قضايا وآراء

"اللا مفكر فيه".. طيّ إشكالية علاقة الدين بالسياسة في تونس

عادل بن عبد الله
"أسئلة كانت وما زالت في دائرة اللامفكر فيه دخل الخطابات الحداثية "- الأناضول
"أسئلة كانت وما زالت في دائرة اللامفكر فيه دخل الخطابات الحداثية "- الأناضول
بعد الحصول على الاستقلال الصوري من فرنسا وإرساء منظومة الاستعمار الجديد (الاستعمار الداخلي)، عرفت تونس نظام الحزب الأوحد. ولم يكن من المفكر فيه خلال فترة حكم "المجاهد الأكبر" و"سيد الأسياد" (أي في ظل هيمنة ثالوث الزعيم-الحزب-الوطن الذي حلله الرحل محمد أركون) تشريع قانون للأحزاب. فالأحزاب تعني التشكيك في شرعية "الزعيم" وفي احتكاره تمثيلَ الإرادة الشعبية بصورة مطلقة ونهائية؛ عكَسها تعديل الدستور وتنصيبه رئيسا لتونس مدى الحياة في 27 كانون الأول/ ديسمبر 1974. وخلال "الفاصلة الديمقراطية" التي أعقبت انقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، أصدر "صانع التغيير" القانون الأساسي عدد 32 لسنة 1988 قصد تنظيم عمل الأحزاب، وهو قانون نصّ في أحد فصوله على منع تأسيس الأحزاب على أساس ديني. ورغم محاولة حركة النهضة التأقلم مع هذا الوضع بالقيام بعدة تنازلات قصد "تَونسة" نفسها والتقليل من مخاوف النظام وسائر النخب "الحداثية"، إلا أن النظام مسنودا بما يُسمّى بـ"القوى الديمقراطية" تمسك بموقفه الرافض لمنحها تأشيرة العمل القانوني، وفضّل التعامل معها بمنطق المقاربة الأمنية-القضائية، تلك المقاربة التي شرعنتها أغلب النخب "الديمقراطية"، ولكنها -من باب النتائج غير المتوقعة عند هؤلاء-كانت فاتحةً لتصحير الحياة السياسية في تونس حتى سقوط المخلوع يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011.

جاء المرسوم الرئاسي عدد 87 لسنة 2011 ليُلغيَ العمل بالقانون الأساسي المنظّم لعمل الأحزاب في عهد المخلوع، لكنّ هذا المرسوم رغم "تقدميته" من جهة الانفتاح على كل مكونات الساحة السياسية بعيدا عن منطق الإقصاء؛ لم يُنه الجدل حول وجود الأحزاب "الإسلامية" التي ارتضت العمل القانوني والخروج من منطق البديل إلى منطق الشريك، خاصة حركة النهضة. فهذه الحركة قد خلخلت منطق "التجانس المرجعي" داخل "العائلة الديمقراطية"، ذلك أنّ "البورقيبية" باعتبارها الخطاب الكبير، و"الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي"، كانا قد ذوّبا كل الاختلافات الأيديولوجية بين "الديمقراطيين" ووحّداهم ضد "الإسلاميين" الذين يُمثلون في السرديات "الحداثية" -منذ اللحظتين الدستورية والتجمعية للحكم- النقيض الفكري والموضوعي للفلسفة السياسية الحديثة.
بصرف النظر عن أن هذا النموذج لا يختزل سائر النماذج العلمانية ولا يُقدّم أفضل الحلول لضبط العلاقة بين الدين والسياسة، فإن "الحداثي التونسي" قد وجد نفسه -بحكم عجزه عن التخلص من ربقة اللائكية وخرافات دولة الاستعمار الجديد- يمارس العنف اللفظي، بل يدعو إلى العنف المادي ويشرعنه سواء صدر عن الدولة أو عن "الديمقراطيين"، ما دام ضحيته هو "منبوذو النمط"، أي الإسلاميون
ورغم أن المرسوم الرئاسي المذكور أعلاه قد سمح للأحزاب الإسلامية بالعمل القانوني، إلا أنه قد استبقى روح المخلوع ونظامه بصورة مخاتلة وقابلة للتوظيف السياسي -من لدن السلطة والمعارضة على حد سواء- في صراع "الحداثيين" ضد "الإسلاميين" بعد الثورة.

