كتب

دور العثمانيين في مقاومة الاستيطان الصهيوني في فلسطين.. كتاب جديد(2)

كان هرتزل في آخر حياته قد مال لتنفيذ عملية لتفجير قصر يلدز واغتيال ـ أو اعتقال ـ السلطان لينفتح الطريق أمام حكومة تركية توافق على منح فلسطين لليهود، لولا خوفه من عواقب الفشل.
الكتاب: خلاصة قصة فلسطين والصهيونية من جذور الصهيونية إلى طوفان الأقصى
الكاتب: محمد إلهامي
الناشر: دار المازري، تونس، الطبعة الأولى  2025.
(عدد الصفحات 301 من القطع الكبير)


في هذا الجزء الثاني والأخير من قراءتنا لكتاب "خلاصة قصة فلسطين والصهيونية.. من جذور الصهيونية إلى طوفان الأقصى" للباحث محمد إلهامي، يواصل الكاتب التونسي توفيق المديني تسليط الضوء على واحدة من أكثر الحقب حساسيةً في تاريخ الصراع على فلسطين: الحقبة العثمانية المتأخرة، وتحديداً عهد السلطان عبد الحميد الثاني، الذي مثّل آخر السدود السياسية الصلبة في وجه المشروع الصهيوني الناشئ. بعد أن تتبّع الجزء الأول الجذور الفكرية والسياسية للصهيونية، وتقلّبات المراحل التي مهدت لعودتها إلى الواجهة خلال القرن التاسع عشر، يأتي هذا الجزء ليكشف تفاعل الدولة العثمانية مع ذلك المشروع، وكيف واجه السلطان عبد الحميد الثاني ـ رغم أعوام الانحدار والضغوط الخارجية ـ محاولات هرتزل والدوائر الأوروبية لانتزاع اعتراف عثماني بكيان يهودي في فلسطين.

لا يكتفي المديني هنا بعرض سردية المواجهة بين هرتزل والسلطان، بل يفتح أيضاً ملفّات النفوذ الأوروبي، وأدوار القناصل، والفساد الإداري، ومحاولات التسلل اليهودي، وكيف استطاع العثمانيون ـ رغم الضعف ـ تعطيل كثير من خطط الاستيطان. كما يتابع الكاتب التحولات التي تلت سقوط السلطان عبد الحميد، ليبيّن كيف انفرج الطريق أمام الحركة الصهيونية، وكيف انتقل المشروع من حالة الارتباك بعد وفاة هرتزل إلى مرحلة القوة مع حاييم وايزمان، في ظل انهيار الدولة العثمانية والحضور العسكري البريطاني المباشر في فلسطين.

يمثّل هذا الجزء إذاً نقطة الوصل بين عناد السلطان عبد الحميد في رفض التنازل عن فلسطين، وبين اندفاع المشروع الصهيوني في أوائل القرن العشرين مستنداً إلى القوة الاستعمارية الأوروبية، وصولاً إلى اللحظة التي أصبحت فيها إقامة “الدولة اليهودية” هدفاً قابلاً للتحقق. بهذه القراءة، يستكمل المديني رسم لوحة تاريخية دقيقة تساعد القارئ على فهم كيف تقاطعت الإرادة الصهيونية مع الديناميات العثمانية والدولية، لينتقل المشروع من حلمٍ مُجهض عبر ثلاثة آلاف عام إلى واقع سياسي على الأرض بعد أقل من نصف قرن من رحيل هرتزل.


المقاومة العثمانية  للحركة الصهيونية.. هرتزل والسلطان عبد الحميد الثاني

في سياق تحليله للمراحل التاريخية، التي تم فيها إحياء فكرة "إسرائيل"، ينتقل الكاتب محمد إلهامي فيما بعد إلى تحليل الحقبة العثمانية التي شهدت فيها ـ لا سيما في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ـ مقاومة حقيقية للاستيطان الصهيوني في فلسطين . لئن كانت جهود محمد علي قد أخفقت في احتفاظه بالشام، فلقد ترکت آثاراً قوية بنى عليها اللاحقون، إذ لم تستطع الدولة العثمانية بعد استعادتها السيطرة على الشام أن ترجع بالأمور إلى ما كانت عليه، فثمة وضع جديد قد ألقى جذورا وبذورا، كالأعداد اليهودية والمشاريع الاقتصادية والسفارة الإنجليزية، كذلك فإن عودة الدولة العثمانية لحكم الشام لم يكن بمحض قوتها المنفردة بل بمساعدة الإنجليز، مما جعل الحضور الأجنبي ـ وخصوصا الإنجليزي ـ قائماً.

