كتب

دور العثمانيين في مقاومة الاستيطان الصهيوني في فلسطين.. كتاب جديد(1)

ما كان ممكنا أن يجري التفكير في إنشاء دولة يهودية في ذلك الوقت لولا ما أتاحته سياسة محمد علي في الشام، ولهذا فإنه يُعد بلا ريب الممهد الأول، إن لم نقل المؤسس الأول لإسرائيل..
الكتاب: خلاصة قصة فلسطين والصهيونية من جذور الصهيونية إلى طوفان الأقصى
الكاتب: محمد إلهامي
الناشر: دار المازري، تونس، الطبعة الأولى  2025.
(عدد الصفحات 301 من القطع الكبير)

يقدّم موقع "عربي21" لقرائه هذا الجزء الأول من القراءة الخاصة التي يكتبها الباحث والكاتب التونسي توفيق المديني لكتاب: "خلاصة قصة فلسطين والصهيونية من جذور الصهيونية إلى طوفان الأقصى" لمؤلفه محمد إلهامي، والصادر عن دار المازري – تونس، الطبعة الأولى 2025 (301 صفحة من القطع الكبير).

تأتي هذه القراءة في إطار محاولة فكرية لفهم جذور الصراع العربي ـ الصهيوني من خلال تفكيك المسارات التاريخية والسياسية والدينية التي أسست لنشوء الحركة الصهيونية، ثم قيام الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين، وما رافق ذلك من تحولات كبرى في المنطقة.

إنَّ صفحات التاريخ لا تُقرأ بوصفها سردًا متفرقًا أو وقائع مفككة، بل بوصفها سلسلة مترابطة لا يتضح معناها إلا باستخلاص العبر التي تفسّرها وتربط بين مراحلها. وفي هذا السياق، يذكّر المديني بأن معركة القدس ليست حدثًا سياسيًا عابرًا، بل هي قضية دينية وحضارية ارتبطت دائمًا بحالة الأمة؛ قوةً وضعفًا، صعودًا وهبوطًا. فالقدس، بوصفها وقفًا إسلاميًا ومركزًا روحيًا وتاريخيًا، مثلت عبر العصور مقياسًا حقيقيًا لميزان القوة الحضارية في العالم الإسلامي.

وتأتي أهمية هذا الكتاب من أنه يعيد قراءة هذا التاريخ الطويل، فيكشف جذور الأطماع الصهيونية في فلسطين، وصلتها بالأيديولوجيا الدينية والسياسية، كما يسلّط الضوء على الدور العثماني في مواجهة الهجرات اليهودية المبكرة، وعلى التحوّلات الكبرى التي عرفتها المنطقة من الحملة الفرنسية إلى عهد محمد علي، وصولًا إلى تشكّل الوعي الأوروبي بالمسألة اليهودية وتحوّلها إلى مشروع سياسي مدعوم دوليًا.

بهذه الرؤية يسعى توفيق المديني، عبر هذه القراءة، إلى تقديم إطار نظري وتاريخي يساعد القارئ على فهم العوامل التي مهدت لقيام المشروع الصهيوني، وكيف تداخلت قوى الداخل والخارج، والسياسات العثمانية والأوروبية، والأطماع الدينية والاستعمارية، في تشكيل واقع لا يزال يلقي بظلاله الثقيلة على فلسطين والمنطقة حتى اليوم.

قضية المسلمين جميعا

تظل صفحات التاريخ سردًا غير مفهوم ولا مترابط، كالمعجم اللغوي، أو الدليل السياحي، أو قاعدة البيانات، إذا لم تستخلص منها الدروس و العبر التي تفسرها وتربط بينها.ولا ريب أن المعر كة حول بيت المقدس هي معركة دينية.

إن قضية القدس قضية المسلمين جميعاً، وهي وقف إسلامي، والفلسطينيون ليسوا فقط المعنيين والمسؤولين عنها، بل جميع العرب والمسلمين ومعهم الفلسطينيون معنيون بقضية القدس التي تشكل محور الصراع العربي الصهيوني على أرض فلسطين.

