الكتاب: قاعة الخطوات التائهة: من تاريخ قصر
العدالة بتونس
دار النشر: صدر عن دار نيرفانا للنشر في
تونس، في طبعة أنيقة وفاخرة من الحجم الكبير.
تاريخ الإصدار: ماي 2025.
يأتي كتاب ناجي الزعيري "قاعة الخطوات
التائهة: من تاريخ قصر العدالة بتونس" في لحظة سياسية فارقة تمرّ بها تونس،
حيث تتصدر مسألة استقلال القضاء وشرعية المحاكمات واجهة الجدل العام، خصوصًا بعد
قرارات 25 جويلية 2021 وما تلاها من تجميع للسلطات بيد رئيس الجمهورية قيس سعيد،
وحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وإحالة عشرات القضاة على العزل أو التتبّع. هذا المناخ
المتوتر أعاد إلى السطح سؤال العلاقة بين القضاء والسياسة، بين "هيبة
العدالة" من جهة و"استعمالها كأداة صراع" من جهة ثانية. في هذا
السياق، يمكن قراءة الكتاب ليس فقط كمحاولة لاستعادة ذاكرة قضائية تمتدّ على قرن
كامل، بل أيضًا كصرخة غير مباشرة ضد النسيان، وكتحذير من تكرار دورات التوظيف
السياسي للمحاكمات في التاريخ التونسي.
إذ لم يكن القضاء في تونس مجرّد جهاز لتطبيق
القانون، بل ظلّ ساحة مواجهة كبرى بين الاستعمار والحركة الوطنية، ثم بين السلطة
السياسية والمعارضات المتعددة بعد الاستقلال. وقد ظلّ "قصر العدالة رمزًا
متحوّلًا: من شاهد على محاكمات زعماء الحركة الوطنية، إلى مسرح لمحاكمات اليساريين
والنقابيين والإسلاميين، وصولًا إلى فترات الانتقال الديمقراطي التي شهدت جدلاً
حول العدالة الانتقالية، وانتهاءً بالمرحلة الحالية التي عادت فيها القاعة لتستقبل
قضايا معارضين وصحفيين وسياسيين. لذلك فإنّ الكتاب يُقرأ في ضوء هذه اللحظة الراهنة
التي تتداخل فيها السياسة بالقضاء من جديد، بشكل يجعل الماضي مرآةً للحاضر.
بهذا المعنى، يندرج عمل ناجي الزعيري ضمن ما
يمكن تسميته بـ"كتابة الذاكرة المضادة"، أي تلك التي تعيد تركيب المشاهد
القضائية والسياسية لتُظهر الاستمراريات والقطائع في علاقة العدالة بالسلطة. ومن
هنا، فإن أهمية الكتاب لا تكمن فقط في سرد حكايات أو توثيق محاكمات شهيرة، بل في
قدرته على استدعاء أسئلة راهنة حول مصير القضاء التونسي، وحول الدور الذي يلعبه
"المكان" كحامل للذاكرة الجماعية ومسرح للصراعات السياسية والاجتماعية.
قاعة الخطوات التائهة.. بين المكان والذاكرة
منذ الصفحات الأولى، يجعل ناجي الزعيري من
"قاعة الخطوات التائهة" شخصيةً رئيسية في كتابه،. هذه القاعة، الواقعة
في قلب قصر العدالة بتونس العاصمة، لم تُصمَّم في الأصل لتكون فضاءً عابرًا فحسب،
بل تحوّلت بمرور الزمن إلى شاهد حيّ على التحولات الكبرى التي عرفها التاريخ
القضائي والسياسي للبلاد. فهي مكان يلتقي فيه المتقاضون والمحامون والقضاة،
وتتناقل فيه الشائعات والأخبار، كما يتجسد فيه التوتر النفسي الذي يسبق لحظة
الدخول إلى قاعة الجلسة. بقدر ما هي مكان مادي، بقدر ما هي أيضًا "ذاكرة
متجسدة" تحمل في جدرانها وقع آلاف الخطوات التي عبرتها منذ بدايات القرن
العشرين.