السلطان عبد الحميد الثاني كان سداً كبيراً يعرقل قيام أي دولة يهودية، ولقد عبر هرتزل في مذكراته مرارا عن سخطه على عبد الحميد وأنه قد خدعه واستغله ولم يعطه شيئاً، بل لقد عرض هرتزل أن يعطي ثلاثة ملايين فرنك بدون مقابل ليؤكد حسن نواياه ونوايا الصهيونية تجاه السلطنة العثمانية، فغضب السلطان وأبلغه رفض أمواله وقطع الاتصال معه،
ثم إن كانت جهود محمد علي قد ماتت فإن المحاولات اليهودية لم تمت فثمة عدد من المحاولات اليهودية في الفترة ما بين رحيل محمد علي عن الشام وحتى ظهور هرتزل والصهيونية، منها: محاولة الرحالة اليهودي لورنس أوليفانت 1880م، وهي مبسوطة في كتابه "أرض جلعاد ومحاولة صمويل مونتاجو"، المصرفي اليهودي البريطاني وعضو البرلمان الإنجليزي ورئيس جمعية أحباء صهيون لدى السلطان عبد الحميد الثاني 1893م للسماح لليهود باستعمار شرق الأردن، ومثلها في نفس العام وضع الصهيوني الألماني بوهلندروف خطة لاستجلاب عصابات صهيونية للاستقرار في شرق الأردن والعمل على طرد البدو من هذه الأنحاء. وفي تلك الفترة تأسست عدد من الجمعيات والهيئات اليهودية في دول أوروبا وروسيا تعمل على تسهيل الهجرة إلى فلسطين ودعم الأقلية اليهودية هناك، إن بالأموال مباشرة أو بإنشاء المشاريع الزراعية والصناعية.

إضافة إلى ذلك فإن المحاولات اليهودية تسربلت وتغطت بالنفوذ الأجنبي، ونستطيع أن نرى مسارين كبيرين لهذا النفوذ الأجنبي: الساسة وصناع القرار النافذون في العواصم الأوروبية والقناصل الأجانب الذين يمثلون هذه العواصم في الشام.

1 ـ فأما الساسة النافذون وصناع القرار، فقد عملوا على الدمج بين مصلحة الإمبراطورية الاستعمارية وبين هدف إعادة اليهود إلى فلسطين؛ ومن أبرز هؤلاء أرنست لاهاران السكرتير الخاص لنابليون الثالث والذي وضع كتابًا بهذا المعنى، واللورد بالمرستون الذي كان وزيرا لخارجية بريطانيا ثم رئيسا لحكومتها، وكانت له جهود واسعة في انتزاع الموافقة من السلطان العثماني على السماح بإنشاء وطن لليهود في فلسطين، وغيرهم، ومنهم من كان تعليمه وتربيته بروتستانتية عميقة مثل لويد ج الذي ذكر عن نفسه أنه يعرف البلاد المذكورة في العهد القديم.

لا ريب أن سياسة هرتزل كانت ستفضي إلى التعامل مع سلطان الدولة العثمانية، عبد الحميد الثاني في ذلك الوقت، فذلك هو الطريق الأقصر للحصول على أرض لليهود في فلسطين التي هي من بلاد الدولة العثمانية، وقد اجتهد هرتزل في لقاء عبد الحميد وفي تجهيز عرض قوي يجعل الدولة اليهودية جزءا من مصالح الدولة العثمانية، وفرصة مهمة للسلطان.

