الاجتماعي عبر التعليم والذوق والرموز وعبر التركيز على الحقل الاجتماعي والرأسمال الرمزي ويضيف إليه البعد الثقافي الخاص الذي يتجاوز البنية الطبقية. فيصادر على أنّ نجاح الأفراد عند انتقالهم إلى فضاء جديد أو فشلهم رهين احترام رأسمالهم الثقافيّ النوعيّ الذي يختلف عن رأسمال المجتمعات الأصلية.