لم يكن القضاء في تونس مجرّد جهاز لتطبيق القانون، بل ظلّ ساحة مواجهة كبرى بين الاستعمار والحركة الوطنية، ثم بين السلطة السياسية والمعارضات المتعددة بعد الاستقلال. وقد ظلّ "قصر العدالة رمزًا متحوّلًا: من شاهد على محاكمات زعماء الحركة الوطنية، إلى مسرح لمحاكمات اليساريين والنقابيين والإسلاميين
يمنح العنوان الذي اختاره المؤلف للقاعة
بعدًا رمزيًا إضافيًا. فالخطوات "التائهة" تعبّر عن حالة اللايقين التي
يعيشها كل من يقف على أعتاب القضاء: المتهم الذي يترقب مصيره، المحامي الذي يخوض
معركة قانونية، الصحفي الذي ينتظر مادة للنشر، أو حتى المواطن الذي يتابع محاكمة
رمزية لشخصية عامة. بهذا المعنى، تتحول القاعة إلى استعارة عن وضع العدالة نفسها
في تونس: عدالة تبحث عن يقينها في فضاء سياسي متقلب. إنها ليست مجرّد ممرّ بل
"مسرح انتظار"، حيث يتجسد التوتر بين القانون كمعيار مثالي والسياسة
كقوة ضاغطة.
يربط الزعيري القاعة بذاكرة جماعية تتجاوز
حدود المكان. فهي ليست حكرًا على النخب القانونية أو السياسية، بل هي معروفة لدى
عامة التونسيين الذين تابعوا عبر عقود صور المحاكمات التي جرت فيها. من قضايا
الوطنيين زمن الاستعمار، إلى محاكمات المعارضين في السبعينيات والثمانينيات،
وصولًا إلى محاكمات ما بعد الثورة. كل هذه الأحداث صنعت "طبقات" من
الذاكرة، جعلت من القاعة أرشيفًا صامتًا لتاريخ طويل من الصراع بين السلطة
والمجتمع. وهنا تلتقي مقاربة الزعيري بمفهوم "ذاكرة المكان" كما بلوره
موريس هالبواكس، حيث لا تختزن الأماكن الماضي فقط، بل تساهم في إعادة إنتاجه كلما
استُدعي في الحاضر.
كما أن الكتاب يبرز القاعة كفضاء تلتقي فيه
المصائر الفردية مع القضايا الكبرى للأمة. ففيها يتواجه الفرد الأعزل مع مؤسسات
الدولة، وفيها تتحول القضايا الخاصة إلى شؤون عامة حين تكتسب بعدًا سياسيًا أو
رمزيًا. ولعل هذا ما يفسر تركيز المؤلف على الجانب الإنساني للمحاكمات: مشاعر
الخوف، الانتظار، الانكسار أو الأمل. فالقاعة ليست مكانًا جامدًا بل "جغرافيا
عاطفية" تُعيد صياغة التجربة الإنسانية أمام العدالة.
إلى جانب ذلك، يمكن قراءة القاعة بوصفها
"فضاء وسيطًا" بين الداخل والخارج: فهي لا تملك قداسة قاعة الجلسة، ولا
صخب الشارع، بل تقع في منطقة رمادية بين السلطة الرسمية والرأي العام. ومن هنا
تكمن أهميتها: فهي فضاء مراقَبة مثلما هي فضاء تواصل، حيث يتقاطع الرسمي
باللامرئي، والعلني بالمسكوت عنه.
إن قراءة الزعيري للقاعة تضعنا في صميم سؤال
الذاكرة القضائية والسياسية في تونس. فليست القاعة مجرد بهو معماري، وإنما هي
"مجاز تاريخي" يعكس مسار العدالة ذاتها: من وعد بالإنصاف إلى أداة
للهيمنة، ومن فضاء للرهبة إلى فضاء للأمل. وبهذا يتحول المكان إلى مرآة، تكشف
التوتر الدائم بين طموح العدالة وواقع السلطة.
القاعة كمرآة لمحاكمات كبرى في تاريخ تونس
لم تكن "قاعة الخطوات التائهة"
مجرد فضاء لانتظار المحاكمات الروتينية، بل تحولت إلى شاهد على قضايا شكّلت
منعطفات في التاريخ السياسي والاجتماعي لتونس. ففيها مثلاً، مرّت محاكمة الزعيم
صالح بن يوسف سنة 1957 غيابياً، والتي جسّدت أولى علامات الانقسام داخل الحركة
الوطنية بين جناح الاستقلال الداخلي بقيادة بورقيبة، وجناح الكفاح المسلح بقيادة
بن يوسف. هذه المحاكمة لم تكن مجرد إجراء قانوني، بل كانت إعلانًا رسميًا لانتصار
جناح على آخر، وتحويل القضاء إلى أداة لتصفية خصومة سياسية عميقة.