وخلاصة عرض هرتزل أن الدولة اليهودية في فلسطين والتي هي بعيدة عن القدس بطبيعة الحال، إذ لم يجرؤ على الحديث عن إقامتها في القدس تمثل دعما قويا وسندا للدولة العثمانية، إذ اليهود ما زالوا يحملون الجميل للمسلمين وللدولة العثمانية خصوصا، فهم لم يزالوا في اضطهاد مستمر في أوروبا، ولم يجدوا ملجئاً ولا عيشا طبيعيا إلا في ظل المسلمين، ولطالما لجأ اليهود إلى الديار الإسلامية قرارا من محاكم التفتيش والاضطهاد الديني، ومن ثم فإنهم أخلص الأقليات للمسلمين وهم يبحثون في هذا العالم عن حام لهم، ويا ليته يكون هو السلطان عبد الحميد، وإذا كانت لهم دولة في منطقة الشام فإنها ستكون حجر عثرة أمام الاستعمار الأوروبي وتمدد نفوذه، وستكون دعما قويا للنفوذ الإسلامي العثماني، كذلك فإن وجود اليهود المجلوبين من أوروبا وروسيا يوفرون شروط تنمية وإعمار هذه الأرض برؤوس أموال وخبرات أوروبية مع عمالة رخيصة، وكل هذا يصب في ميزانية السلطنة نهاية الأمر.

وأسند هرتزل عرضه هذا بدعم مالي سخي، وكانت الدولة العثمانية حينها في ورطة مالية عنيفة جعلتها مضطرة لأن ترهن ماليتها تقريبا لمحنة استعمارية أوروبية لسداد ديون ثقيلة الوطأة، فعرض هرتزل عشرين مليون ليرة ذهبية في وقت كان الدخل السنوي للدولة العثمانية هو ثمانون ألف ليرة فقط! وذكر هرتزل بأن هذا العرض المالي لا يمكن إيجاد مثله، لأن اليهود فقط يحاولون شراء أرض لا يهتم لها أحد غيرهم، وهذا ما ينقذ العثمانيين من المخلب الأوروبي.

وفوق ذلك فإنه سيبذل جهده لتهدئة الأرمن، وزعماءهم في أوروبا، وكان ذلك في خضم تمرد قوي تدخل على خطه أعداء الدولة العثمانية لتنفيذ تقسيمها ومنح الأرمن استقلالهم، كما سيبذل جهده الإعلامي في الدفاع عن السياسة العثمانية وصورة السلطان في الصحافة الغربية التي لا تكف عن تشويهه والتحريض عليه.

لكن عبد الحميد الثاني  رفض هذا العرض، وأبلغ هرتزل كلمته الشهيرة: "لا أقدر أن أبيع ولو قدما واحدا من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي. لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غذوها فيما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا.. ليحتفظ اليهود ببلايينهم، فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون مقابل. إنما لن تقسم إلا جثثنا ولن أقبل بتشريحنا لأي غرض كان".

ومع ذلك فقد أراد عبد الحميد استغلال هرتزل وطاقته وعلاقاته، فلم يقطع الخيط معه، وقد وجه إليه عزت باشا المستشار المقرب من عبد الحميد، وهو عربي دمشقي ليطمعه بمحاولة ثانية مثل شراء اليهود لقبرص وكان الإنجليز يحتلونها آنذاك وإهدائها للسلطان مع مزيد من المال مقابل قطعة أرض في فلسطين، وقد لمعت الفكرة في رأس هرتزل فعلاً، وطلب منه أيضا تهدئة زعماء الأرمن والصحف الأوروبية فيما يخص مسألة الأرمن، وقد بذل هرتزل جهدا قويا في هذا بالفعل طامعا أن يقترب بذلك من غرضه، وقضى هرتزل أمدا داعما للدولة العثمانية ولعبد الحميد متخوفا من تفكير الدول الأوروبية في خلعه، إذ خلعه سيكون نذيرا سيئا على الحركة الصهيونية، وذلك لأن السلطان القادم بدعم الدول الغربية لن يكون محتاجا لأموال اليهود، ومن ثم فلن يفكر في فكرة هذه الدولة، وقد وقف هرتزل مع الدولة العثمانية في حربها ضد اليونان المدعومة من روسيا، ودشن حملة طبية ومالية لمساعدة العثمانيين وأنشأ صحيفة تدعم موقفهم السياسي، وقد منحه عبد الحميد وساما تقديرا لهذه الجهود وإغراءاً له بالمزيد منها، وهرتزل من ناحيته لم يكف عن عرض فكرة الدولة متخففاً ومتنازلاً في كل مرة عن بعض الشروط، بل بلغ به التفكير أن يعرض على السلطان أن يتولى هو بنفسه شأن الحركة الصهيونية، ويعلن هو عن أنه يقدم فلسطين كولاية تحت سيادته التامة، وذلك في مقابل مليون جنيه سنوياً.