وقد أضحت القدس وفلسطين مقياساً لحالة الأمة من حيث الصحة والضعف، والقوة والهوان، فعندما تتماسك الأمة الإسلامية وتقوى على الصمود فإنها تسترد فلسطين وتبسط على ربوعها وجودها ومكانتها وهويتها، وعندما تضعف هذه الأمة وتتراجع بالميزان الحضاري، فإن فلسطين سرعان ما تتهاوى سواء أكان الغزاة من الصليبيين في التاريخ الغابر، أو من الصهاينة في التاريخ المعاصر، وتاريخ الصراع بين العرب والمسلمين من جهة وخصومهم من جهة أخرى شاهد على ذلك، وعلى الرغم من فترات الانحطاط والتردي التي أصابت الأمة في فترات متعاقبة من تاريخها، إلا أن التاريخ لم يسجل أن تنازلت الأمة الإسلامية عن شبر واحد من فلسطين سواءً للصليبيين أو لليهود على الرغم من محاولاتهم الحثيثة عبر التاريخ.

وتحتل القدس أهمية عالية في الأيديولوجية الصهيونية، وهذا ما قاله تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية العالمية: "إذا حصلنا يوماً على القدس وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بأي شيء فسوف أزيل كل ما ليس مقدساً منها". (ويعني كل ما ليس مقدساً لدى اليهود أي المقدسات الإسلامية والمسيحية). وسوف أحرق الآثار التي مرت عليها قرون.

إن قضية القدس قضية المسلمين جميعاً، وهي وقف إسلامي، والفلسطينيون ليسوا فقط المعنيين والمسؤولين عنها، بل جميع العرب والمسلمين ومعهم الفلسطينيون معنيون بقضية القدس التي تشكل محور الصراع العربي الصهيوني على أرض فلسطين.
وجاء في قول بن غوريون مؤسس الدولة الصهيونية 1948: "لا معنى لفلسطين من دون القدس، ولا معنى للقدس من دون الهيكل".وقال إسحق رابين رئيس الحكومة الصهيونية الأسبق بعد توقيع اتفاق أوسلو بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسرعرفات والكيان الصهيوني، إن السيادة على القدس غير قابلة للتفاوض لا الآن ولا غداً "لأنها تمثل القلب والروح للشعب اليهودي".

ولم  يشذ رئيس الحكومة الصهيونية السابق آرييل شارون عن هذا النهج، بل إنه منسجم مع قناعاته الأيديولوجية التوراتية العنصرية، إذ أكد مراراً عزمه على تعزيز تجمعات المستوطنات في الضفة الغربية مع قراره إخلاء المستعمرات في قطاع غزة وأربع مستعمرات معزولة في شمال الضفة الغربية خلال الصيف المقبل. وفي الثالث من مارس/ آذار أعلن شارون أمام اللجنة المركزية لحزب الليكود: "سنتمكن بفضل الاستيطان من الاحتفاظ إلى الأبد بمواقع مهمة وأساسية لوجودنا في القدس عاصمتنا الأبدية الموحدة وبمجموعة المستعمرات التي توجد في أكثر الأماكن قدسية في تاريخنا وبمناطق أمنية مهمة لدفاعنا". وأوضح: "أن معاليه أدوميم ستتيح لنا خلفية استراتيجية للجانب الشرقي من القدس لمنع تسلل المقاومين الأمر الذي لن يمنع التواصل الجغرافي لدولتهم المستقبلية بفضل طريق يربط بيت لحم برام الله حول أدوميم".