وفي السبعينيات، شهدت القاعة محاكمات اليسار
الطلابي والحركات الماركسية-اللينينية التي تصاعد نفوذها في الجامعات. هنا لعبت
القاعة دور المسرح الذي تواجه فيه شباب يرفعون شعارات الثورة ضد دولة ما بعد
الاستقلال التي اتجهت نحو مركزة السلطة وقمع المعارضات. تحوّلت المحاكمات إلى
"عروض سياسية"، حيث حضر المحامون الحقوقيون كمدافعين رمزيين عن حرية
التعبير، وحيث وثّقت الصحافة الدولية أجواء المحاكمات باعتبارها دليلاً على ضيق
هامش الحريات في تونس البورقيبية.
أما في الثمانينيات وبداية التسعينيات، فقد
عرفت القاعة محاكمات النقابيين والإسلاميين على خلفية صدامهم مع الدولة. فقد حوكم
العشرات من قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل إثر إضرابات 1978، ثم عادت القاعة
لتشهد محاكمات حركة النهضة في 1987 وما بعدها. هذه المحاكمات كشفت عن وجه جديد
للقاعة: فضاء للترهيب الجماعي، حيث يجلس المتهمون بالعشرات في قفص الاتهام، فيما
يراقب الجمهور ووسائل الإعلام كيف يُستخدم القضاء كأداة لتأديب الخصوم.
حتى بعد ثورة 2011، لم تفقد القاعة رمزيتها.
فقد احتضنت محاكمات مرتبطة بقضايا الفساد والعدالة الانتقالية، كما عادت لتستقبل
قضايا رأي وصحفيين وناشطين. ومع قرارات ما بعد 25 جويلية 2021، استعادت القاعة
مشاهدها المألوفة: متهمون من المعارضة، محامون متطوعون، وصحافة تبحث عن الخبر.
وكأنّ الزمن يدور في حلقة، تعيد إنتاج نفسها في المكان ذاته.
من أبرز المحطات التي استعادها الكتاب محاكمة الزعيم صالح بن يوسف سنة 1957. فبعد أن انقسمت الحركة الوطنية بين جناح يدعو للتفاوض مع فرنسا بقيادة بورقيبة، وآخر يتمسّك بخيار الكفاح المسلّح بقيادة بن يوسف، وجد القضاء نفسه أداة لترجيح كفة على أخرى. حوكم بن يوسف غيابيًا بتهمة التآمر على أمن الدولة، وهو ما شكّل سابقة خطيرة جعلت من العدالة أداة سياسية لتصفية خصومة داخلية.
بهذا المعنى، تتجاوز القاعة وظيفتها
المعمارية لتصبح أرشيفًا حيًا للذاكرة الوطنية. فهي تختزن قصص الانتصار والانكسار،
لحظات الأمل واليأس، وتُذكّرنا بأن العلاقة بين القضاء والسياسة لم تكن يومًا
علاقة بريئة، بل علاقة تتراوح بين خدمة العدالة وتطويعها لخدمة السلطة.
القضاء والسياسة.. من خلال المحاكمات
التاريخية
يُظهر كتاب ناجي الزعيري أنّ العلاقة بين
القضاء والسياسة في تونس ليست عَرَضية ولا ظرفية، بل هي علاقة بنيوية رافقت الدولة
منذ نشأتها الحديثة. ومن خلال تتبّع المحاكمات الكبرى التي مرّت بها قاعة الخطوات
التائهة، يكشف الكتاب عن كيفيّة توظيف العدالة إمّا كآلية لشرعنة القرارات
السياسية، أو كأداة لتصفية الخصوم، أو كفضاء يُختبر فيه مدى صلابة الدولة أمام
التحديات.
1 ـ محاكمة صالح بن يوسف.. القضاء كأداة لإقصاء
الخصم السياسي
من أبرز المحطات التي استعادها الكتاب
محاكمة الزعيم صالح بن يوسف سنة 1957. فبعد أن انقسمت الحركة الوطنية بين جناح
يدعو للتفاوض مع فرنسا بقيادة بورقيبة، وآخر يتمسّك بخيار الكفاح المسلّح بقيادة
بن يوسف، وجد القضاء نفسه أداة لترجيح كفة على أخرى. حوكم بن يوسف غيابيًا بتهمة
التآمر على أمن الدولة، وهو ما شكّل سابقة خطيرة جعلت من العدالة أداة سياسية
لتصفية خصومة داخلية.
هذه المحاكمة رسّخت في الذاكرة الوطنية صورة
القضاء كامتداد للسلطة التنفيذية، وأظهرت كيف يمكن للشرعية القضائية أن تُستعمل
لإضفاء طابع رسمي على خيارات سياسية، حتى لو كانت من صميم الصراع داخل النخبة
الحاكمة.