وبمجمل النظر إلى محاولة هرتزل، يرة الكاتب محمد إلهامي أن السلطان عبد الحميد استطاع استغلال هرتزل ومجهوده، ولم يستطع هرتزل أن يأخذ من عبد الحميد شيئاً.فقد واصل عبد الحميد جهده في مكافحة استيطان اليهود في فلسطين؛ فشكل لجنة خاصة في القدس للإشراف على تطبيق قيود دخول اليهود إلى البلاد 1879م، وأعقب ذلك بأن أصدر تعليمات يونيو 1898م بمنع اليهود الأجانب من دخول فلسطين إلا بدفع تأمين وتقديم تعهد بالمغادرة خلال شهر، وتشددت سلطات المطار في هذا فلم تُعف منه حتى نائب القنصل الإنجليزي في أنطاكيا لكونه يهوديا، ثم رفعت لجنة القدس مذكرتها سبتمبر 1899م بعد دراسة الأوضاع وكشف الثغرات التي ينفذ منها اليهود إلى البلاد واقترحت اللجنة عددا من التوصيات.

ثم أصدر السلطان قانونا لتنظيم زيارة اليهود إلى القدس 1901م، يلزمهم بحمل تذكرة مرور جواز سفر فيه تفاصيل الرحلة ومدتها، وأن يُسلّم جواز السفر هذا مقابل الحصول على إقامة مؤقتة ذات لون مميز لا تزيد عن ثلاثة أشهر في فلسطين، ويعامل المخالفون بحزم وصرامة. وفي 1904م أعيد العمل بقانون يمنع بيع الأراضي لليهود من سائر الجنسيات. وفي 1906م رفض مشروع الجامعة العبرية الذي اقترحه هرتزل. وفي نفس السنة عزل عبد الحميد رشيد باشا متصرف القدس الذي تكررت الشكاوى من سياساته المهادنة لليهود وعين بدلاً منه علي أكرم بك الذي بذل مجهوداً كبيراً في مواجهة الهجرة اليهودية وفي تنمية القدس ووقف بصلابة أمام ضغوط المنتفعين من تلك الهجرة سواء أكانوا أجانب أم موظفين فاسدين. وفي سبتمبر 1907م أصدر السلطان أمراً يمنع نقل ملكية الأراضي الأميرية إلى اليهود العثمانيين مما عرقل عمل البنوك الأجنبية في شراء الأراضي الفلسطينية، ثم في أواخر عهده 1908م  عين سكرتيريه متصرفين للقدس ليبقى الأمر تحت نظره من خلال المقربين منه .

تضاعف وتيرة الاستيطان الصهيوني في آخر عهد عبد الحميد

غير أن محاولات عبد الحميد لم تؤت ثمرتها المرجوة، بل تضاعف عدد اليهود في فلسطين لعهده ، وذلك لعدد من الأسباب أهمها: الفساد الإداري المنتشر في أواخر عهد الدولة العثماني، ومنها الضغوط الأجنبية ونفوذ القناصل، ومنها تعاون هذه الدول وقناصلها في منح وثائق لليهود أو إسباغ الحماية الأجنبية عليهم كما أسلفنا ذكره. لقد كانت الدولة العثمانية في زمن ضعفها، وكانت تسري فيها أمراض الشيخوخة، فكانت قدرتها على مقاومة الضغوط الأجنبية ضعيفة، كما كانت قدرتها على إصلاح جهازها الإداري وتجديده بالرجال الأكفاء محدودة!