إن الكيان الصهيوني الذي اتخذ القدس الجديدة عاصمة له بعد العام 1948، وبعد أن أعلن ضم القدس الشرقية إلى القدس الغربية بعيد احتلاله للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، وإعلانه الضم الصهيوني للقدس بتاريخ 30/7/1980، ها هو في ظل الحكومات الصهيونية المتعاقبة يستمر في تكثيف الاستيطان من جديد من أجل تهويد القدس الشرقية وفرض حقائق على الأرض من شأنها قطع الطريق أمام قيام دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي.

في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي:" خلاصة قصة فلسطين والصهيونية من جذور الصهيونية إلى طوفان الأقصى" المتكون من مقدمة، وثمانية فصول، وخاتمة، لمؤلفه محمد إلهامي، حرص فيه الكاتب على تقديم سرد متوازن لقضية التاريخ ، مع ما يتداخل في هذه القضية من قضايا  دينية و سياسية و اجتماعية، ثم أنهى هذا السرد ببعض الدروس المستفادة و المستخلصة من هذا التاريخ.

المحاولات اليهودية في العودة إلى بيت المقدس

يؤمن اليهود بأحقيتهم في بيت المقدس وفلسطين على أساس أنها الأرض المقدسة التي عاش فيها أنبياؤهم: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهاجر إليها موسى وهارون، والأنبياء من بعدهم، وفيها كانت ذروة عصورهم عصر داود وسليمان وهما النبيان الملكان اللذان حكما من بيت المقدس. وبعد موتهما دخلت المملكة في الضعف والانقسام، ثم تمزقت وزالت تحت الضربات المتتالية من الممالك البابلية والمصرية والرومانية، حيث عاش اليهود في هذه الأرض مضطهدين مقهورين، أو أنهم أخرجوا منها وسيقوا أسرى وعبيدا.

منذ ذلك الوقت الضارب في التاريخ منذ ثلاثة آلاف عام، يحلم اليهود بالعودة إلى الأرض المقدسة وإعادة إنشاء دولتهم فيها، وبدرت منهم عبر هذا الزمن بعض محاولات كلها قد أخفقت، بل الواقع أنه تجري شكوك حول جديتها وواقعيتها. ومن أبرز هذه المحاولات: محاولة داود ديفيد رأوبيني في أوائل القرن السادس عشر الميلادي 1523م، وهي محاولة يحيط بها الغموض وأخبارها فيها مسحة أساطير. ومحاولة يوسف جوزيف ناسي بعد ذلك بأربعين عاما 1561م، وهو يهودي فان من محاكم التفتيش التحق بعد هجرته ببلاط السلطان العثماني، ويقال بانه حاول نقل مجموعات يهودية إلى طبرية التي منح حق إدارتها وإعمارها وبالنظر إلى مجمل الظروف والتفاصيل فإنه يكاد يستحيل الظن بأن هذا كان نوعا من التخطيط للعودة، وقصاراه أن يكون محاولة إنقاذ اليهود الهاربين من محاكم التفتيش ليعيشوا في مكان آمن تحت نفوذ يهودي ذي ثراء واتصال بالسلطان العثماني.

وأغلب الظن أن هذا كله كان سيُنسى لولا أن إنشاء إسرائيل حفز الصهاينة والمؤرخين للحفر والتقليب في أعماق التاريخ بحثا عن جذور المحاولات قديمة.وقد كشفت ثلاث وثائق عثمانية صادرة في 989هـ = 1581م، 991 هـ = 1583م، 993هـ = 1585م عن جهود السلطات العثمانية في منع اليهود من استيطان منطقة جبل الطور في سيناء.