2 ـ محاكمات السبعينيات: القضاء كمرآة
للصراع الإيديولوجي
في السبعينيات، كانت قاعة الخطوات التائهة
مسرحًا لمحاكمات اليسار الطلابي والتيارات الماركسية ـ اللينينية. مثلت هذه
المحاكمات ذروة التوتر بين دولة بورقيبة، التي أرادت الحفاظ على نموذجها السياسي
والاجتماعي، وبين جيل جديد يتطلع إلى ثورة راديكالية على شاكلة ما حدث في كوبا أو
الصين.
أهمية هذه المرحلة أنّ القضاء لم يكن أداة
لتصفية خصم فردي فقط، بل تحوّل إلى وسيلة لترهيب تيار فكري كامل. كان الهدف إرسال
رسالة سياسية مفادها أنّ حدود المعارضة مرسومة سلفًا، وأن أي محاولة لتجاوزها ستجد
القضاء في خدمة الدولة. في هذه المحاكمات، ظهر المحامون بدور محوري إذ تحوّلوا إلى
منابر للدفاع عن الحرية، مما جعل المحكمة فضاءً للنقاش العمومي بقدر ما كانت فضاءً
قانونيًا.
3 ـ محاكمات
النقابيين والإسلاميين: القضاء كأداة للضبط الجماعي
شهدت الثمانينيات محاكمات النقابيين بعد
أحداث 26 جانفي 1978، حين تحوّل الصراع الاجتماعي إلى مواجهة دامية بين الاتحاد
العام التونسي للشغل ونظام بورقيبة. في هذه المحاكمات، ظهر القضاء كذراع للدولة في
معاقبة التنظيمات الجماهيرية التي تهدد هيبتها. ولم يكن الهدف فقط إدانة قادة
نقابيين، بل أيضًا إخضاع مؤسسة بأكملها.
وفي التسعينيات، تكرّر المشهد مع محاكمات
حركة النهضة، حيث حُكم على المئات من مناضليها بأحكام قاسية وصلت إلى الإعدام
والسجن المؤبد. كانت قاعة الخطوات التائهة شاهدة على جلسات مطوّلة، امتلأت فيها
أقفاص الاتهام بالمتهمين، وحضر فيها المحامون بأعداد ضخمة، مما حوّل المحاكمات إلى
مشاهد جماعية تهدف إلى إظهار قوة الدولة في مواجهة معارضة منظمة. هنا لم يعد
القضاء مجرد أداة لمعاقبة أفراد، بل أصبح وسيلة لإعادة هندسة التوازنات السياسية
والاجتماعية برمتها.
4 ـ ما بعد الثورة.. القضاء بين وعود
الاستقلال وإعادة التوظيف
مع ثورة 2011، ارتفعت الآمال في أن يتحرّر
القضاء من وصاية السياسة. وقد فتحت قاعة الخطوات التائهة أبوابها لقضايا الفساد
المالي والسياسي، كما ارتبطت بمسار العدالة الانتقالية. غير أنّ هذه الآمال سرعان
ما اصطدمت بواقعٍ أعاد إنتاج التدخل السياسي في القضاء، خاصة مع تعثّر مسار
العدالة الانتقالية وتوظيف المحاكمات كوسيلة لتصفية حسابات بين الفرقاء السياسيين.
تعمّق هذا الوضع بعد 25 جويلية 2021، حين
عادت القاعة لتشهد محاكمات ضد معارضين وصحفيين ونشطاء، في مشهد يذكّر بدورات سابقة
من التاريخ. بهذا المعنى، يبرز الكتاب أنّ الماضي لم يُطوَ بعد، وأنّ علاقة القضاء
بالسياسة لا تزال محكومة بالاستمرارية أكثر من القطيعة.
5 ـ الدروس المستفادة.. القضاء بين الشرعية
والشرعنة
تكشف هذه المحاكمات أنّ القضاء في تونس لم
يكن يومًا فضاءً محايدًا، بل ظلّ يتأرجح بين الشرعية بوصفه سلطة تستمد قوتها من
القانون، والشرعنة بوصفه وسيلة لإضفاء مشروعية على خيارات السلطة السياسية. فكل
محاكمة كانت تحمل وجهين: وجه قانوني معلن، ووجه سياسي مضمر.