في الفصل الرابع من المرسوم الرئاسي لسنة 2011 حجّر المشرّع على الأحزاب في النظام الأساسي أو البيانات أو البرامج "الدعوة إلى العنف والكراهية والتعصب والتمييز على أسس دينية أو فئوية أو جنسية أو جهوية". ورغم أنه لا يمكن لعاقل أن يعارض ما جاء في هذا الفصل، فإنه -كما قيل من قبل في القرآن الكريم- لا ينطق ولكن تنطق به الرجال، أو لنقل إنه لا ينطق بذاته ولكن تنطق به موازين القوة الرمزية والمادية داخل المجتمع. ولمّا كانت النخب الحداثية هي المهيمنة على مراكز إنتاج المعنى العمومي (الجامعة، الإعلام، الثقافة) ودورانه (الإعلام) وفرضه (القضاء، الأمن) فإن تأويل هذا الفصل وتنزيله سيكونان محكومين بالضرورة بمصالح "الأقليات" الأيديولوجية والجهوية والفئوية التي هددها ما يُسمّونه بـ"الإسلام السياسي"، سواء في ذلك ما كان تهديدا حقيقيا أو متخيلا أو مزيّفا، ويقع تضخيمه للتلاعب بالرأي العام وتحريضه على "الإسلاميين" باعتبارهم خطرا على الجميع، وليس فقط على "المتلاعبين بالعقول" وعلى مَن وراءهم في النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي.

يستطيع أي مشتغل على الشأن التونسي أن يلاحظ بسهولة أن السجال العمومي لم يركز إلا نادرا على التمييز على أسس فئوية أو جهوية، ولكنه كان مكثّفا فيما يتصل بالتمييز الحقيقي أحيانا والمتخيل أو المتخوف منه في الأغلب على أسس دينية، وبصورة أقل على أسس جنسية (المساواة بين الجنسين، القضايا الجندرية). فالحديث عن البنية الجهوية للسلطة منذ الاستقلال أو الحديث عن خارطة الفقر الجهوية لم يكونا يوما محل اهتمام جدي من لدن "النخب الحداثية"، وذلك على خلاف القضايا الهوياتية المرتبطة بمنزلة المرجعية الدينية في التشريع أو بحقوق المرأة والأقليات الجنسية. كانت السرديات الحداثية تنطلق دائما من فرضية أساسية مدارها أن التشريع الوضعي يحقق المساواة والعدالة ويضمن الحريات الفردية والجماعية، أو على الأقل سيفي بذلك كله يوما ما، على خلاف المرجعية الدينية الرجعية نشأة ووظيفةً ومؤسساتٍ. وهو تفكير "طوباوي" يرتبط بتصور مثالي ومفوّت للحداثة الغربية، ولا يُدخل في الاعتبار سائر حلقات "الحداثة" وتحولاتها ومآلاتها الواقعية كما بيّن المرحوم عبد الوهابي المسيري، كما أنه تفكير يُسطّح الظاهرة الدينية ويختزلها في تصور استشراقي استعماري أساسه الأعمق هو مقولة "الاستثناء الإسلامي".

في صراعهم ضد "الإسلاميين"، أو في دفاعهم عن ميراث سايكس-بيكو وكياناته الوظيفية المرتبطة بميراث سايكس-بيكو، تتأسس السرديات الحداثية الرافضة للاعتراف بحق الإسلاميين في العمل السياسي القانوني على فرضية أساسية هي ضرورة فصل الدين عن السياسة، وبالتالي فصله عن الدولة من منظور لائكي فرنسي محض. وهي الفرضية الأصلية التي تحكم الموقف من سائر القضايا المشتقة، كالإرهاب والتخلف ووضعية المرأة والحريات الخاصة والعامة وإصلاح التعليم والخطاب الديني المسجدي.. الخ. وبصرف النظر عن أن هذا النموذج لا يختزل سائر النماذج العلمانية ولا يُقدّم أفضل الحلول لضبط العلاقة بين الدين والسياسة، فإن "الحداثي التونسي" قد وجد نفسه -بحكم عجزه عن التخلص من ربقة اللائكية وخرافات دولة الاستعمار الجديد- يمارس العنف اللفظي، بل يدعو إلى العنف المادي ويشرعنه سواء صدر عن الدولة أو عن "الديمقراطيين"، ما دام ضحيته هو "منبوذو النمط"، أي الإسلاميون.