ويعتبر الكاتب محمد إلهامي، أنَّه لما تقلبت الأيام وضعفت الدولة العثمانية في ذات الأحقاب التي قويت فيها وصعدت الإمبراطوريات الغربية، دخل اليهود على خط هذه التقلبات محاولين الاستفادة منها، وقد تقلبت الظروف في أوروبا بما منح اليهود أوضاعا جديدة هي أفضل من التي كانوا فيها في القرون الوسطى، بل انبثقت في أوروبا طائفة مسيحية جديدة هي البروتستانتية، واستطاعت أن تسيطر على بعض البلاد، وحملت أفكارا جديدة صبت في صالح اليهود وسنأتي لذلك بعد قليل - فتجدد أملهم في أن تكون عودتهم إلى فلسطين قد اقتربت من جديد، وعبرت هذه الآمال عن نفسها في مناشدات ونداءات وقصائد ومؤلفات، ثم في حركات عملية تسعى إلى إعادة جمع اليهود في فلسطين.

ثمة أمر يزيد من حساسية واشتباك القضية؛ ذلك أن اليهود المعاصرين يؤمنون بأن الهيكل المعبد الأكبر الذي بناه سليمان، والذي دمر تماما، قد كان قائما في موضع المسجد الأقصى الآن. وهو ما يعني عمليا أن إعادة بنائه يساوي هدم المسجد الأقصى، والذي هو القبلة الأولى والمسجد الثالث في عقيدتنا الإسلامية. ومن ها هنا فإن الصراع في جوهره صراع ديني ولن يمكن حله إلا بانتصار أحد الطرفين على الآخر انتصارًا نهائيًا، إذ المقدسات لا تقبل التهاون ولا التقسيم. ولا يملك أحد أن يتصرف فيها أو يتنازل عنها.

الصليبية الصهيونية

ثم ينتقل الكاتب إلى تحليل العلاقة العضوية  بين المسيحية البروتستانتية والحركة الصهيونية، حيث يؤمن النصارى أن المسيح عيسى بن مريم قد ولد في أرض فلسطين في بيت لحم، وفيها بعث، وفيها صلب فداء للبشرية، وفيها قبره، ولهذا فهم يحجون إليها، ويرونها أرضا مقدسة، ومن ثمَّ فعليهم واجب إيماني يتمثل في تحرير قبر المسيح من أيدي الكفار يقصدون: المسلمين.

وقد اعتنقت الدولة الرومانية المسيحية منذ عهد القيصر قسطنطين وذلك بعد وفاة المسيح بثلاثة قرون وانقسمت فيما بعد إلى كنيستين ودولتين: شرقية هي الإمبراطورية البيزنطية، وعاصمتها: القسطنطينية اسطنبول الآن وكنيستها: آيا صوفيا، ولغتها اليونانية، ومذهبها الديني: أرثوذكسي وغربية هي الإمبراطورية الرومانية الغربية، وعاصمتها: روما، وكنيستها الفاتيكان ولغتها اللاتينية.

وقد ظل الشام ومنطقة بيت المقدس عموما في أيدي الدولة الرومانية الشرقية البيزنطية، إلا فترات بسيطة كانت في ظل النفوذ الفارسي، حتى كان الفتح الإسلامي للشام ومصر، فبقيت الشام وبيت المقدس في حوزة المسلمين طوال اثني عشر قرنا من الزمان.

أضحت القدس وفلسطين مقياساً لحالة الأمة من حيث الصحة والضعف، والقوة والهوان، فعندما تتماسك الأمة الإسلامية وتقوى على الصمود فإنها تسترد فلسطين وتبسط على ربوعها وجودها ومكانتها وهويتها، وعندما تضعف هذه الأمة وتتراجع بالميزان الحضاري، فإن فلسطين سرعان ما تتهاوى سواء أكان الغزاة من الصليبيين في التاريخ الغابر، أو من الصهاينة في التاريخ المعاصر، وتاريخ الصراع بين العرب والمسلمين من جهة وخصومهم من جهة أخرى شاهد على ذلك
ثمة قرن في منتصف هذه الفترة كانت السيطرة فيه على بيت المقدس للغربيين الكاثوليك، اللاتين التابعين للفاتيكان، وتلك هي حقبة الحروب الصليبية، وهذه الحقبة استمرت قرنين في منطقة الشام، لكن لم تكن بيت المقدس في حوزتهم إلا مائة عام، حتى حررها صلاح الدين الأيوبي، ثم استكمل المماليك تحرير الشام كله من الصليبيين.وبقي الأمر على هذا النحو حتى مائة عام ماضية، حيث احتل الإنجليز بيت المقدس ديسمبر 1917م، وكتبت صحيفة بريطانية صبيحة ذلك اليوم: "الآن انتهت الحروب الصليبية".