هذه الازدواجية هي ما يمنح "قاعة
الخطوات التائهة" قيمتها الرمزية: فهي مكان يتجسد فيه الصراع بين الحق
والقوة، بين القانون والسلطة. ومن هنا تنبع أهمية قراءة الزعيري، لأنها تضع هذه
المحاكمات في إطارها السياسي، وتكشف كيف أنّ التاريخ القضائي لتونس لا ينفصل عن
مسارها السياسي العام.
منهجية ناجي الزعيري.. صحافة التحقيق بين
التوثيق والتأريخ
يقدّم كتاب "قاعة الخطوات
التائهة" نفسه منذ البداية بوصفه نصًا يقع على تخوم الصحافة والتاريخ. فهو
ليس دراسة أكاديمية خالصة، ولا هو مجرّد عمل صحفي يبحث عن الإثارة الآنية. بل هو
محاولة لكتابة تاريخ بديل للعدالة في تونس، عبر استعادة لحظات فارقة من قلب قاعة
المحاكمات. هذه الطبيعة الهجينة تجعل الكتاب ينتمي إلى ما يُعرف بـ"الصحافة
التوثيقية"، أي الصحافة التي تتجاوز الإخبار نحو استعادة الماضي، معتمدة على
شهادات ووثائق، لكن دون الالتزام الكامل بقواعد المؤرخ التقليدي.
1 ـ السرد الصحفي كأداة توثيق
يستثمر ناجي الزعيري خلفيته الصحفية ليقدّم
سردًا سلسًا وقريبًا من القارئ، بعيدًا عن اللغة الأكاديمية الجافة. غير أنّ هذه
السلاسة لا تعني السطحية، بل تسمح له باستدعاء مشاهد حية: وصف القاعة، ملامح
المتهمين، لغة الجسد، وحتى وقع الخطوات. هذا الاشتغال السردي يعيد للقارئ الإحساس
بالزمن والمكان، فيجعل المحاكمة حدثًا يُرى ويُسمع، لا مجرد نص قانوني.
تكشف هذه المحاكمات أنّ القضاء في تونس لم يكن يومًا فضاءً محايدًا، بل ظلّ يتأرجح بين الشرعية بوصفه سلطة تستمد قوتها من القانون، والشرعنة بوصفه وسيلة لإضفاء مشروعية على خيارات السلطة السياسية. فكل محاكمة كانت تحمل وجهين: وجه قانوني معلن، ووجه سياسي مضمر.
هنا يمكن أن نستحضر ميشيل فوكو في تحليله
لـ"المشهد القضائي" كفضاء للسلطة والمعرفة: فالمحاكمة ليست فقط تطبيقًا
للقانون، بل هي مسرح تُعرض فيه القوة وتُدار عبر الكلمات والصور. الزعيري، وإن لم
يستدعِ فوكو صراحة، يكتب في هذا الأفق: يصف السلطة وهي تُمارس ذاتها من خلال
الطقوس القضائية.
2 ـ التوثيق بالأرشيف والشهادات
لا يكتفي المؤلف بالسرد، بل يدعمه بأرشيف
قضائي وصحفي، وبشهادات من محامين ومتهمين وصحفيين عايشوا تلك المحاكمات. هذا
المنهج يجمع بين التاريخ الشفوي والتاريخ الأرشيفي، مما يضع العمل على تماس مع
الدراسات الأكاديمية، حتى وإن ظلّ يفتقد لبعض أدواتها الصارمة (مثل الإحالات
المرجعية الدقيقة أو التحليل النقدي للمصادر).
لكن هذا "النقص الأكاديمي" يتحول
في سياق الكتاب إلى قوة: فالهدف ليس تقديم كرونولوجيا باردة، بل إعادة إحياء ذاكرة
حيّة، ذاكرة لا تزال آثارها ممتدة في الحاضر. ومن هنا نفهم اختيار العنوان: القاعة
ليست مادة للتأريخ فحسب، بل هي كائن يتكلم عبر شهادات الأحياء.
3 ـ بين التأريخ والذاكرة
يقف الكتاب إذن في منطقة وسطى بين التأريخ
والذاكرة. فإذا كان المؤرخ يسعى إلى الموضوعية وإلى بناء سردية كلية، فإن
الصحفي-المؤلف هنا يشتغل على "الجزئي" و"المشهدي"، ليعيد
إلينا الإحساس بالحدث. وهذا يقربه من دراسات بيير نورا حول "أماكن الذاكرة" (Lieux de mémoire)،
حيث يصبح المكان –مثل قاعة المحاكم– حاملاً لذاكرة جماعية تَشحنها الأحداث
المتكررة.