إضافة إلى ذلك فثمة التنامي الطبيعي لأعداد السكان اليهود، والتنقل الطبيعي لليهود في الديار العثمانية، فإنه بالرغم من احتلال مصر وتونس والجزائر وغيرها في زمن عبد الحميد، فإن الدولة العثمانية لم تعترف بهذا الاحتلال ولم تقر به، ومن ثَمَّ فإن انتقال يهود هذه البلاد للحج والزيارة لم يكن ممنوعاً ولا محظوراً، وقد حصلت بعض حالات التنقل التي بدأت حجا وزيارة ثم انتهت إقامة واستقراراً.

من هنا فإن من نظر في الأرقام وحدها خلص إلى أن عبد الحميد والعثمانيين لم ينجحوا في صد الهجرة اليهودية بل ربما اتهم السلطان والعثمانيين بأنهم سهلوا هجرة اليهود إلى فلسطين، وفي المقابل: فمن نظر إلى نسبة اليهود الذين تمكنوا من الاستقرار في فلسطين ضمن نسبة موجات الهجرة اليهودية القادمة من روسيا والمدعومة بمكائد الأجانب لم تتجاوز 5.2%في أكبر التقديرات خلص إلى نجاح عبد الحميد والعثمانيين في صد الهجرة اليهودية وحماية فلسطين.

وبالعموم، ومع موازنة كل هذه العوامل المتداخلة، وبمتابعة الأرقام والآراء المتنوعة، فالخلاصة الواضحة أن السلطان عبد الحميد الثاني كان سداً كبيراً يعرقل قيام أي دولة يهودية، ولقد عبر هرتزل في مذكراته مرارا عن سخطه على عبد الحميد وأنه قد خدعه واستغله ولم يعطه شيئاً، بل لقد عرض هرتزل أن يعطي ثلاثة ملايين فرنك بدون مقابل ليؤكد حسن نواياه ونوايا الصهيونية تجاه السلطنة العثمانية، فغضب السلطان وأبلغه رفض أمواله وقطع الاتصال معه، ثم عرض أن ينشئ جامعة يهودية في القدس بلا مقابل وغلف عرضه هذا بأن جامعة متطورة تحت السيطرة العثمانية يُستجلب لها أفضل الأساتذة اليهود من أرقى جامعات الغرب ستحول دون اضطرار الشباب العثماني السفر إلى الغرب مما يوقعهم في التأثر بالغرب أو بالانجذاب لمعارضة السلطان، وقد رفض السلطان طلب الجامعة أيضاً.

عرض هرتزل على السلطان عبد الحميد أن ينشئ جامعة يهودية في القدس بلا مقابل وغلف عرضه هذا بأن جامعة متطورة تحت السيطرة العثمانية يُستجلب لها أفضل الأساتذة اليهود من أرقى جامعات الغرب ستحول دون اضطرار الشباب العثماني السفر إلى الغرب مما يوقعهم في التأثر بالغرب أو بالانجذاب لمعارضة السلطان، وقد رفض السلطان طلب الجامعة أيضاً.
وفي النهاية كان هرتزل في آخر حياته قد مال لتنفيذ عملية لتفجير قصر يلدز واغتيال ـ أو اعتقال ـ السلطان لينفتح الطريق أمام حكومة تركية توافق على منح فلسطين لليهود، لولا خوفه من عواقب الفشل.

ثم جرى الانقلاب على عبد الحميد ۱۹۰۹م، وهو الانقلاب الذي رأى عبد الحميد أن سببه الأهم كان وقوفه ضد هجرة اليهود إلى فلسطين، وكان قد توقع أن الأمر سيتم له إذا فقد السلطان عرشه، وهو ما وقع بالفعل.

وبسقوط عبد الحميد انفتح الباب أمام الهجرة اليهودية عموما، وقد أحسن بعض الباحثين في تلخيص الفارق بين موقف عبد الحميد ومواقف من بعده؛ فعبد الحميد كانت مواقفه مبدئية واستراتيجية وإن ندت منه تحت الضغوط تراجعات اضطرارية وتكتيكية، بينما كانت مواقف من بعده نفعية لا مبدئية، فهم متساهلون مع الهجرة الصهيونية إلا أن يظهر لهم خطر في ذلك فيتشددون فيها تشدداً اضطرارياً وتكتيكياً.