لكن هذا الدخول الأخير للإنجليز لم يكن على يد الأرثوذكس ولا الكاثوليك، وإنما كان على يد طائفة جديدة هم البروتستانت، وهي انشقاق عن الكنيسة الكاثوليكية تزعمه القس الألماني مارتن لوثر 1483 -1546م، واستطاعت هذه الطائفة بعد فصول طويلة أن تهيمن على أقوى الممالك والدول الغربية: بريطانيا ثم أمريكا.

خرجت هذه الطائفة ببدع جديدة في أمور كثيرة، ما يهمنا منها الآن، هو نظرتهم إلى اليهود؛ لقد اعتنق الكاثوليك عقيدة ترى أن اليهود من بعد المسيح قوم منحرفون، لم يؤمنوا بالمسيح، ومن ثم فإنهم ليسوا امتدادا طبيعيا لليهود المؤمنين المذكورين في التوراة العهد القديم، وإنما الامتداد الطبيعي لهؤلاء اليهود هي الكنيسة الكاثوليكية نفسها، فهي وعاء المؤمنين الذين آمنوا بالتوراة وبالإنجيل، وبالمسيح، ومن هنا فإن ما يُذكر في التوراة عن عودة اليهود للأرض المقدسة إما أنه أمر كان ومضى وانقضى، أو أنه إنما يعني الكنيسة الكاثوليكية التي هي الامتداد الطبيعي للمؤمنين بالتوراة!

عهد محمد علي والسنوات العشر الحاسمة في عودة اليهود

ويستعرض الكاتب محمد  إلهامي تاريخ حملة نابليون بونابرت على مصر، حيث يبدأ التأريخ لضعف وانهيار الحضارة الإسلامية أمام الغرب بلحظة الحملة الفرنسية على مصر والشام ، إذ استطاع نابليون بالجيوش الفرنسية أن يحتل مصر ويتمدد إلى الشام حتى عكا، وقد عجز المماليك في مصر، التابعون للدولة العثمانية وعجز أولياؤهم العثمانيون عن دفع الجيوش الأجنبية! وهذه أول مرة ينجح فيها الكفار في احتلال القاهرة منذ بنيت، وفي احتلال العاصمة الإسلامية في مصر منذ الفتح الإسلامي. فكانت صدمة عنيفة للجميع، وبداية تأسيس حقبة جديدة.

نشر في الصحافة الفرنسية أن نابليون، وهو علماني لا دين له لكنه كان يتصنع الإيمان بحسب ما تقتضيه مصلحتة السياسة، وجه نداء لليهود ليعودوا إلى الأرض المقدسة إبان توجهه إلى الشام. وسواء أصح هذا عنه أم لم يصح، إلا أنه كان أول إشارة إلى التقاء المصلحة اليهودية والغربية. وكان إخفاق نابليون أمام أسوار عكا مفضيا إلى دفن المشروع إلى حين.

طردت جيوش فرنسا من مصر على يد تحالف عثماني إنجليزي، لكن الفرنسيين بحثوا عمن يمكن أن يقيموا معه علاقة قوية يكون مواليا لهم في مصر، فوجدوا ضابطا خطيرا في الجيش العثماني الذي طردهم اسمه محمد علي، وكان هذا الضابط شابا داهية عظيم النشاط، وكان شديد الإعجاب بنابليون وبالفرنسيين، فتحالف الطرفان حتى ملك محمد علي مصر بدعم من مشايخها وأعيانها وبالمجهود السياسي الفرنسي لدى الدولة العثمانية.