بهذا المعنى، يُمكن القول إن الزعيري لا
يكتب "تاريخ القضاء"، بل يكتب "ذاكرة القضاء"، والفرق بينهما
جوهري: الأول يسعى إلى بناء معرفة منظمة، بينما الثاني ينقل إلينا شحنة عاطفية
وثقافية مرتبطة بالمكان والحدث.
4 ـ أثر حنّة أرندت.. المحاكمة كفضاء سياسي
في قراءته للمحاكمات، يكشف الزعيري ضمنيًا
ما أشارت إليه حنّة أرندت في كتابها عن محاكمة أيخمان: أنّ المحاكمة ليست مجرد فعل
قضائي، بل هي دائمًا حدث سياسي، يحدد صورة الدولة أمام مواطنيها والعالم. من هنا
نفهم إصرار الكاتب على إبراز الجانب المسرحي للمحاكمة، وكيف تتحول القاعة إلى فضاء
علني يُعاد فيه رسم علاقة المواطن بالدولة.
إن استدعاء هذه الأبعاد الفلسفية والسياسية
يرفع الكتاب من مجرّد نص صحفي إلى نص يشارك في نقاش أكاديمي أوسع حول العدالة،
السلطة، والذاكرة.
5. ـ القيمة المضافة.. بين الصحفي والمؤرخ
تكمن أهمية منهج الزعيري في أنّه يفتح أفقًا
جديدًا للبحث في تاريخ القضاء التونسي. فالمؤرخون غالبًا ما يركزون على النصوص
القانونية أو على المؤسسات، بينما يُعيد الصحفي-المؤلف الاعتبار إلى المشهد
والتجربة الإنسانية داخل المحاكمة. هذا المنظور يُغني الدراسات الأكاديمية لأنه
يضيء الجوانب التي تغفلها المقاربة القانونية الصرفة.
لا يمكن فهم "قاعة الخطوات التائهة" إلا بوصفها أكثر من مجرّد فضاء معماري أو مؤسسة قضائية. إنها ذاكرة جماعية تختزن سرديات مختلفة عن علاقة التونسيين بالسلطة والقانون، وهي أيضًا رهان سياسي دائم، لأن ما يجري داخلها ينعكس بالضرورة على صورة الدولة ومشروعية حكمها.
لكن في المقابل، يطرح الكتاب أيضًا إشكالية:
إلى أي مدى يمكن اعتبار عمل صحفي من هذا النوع مرجعًا تاريخيًا؟ وهل يكفي التوثيق
الصحفي لإنتاج معرفة أكاديمية؟ هذه الأسئلة، وإن لم يجيب عنها المؤلف صراحة، تظل
كامنة في بنية النص، وتشكّل جزءًا من قيمته البحثية.
العدالة كذاكرة جماعية ورهان سياسي
لا يمكن فهم "قاعة الخطوات
التائهة" إلا بوصفها أكثر من مجرّد فضاء معماري أو مؤسسة قضائية. إنها ذاكرة
جماعية تختزن سرديات مختلفة عن علاقة التونسيين بالسلطة والقانون، وهي أيضًا رهان
سياسي دائم، لأن ما يجري داخلها ينعكس بالضرورة على صورة الدولة ومشروعية حكمها.
1 ـ القاعة
كـ"مسرح للذاكرة"
يشير ناجي الزعيري، عبر سرده التفصيلي
للمحاكمات، إلى أنّ القاعة لا تُختزل في جدرانها أو مقاعدها. إنها مكان يشحنه
التاريخ، أشبه بـ"أرشيف حي". كل خطوة داخله تذكّر بخطوات سابقة: خطوات
متهمين، محامين، قضاة، وصحفيين. بهذا المعنى، تتحوّل القاعة إلى ما يسميه بيير
نورا "مكان ذاكرة" (Lieu
de mémoire)، أي فضاء يحمِلُ كثافة رمزية لأنه شهد
أحداثًا طبعت المخيال الجماعي.
فمثلًا، حين يجلس ناشط معارض في قفص الاتهام
بعد 2011، فإن المشهد يُستدعى إلى الذاكرة الشعبية محمّلًا بصور محاكمات
السبعينيات أو التسعينيات. الزمن يتداخل، والمكان يصبح ذاكرة مستمرة أكثر من كونه
مجرد فضاء.
2 ـ العدالة كأداة لإعادة إنتاج السلطة
تاريخ المحاكمات التي شهدتها القاعة يبرهن
أنّ العدالة لم تكن دائمًا هدفًا في ذاتها، بل كانت أداة لإعادة إنتاج السلطة.