الحركة الصهيونية بعد وفاة هرتزل

توفي هرتزل 1904م، وهو في الرابعة والأربعين من عمره، ورغم هذا العمر القصير إلا أنه حفر اسمه لمئات الأعوام، فقد استطاع أن يكون بذرة تحقيق الحلم الذي أخفق طوال ثلاثة آلاف عام، وقد استشرف أن مؤتمر الحركة الصهيونية الأول هو بذرة الدولة التي ستقوم بعد خمس سنوات أو بعد خمسين عاما على الأكثر، وقد صح ظنه، فقد قامت بعد خمسين عاما بالفعل، وسجل في يومياته أن تأسيس الدولة يكمن في إرادة الشعب بإنشاء دولة، بل يكمن أيضا في إرادة فرد قوي قوة كافية.

وقد تعرضت الحركة الصهيونية من بعده لارتباك واضطراب، إذ تولاها بعده رجال لم يكونوا على قدره ذكاء ونشاطا، مثل ديفيد ولسون 1905 - 1911م، ثم أوتو واربورج 1911-  1920م، لكن الحركة الصهيونية استعادت زمام الأمور مرة أخرى وبرزت إلى قوتها ونشاطها حين تولى أمرها الرجل القوي حاييم وايزمان 1920هـ، وهو الذي أثبت أنه لا يقل كفاءة ولا جلداً عن هرتزل، وقد استطاع أن يقود هذا الحلم حتى تحقق في حياته، وكان هو أول رئيس لدولة إسرائيل بعد الإعلان عن قيامها.

وهذا الاضطراب والارتباك الذي عم الحركة الصهيونية هو من أقوى الأدلة على أن هذه الحركة لم تكن تقوى بنفسها على أن تنجح في مشروع ضخم كتأسيس دولة لليهود في فلسطين، وأنها إنما نجحت بفعل القوى الأوروبية الإمبراطورية، وكيف لحركة توقفت مسيرتها عمليا لست عشرة سنة بعد وفاة المؤسس أن تستأنف مشروعا ضخما كتأسيس وطن؟!

غير أن تقرير هذه الحقيقة لا يقلل من المجهود الضخم الذي بذله حاييم وايزمان، فمثلما لا تستطيع الصهيونية أن تقيم وطنا بقوتها الذاتية، فإن الاستعمار الغربي نفسه لا يستطيع نفخ الروح في جسد ميت ولا بعث النشاط في كيان حمول كسول ولئن بدا أن وايزمان لا يقل إصرارا ولا طموحا عن هرتزل، فلقد كان أسعد حظا منه بكثير، إذ كانت الظروف ورياحها تجري بما يوافق سفينته، وأهم تلك الظروف هو تضعضع الخلافة العثمانية بالانقلاب على السلطان عبد الحميد وخلعه 1909م، ثم بهزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1918م، وحضور القوات البريطانية بنفسها لتحتل فلسطين والعراق وتهيمن على شرق الأردن، فيزول بذلك المانع القوي الذي كان واقفا ضد نشأة إسرائيل، ويحضر بذلك الداعم القوي الذي سيرعى هذه الولادة.

ولأجل هذا فقد تغيرت السياسة التي اعتمدتها الحركة الصهيونية ففي زمن الدولة العثمانية ذات السلطان الذكي رفض هرتزل قطعيا أن يتسلل اليهود ويظهروا كمهاجرين غير شرعيين لئلا يسهل اقتلاعهم ولكي يسهل اجتذاب المهاجرين إليهم، فأما بعد خلعه فقد قرر المؤتمر الصهيوني الثامن لاهاي، 1907م دعم خطة استمرار التسلل البطيء وتنظيمه ورعايته، ليكون للصهيونية وجود تضغط به وله على الدولة العثمانية وتطلب له وبه الحماية الدولية، وهو الأمر الذي أكد عليه المؤتمر الصهيوني التاسع هامبورغ، 1909م، والعاشر بازل، 1911م.

إقرأ أيضا: دور العثمانيين في مقاومة الاستيطان الصهيوني في فلسطين.. كتاب جديد(1)