ولكن الكاتب محمد إلهامي ينطلق في تحليل تجربة حكم محمد علي في مصر و الشام من عقلية  دينية محضة، وهو ما يجعله يتناقض مع المنهج التاريخي  الموضوعي. يُعَدُّ محمد علي أخطر رجل في تاريخ الشرق منذ مائتي عام، لقد نجح فيما أخفق فيه نابليون كان سفاحًا جبارًا طاغية، شديد الدهاء والطموح، حكم مصر لنحو نصف قرن، فتركها وقد كسر فيها المجتمع الإسلامي وأنشأ فيها دولة حديثة مركزية على النمط الغربي.. كان أشد طغيانا من نابليون وباسم رجل مسلم يزعم أنه تابع للعثمانيين.

هزم محمد علي في كل حروبه أمام الكفار، وهي الحروب التي اضطر إليها، بينما انتصر في حروبه ضد المسلمين وله مذابح تاريخية في الحجاز والسودان ومصر والشام والذي يهمنا الآن هو الشام؛ فقد زحف محمد علي بجيشه الذي كَوَّنه من المصريين - بعد عملية استعباد واختطاف نادرة في وحشيتها - فانتزع الشام من ممالك الدولة العثمانية، وهزم جيوشها، وكاد يهدم الدولة كلها ويصل إلى عاصمتها القسطنطينية، وكانت لهذا آثار دولية خطيرة لم يكن الغرب مستعدا للتصدي لها، فنهض الإنجليز والروس، ثم الفرنسيون لإعادة محمد علي عن اسطنبول، والاعتراف له بملكه على مصر والشام. وبعد عشر سنوات أخرى وبعد أحداث متعددة أزيل حكم محمد علي من الشام مقابل أن تكون مصر تابعة له ويكون حكمها في أولاده من بعده.

يرى الكاتب محمد إلهامي المدافع عن الإمبراطورية العثمانية، أنَّ هذه السنوات العشر التي حكم فيها محمد علي الشام، وسيطر فيها على بيت المقدس كانت سنوات حاسمة وفاصلة في إحياء فكرة إسرائيل. فقد كانت سياسة محمد علي في مصر والشام سياسة احتلال وقح وفج لا فارق بينه وبين المحتل الإنجليزي والفرنسي، بل إن اسمه المسلم وتبعيته الشكلية للدولة العثمانية جعلته أشد شراسة وخطرًا، وجعلت مقاومته أكثر صعوبة وارتباكًا. ومن بين سياساته العديدة فإن الذي يهمنا الآن هو سیاسته في الشام، والتي يمكن إيجازها في جملة واحدة على النحو الآتي: لقد عمل محمد علي ليوفر التمكين التام للأجانب على حساب الرعايا، ولليهود والنصارى على حساب المسلمين.

ويعتقد الكاتب محمد إلهامي أنَّ محمد علي شجع هجرة اليهود إلى مصر، واستكثر منهم في إدارته، وثمة وثيقة غامضة مؤرخة قبل احتلال محمد علي للشام بتسع سنوات، وهي رسالة يهودي شامي تنقل إلى محمد علي أحوال الشام والعراق وإيران وتستشرف أحوال الشام، ما قد يشير إلى تنظيم يهودي يعمل لصالح محمد علي في هذه المناطق. وبمجرد دخول جيوشه إلى الشام أزال كل الضرائب التي كانت تؤخذ من الحجاج النصارى واليهود إلى بيت المقدس، وأصلح أديرة الرهبان الروم، وبنى محجرا صحيا للحجاج النصارى القادمين، ثم جعل الأموال التي سيدفعها هؤلاء الحجاج تحت تصرف الرهبان، في تصرف لا يمكن فهمه لرجل احتكاري يبني دولة حديثة تمركز الأموال في يدها وشرع منذ الأيام الأولى في ترميم وبناء كنس جديدة حتى من قبل أن يستقر احتلاله للشام، فأنشئت تسعة معابد لليهود في القدس، فضلًا عن الكنائس والأديرة، ووقع الخلاف بين اليهود حول بناء معابد جديدة أم بناء مساكن لاستيعاب اليهود المهاجرين الجدد، فقد عانت بيت المقدس من فائض هجرة يهودية ونصرانية. كذلك منح النصارى حق ترميم كنائسهم وبناء الجديد منها دون استئذان من السلطات العثمانية كما كان معمولا به، ومنح الأجانب حق دخول الأماكن الإسلامية المقدسة تحت حماية السلطات.