سواء في محاكمة صالح بن يوسف، أو محاكمات النقابيين والإسلاميين، أو حتى القضايا
الراهنة بعد 25 جويلية 2021، ظلّت الدولة توظّف القضاء لترسيم الحدود بين
"الشرعية" و"الخروج عنها".
بهذا، يصبح القضاء مسرحًا يعرض فيه الحاكم
قوته ورغبته في تأديب الخصوم. وهو ما يذكرنا بتحليل فوكو للسلطة التأديبية:
فالمحاكمة ليست مجرد فضاء قانوني، بل هي جزء من شبكة المراقبة والسيطرة، حيث يُعاد
إنتاج النظام الاجتماعي والسياسي عبر الرموز والإجراءات.
3 ـ الذاكرة الجماعية.. بين الضحية والجلاّد
من أهم ما تكشفه القاعة أنّها فضاء يتقاطع
فيه خطاب الضحية وخطاب الجلاد. فالمتهمون يستحضرون دوما أنهم ضحايا ظلم السلطة،
فيما تحاول الدولة أن تُظهرهم بمظهر الخارجين عن القانون. هذا التوتر يعيدنا إلى
ما ناقشته حنّة أرندت في سياق محاكمة أيخمان: هل المحاكمة لحظة لتحقيق العدالة، أم
مسرح يُعيد فيه المجتمع صياغة ذاكرته عن نفسه؟
في تونس، يبدو أنّ القاعة لعبت الدورين
معًا: أحيانًا منحت المتهمين فرصة لتوثيق روايتهم أمام التاريخ (كما فعل العديد من
النقابيين والطلبة)، وأحيانًا كانت مجرد أداة لإسكاتهم. لكن في الحالتين، تحوّلت
المحاكمة إلى ذاكرة مشتركة لا تنسى، يستعيدها الجيل اللاحق بوصفها شاهدًا على
طبيعة الدولة وحدود الحرية.
4 ـ العدالة كرهان في مسار الانتقال
الديمقراطي
بعد 2011، طُرحت مسألة استقلال القضاء
بوصفها ركيزة أساسية للانتقال الديمقراطي. غير أنّ مسار العدالة الانتقالية اصطدم
بصعوبات سياسية وقانونية حالت دون تحقيق العدالة الكاملة للضحايا. في هذا السياق،
تظل "قاعة الخطوات التائهة" رمزًا للرهان السياسي حول معنى العدالة: هل
هي مجرد محاسبة جزئية؟ أم هي إعادة تأسيس لعلاقة المواطن بالدولة؟
فالمشهد الذي يتكرر اليوم ـ معارضون في قفص
الاتهام، محامون يندّدون، وسلطة تستخدم القضاء ـ يبرهن أنّ معركة العدالة لم تُحسم
بعد، وأنّ القاعة ما زالت فضاءً للصراع بين منطقين: منطق السلطة ومنطق الحرية.
5 ـ نحو عدالة كونية؟
في ختام هذا المحور، يمكن القول إن الكتاب
يضعنا أمام سؤال فلسفي أبعد: هل يمكن للعدالة أن تكون محايدة وكونية، أم أنها
دومًا مشروطة بالسياسة التي تنتجها؟
الزعيري لا يجيب مباشرة، لكنه يقدّم لنا
مادة تجعلنا نميل إلى الفرضية الثانية: العدالة ليست بريئة، بل هي نتاج لموازين
القوى. ومع ذلك، فإنّ الذاكرة التي تحفظها القاعة عن المحاكمات الجائرة قد تتحوّل
هي ذاتها إلى أداة للمقاومة، إذ يستعيدها المجتمع ليذكّر بأنّ العدالة الحقيقية
تظل مطلبًا لم يتحقق بعد.
خاتمة: في قيمة الكتاب وحدود قراءته
يقدّم كتاب ناجي الزعيري "قاعة الخطوات
التائهة: من تاريخ قصر العدالة بتونس" مساهمة نوعية في فهم تاريخ القضاء
التونسي، لا من زاوية النصوص القانونية أو الإصلاحات المؤسساتية، بل من خلال
المشهد الحي للمحاكمات التي عرفتها قاعة محورية في قصر العدالة. لقد اختار المؤلف
أن يكتب تاريخ العدالة من خلال المكان الذي شهد لحظات فارقة، وهكذا أعاد الاعتبار
إلى البعد الرمزي والذاكروي للعدالة، مبرزًا كيف أن المحاكمات لم تكن مجرّد تطبيق
للقانون، بل مسارح للسلطة والسياسة والصراع المجتمعي.