ولأول مرة في تاريخ بيت المقدس أنشئت قنصلية أجنبية فيها، هي القنصلية الإنجليزية 1839م، والتي سيكون لها دور خطير في رعاية اليهود والبروتستانت في بيت المقدس وفي الشام، وستكون مركز نفوذ إنجليزي عظيم الشأن، بل ستكون معقلا لنشر التنصير، وفي ذلك الوقت طلب القنصل الأمريكي ومقره يافا تعيين نائب له في بيت المقدس، وبدأت في ذلك الوقت النشاطات الأمريكية في المدينة المقدسة.وفي ذلك العهد الأسود وقعت أول محاولة يهودية للاستيلاء على جزء من ساحة حائط البراق يسمونه حائط المبكى بمعونة القنصل الإنجليزي، واستجابت لذلك السلطة المصرية.

لأول مرة في تاريخ بيت المقدس أنشئت قنصلية أجنبية فيها، هي القنصلية الإنجليزية 1839م، والتي سيكون لها دور خطير في رعاية اليهود والبروتستانت في بيت المقدس وفي الشام، وستكون مركز نفوذ إنجليزي عظيم الشأن، بل ستكون معقلا لنشر التنصير،
وتمتع اليهود والنصارى بوضع فوق القانون، وجرت عقوبة من أساء إليهم من جنود السلطة وإن بغير قصد، بل عفي عن جرائم قتل خطيرة بدت من بعضهم مثل حادثة الباديري، وإذا وقع تمرد في بلد ما فإن السلطة المصرية كانت ترتكب كل جريمة وحشية لمعاقبة البلدة، لكنها تستثني منهم اليهود والنصارى، فإن كان الثائرون نصارى تعاملت كأرق ما يكون التعامل! في مفارقة لا تفسير لها إلا شدة الكفر والعداوة والبغضاء التي يكنها محمد علي ورجاله للإسلام وأهله!

وعلى العكس من ذلك انتزعت بعض المساجد وجعلت اسطبلات للخيول، ونزل بالمسلمين اضطهاد فظيع ليس هذا موضع بيانه، جعل بعض الناس يرى أنها نهاية دولة الإسلام في الأرض، وتعرضت الأوقاف الإسلامية لأسوأ عمليات التخريب والاستيلاء في مقابل الأوقاف النصرانية واليهودية التي عوملت بالرعاية والعناية. ولقد لجأ كثير من كبار المسلمين وأعيانهم إلى الدخول تحت حماية القناصل الأجانب للنجاة من الإذلال والتجنيد الإجباري والضرائب الباهظة، بل تحت حماية النصارى واليهود الذين يعملون في القنصليات والمصالح الأجنبية لأنهم مشمولين بالحماية الأجنبية، فصار السيد الشريف النبيل بالأمس يعمل اليوم تحت يد خادمه السابق النصراني واليهودي للنجاة من بطش سلطة محمد علي. هذا بخلاف من هربوا وتركوا البلاد للنجاة بأنفسهم.

أنتج هذا كله انقلابا سكانيا في بيت المقدس، إذ صار اليهود أغلبية، وبعدهم النصارى، ثم صار المسلمون أقلية بسيطة، وأنتج كذلك انقلابا في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية فانحط شأن المسلمين إلى الدرك الأسفل، وعلا عليهم اليهود والنصارى من أهل البلاد، وفوق الجميع علا الأجانب!

فتح هذا الانقلاب الخطير في السياسة والاقتصاد والاجتماع شهية الثري اليهودي موسى مونتفيوري لتنظيم مشروع إعادة توطين اليهود في فلسطين، وهي أقوى محاولة قبل هرتزل، وذلك بمحاولة شراء أراض واسعة تتمتع بصلاحيات خاصة في الزراعة والتجارة، ولقي الثري اليهودي من محمد علي ترحيبا عظيما، بل عرض عليه محمد علي أن تكون القرى المشتراة ذات حكم ذاتي! وبالفعل ساهم مونتفيوري في تأسيس مستوطنات زراعية ومشاريع صناعية وأسس أول حي يهودي خارج أسوار القدس، وصنع لليهود في الشام وفلسطين وضعا ذا امتيازات خاصة ساهم - بمعاونة القنصل الإنجليزي وضغوطه - في تحويلهم إلى عنصر أجنبي منبت الصلة بالمنطقة وذي قابلية خاصة للتحول إلى جماعة وظيفية استيطانية.
إحياء فكرة "إسرائيل".

بالخلاصة، فقد كانت النتيجة النهائية لهذه السياسات في تلك السنوات، أن ولدت فكرة إخراج اليهود من أوروبا وإنشاء دولة لهم في فلسطين، فانتقلت الأحلام اليهودية من أشعار الدراويش ودعوات الحاخامات ومعابد المتدينين إلى اجتماعات السياسة وأوراق الصحف ومقالات المفكرين والمثقفين وبالتالي: أفكار الملوك والوزراء والساسة.

ومن هذا:

1 ـ نشر المفكر الاشتراكي شارل فورييه كتابه "الصناعة الزائفة" عام 1835 - 1846، وهو مبغض لليهود ويراهم مصدر شرور العالم، واقترحفي كتابه هذا التخلص من المشكلة اليهودية بطردهم من أوروبا وتوطينهم في الشام.

2 ـ نشر شافتسبري 1839م في مجلة كوارترلي ريفيو الذائعة الصير آنذاك عرضا لكتاب رحالة زار فلسطين وكتب عنها، ليخلص من ذلك إلى أنها أرض مناسبة يذهب إليها اليهود كأيد عاملة تحت إشراف القنصل الإنجليزي في القدس، وبعد ذلك بعامين، قدم هذه الفكرة في وثيقة إلى بالمرستون ٢٥ سبتمبر ١٨٤٠م يسهب فيها في فائدة هذا المشروع لبريطانيا.

كتبت التايمز أن المسألة أصبحت قضية حقيقية مطروحة على المستوى السياسي، ونشرت جريدة جلوب اللندنية القريبة من وزارة الخارجية مجموعة مقالات عام 1839- 1840 تؤيد فيها توطين أعداد كبيرة من اليهود في الشام، وحازت المقالات موافقة اللورد بالمرستون. وفي ذلك العام، كتب بالمرستون خطابه إلى سفير إنجلترا في الأستانة يقترح إنشاء دولة يهودية حماية للدولة العثمانية ضد محمد علي.

قدم الكولونيل تشرشل عام 1841م مذكرة لموسى مونتفيوري يقترح تأسيس حركة سياسية لدعم استرجاع اليهود لفلسطين.

والخلاصة أنه ما كان ممكنا أن يجري التفكير في إنشاء دولة يهودية في ذلك الوقت لولا ما أتاحته سياسة محمد علي في الشام، ولهذا فإنه يعد بلا ريب الممهد الأول، إن لم نقل المؤسس الأول لإسرائيل، ولولا أن ظروف السياسة الدولية كانت أقوى منه الحسابات خارجة عن إرادته لكانت إسرائيل قد نشأت قبل موعدها بخمسين سنة على الأقل!