1 ـ قيمة الكتاب بين الصحافة والتأريخ
تكمن قوة الكتاب في طبيعته الهجينة: فهو ليس
بحثًا أكاديميًا تقليديًا، لكنه أيضًا يتجاوز الصحافة الخبرية إلى مستوى التوثيق
العميق. هذه الهجنة تمنحه حيوية خاصة، إذ يجعل القارئ يلمس تفاصيل المحاكمات كما
لو كان حاضرًا، دون أن يفقد الأفق التحليلي الذي يربطها بالسياق السياسي الأوسع.
من الناحية المنهجية، يفتح الكتاب بابًا
أمام الباحثين لإعادة التفكير في العلاقة بين الصحافة الاستقصائية والتاريخ
الأكاديمي، وكيف يمكن أن يتكامل المجالان: الأول يمنح النص حيوية وشهادة حيّة،
والثاني يمنحه أدوات النقد والتحليل.
2 ـ حدود العمل.. بين الذاكرة والموضوعية
غير أنّ قوة الكتاب قد تتحول في بعض الأحيان
إلى نقطة ضعف. فالرهان على الذاكرة الحيّة قد يقود إلى انتقائية أو إلى إبراز
جوانب دون غيرها. غياب التوثيق المرجعي الصارم –كما هو الحال في الأعمال
الأكاديمية– يطرح سؤالًا حول مدى قدرة الكتاب على أن يكون مرجعًا علميًا بذاته.
لكنه مع ذلك يظل وثيقة ذاكرية بالغة الأهمية، لأنها تعكس كيف يعيش التونسيون
علاقتهم بالقضاء، أكثر مما تقدّم "حقيقة" مطلقة عن التاريخ القضائي.
3 ـ البعد السياسي: العدالة كفضاء للصراع
أبرز ما نجح فيه الكتاب هو وضع اليد على
التوتر البنيوي بين القضاء والسياسة في تونس. فمنذ محاكمة صالح بن يوسف في
الخمسينيات، مرورًا بمحاكمات الطلبة والنقابيين والإسلاميين، وصولًا إلى محاكمات
ما بعد 2011، ظل القضاء أداة للشرعنة أكثر من كونه سلطة مستقلة. هذا الاستمرار
يفتح أسئلة عميقة حول طبيعة الدولة التونسية نفسها: هل يمكن أن تُبنى ديمقراطية
حقيقية دون قضاء مستقل؟ وهل يمكن للمجتمع أن يتجاوز ذاكرة المحاكمات الجائرة دون
عدالة انتقالية ناجزة؟
4 ـ القيمة الأكاديمية: فتح مسارات جديدة
للبحث
على المستوى الأكاديمي، يثري الكتاب
النقاشات حول الذاكرة الجماعية والعدالة الانتقالية والسلطة القضائية في الأنظمة
السلطوية والهجينة. يمكن للباحثين أن ينطلقوا منه لتطوير دراسات مقارنة مع تجارب
أخرى (المغرب، مصر، أمريكا اللاتينية)، أو لتحليل العلاقة بين المكان والذاكرة في
تاريخ المؤسسات.
الأهم أنّ الكتاب يساهم في بناء أرشيف بديل:
ليس أرشيف الدولة الرسمي، بل أرشيف المجتمع، حيث تتحوّل شهادات المحامين والمتهمين
والصحفيين إلى مادة للتاريخ، تمامًا كما دعا بيير نورا إلى الاعتناء بـ"أماكن
الذاكرة" التي تحفظ ما لا تحفظه الأرشفة الرسمية.
5 ـ نحو إعادة تأسيس معنى العدالة
في النهاية، ما يقترحه الكتاب ـ ولو ضمنيًا ـ هو أن العدالة في تونس لم تتحقق بعد بوصفها قيمة كونية مستقلة عن السياسة. ما زالت
القاعة شاهدة على صراع لم يُحسم: صراع بين الدولة التي تريد إخضاع المجتمع عبر
القضاء، والمجتمع الذي يطالب بقضاء عادل كشرط للحرية.
من هذا المنظور، يقدّم "قاعة الخطوات
التائهة" درسًا مزدوجًا: فهو من جهة مرآة للتاريخ الذي يكشف وجوه الاستبداد،
ومن جهة أخرى دعوة للمستقبل نحو بناء عدالة حقيقية تستجيب لمطالب الثورة
والديمقراطية.