ولسنا نحتاج في هذا الموضع إلى التذكير بأن بيانات الكثير من الأحزاب "الحداثية" وخطابات رموزها لم تخلُ إلا نادرا من الدعوة إلى العنف والتحريض عليه على أساس "الهوية". كما إننا لن نحتاج إلى التذكير بـ"سياسة المكيالين" التي اعتمدتها الدولة في التعامل مع خطابات العنف أو الدعوة إلى التقاتل بين المواطنين والتحريض الممنهج ضد فئة من المواطنين. ويكفينا هنا أن نطرح المسألة بصورة أكثر تجريدا، وهي تتعلق بإشكالية وجود "إسلام غير سياسي" من جهة أولى، وبإمكانية وجود سلطة لا توظف الدين -أي فهما معينا للدين- من جهة ثانية.

ر "الإسلام السياسي" الأثير لدى النخب "الحداثية" هو تعبير مشكل ولكنه يرتقي إلى درجة البداهة عندهم. فهذا التعبير الاستشراقي يصادر على وجود إسلام غير سياسي، أي يقيس ضمنيا الظاهرة الإسلامية على التراث المسيحي الغربي نشأة ومسارا

إن تعبير "الإسلام السياسي" الأثير لدى النخب "الحداثية" هو تعبير مشكل ولكنه يرتقي إلى درجة البداهة عندهم. فهذا التعبير الاستشراقي يصادر على وجود إسلام غير سياسي، أي يقيس ضمنيا الظاهرة الإسلامية على التراث المسيحي الغربي نشأة ومساراتٍ. ولا شك عندنا في أننا أمام قياس مغالطي أساسه فرض تمثل غربي للدين ولدوره في التشريع، كما أن هذا التمثل للدين يخفي حقيقة أنه لا وجود لأية سلطة "كمالية" (نسبة إلى كمال أتاتورك) ومنها "البورقبية" كانت تتحرك خارج فهم/توظيف معين للدين. فلا وجود لسلطة خالية من "الدين"، وهو ما كان ينبغي أن يحمل النخب "الحداثية" على طرح الأسئلة التالية: ما هو البعد الديني الذي لا نريد "تسييسه": هل هو القيم أم الشريعة أم المخيال أم المؤسسات؟ هل إن "الدولة" بتأويلها اللائكي للدين قد حققت ما وعدت به من تحديث وتقدم وعدالة وحرية.. الخ، أم إنها استبعدت "الدين" من المجال العام فقط من أجل حماية مصالح أقليات أيديولوجية وجهوية وعسكرية وطائفية تابعة؟ هل يمكن بناء حقل سياسي سوي دون وجود الإسلاميين، ولماذا ينبغي على عموم التونسيين تأسيس حقل سياس يشتغل بالضرورة "ضد" الإسلاميين وليس "معهم"؟ ماذا استفاد التونسيون -والعرب عموما- من الأساطير المؤسسة للدول الوطنية؟ ولماذا ينبغي الدفاع عن تلك الأساطير من منظور "حداثي" نقدي وليس من منظور تحديثي مزيف؟ وبأي معنى يمكن للإسلاميين -باعتبارهم شركاء لا بدائل- أن يساهموا في تحقيق ذلك؟

إنها أسئلة كانت وما زالت في دائرة اللامفكر فيه دخل الخطابات الحداثية التي استمرأت الإشكاليات والحلول "الاستعمارية" التي فرضتها منظومة الاستعمار الداخلي، وروجت لها باعتبارها خيارا "وطنيا" وباعتبارها أيضا انبثاقا عفويا من فلسفة "التنوير"، وأساسا لا غنى عنه لأن تلتحق تونس بـ"ركب الدول المتقدمة"، كما روجت الآلات الدعائية الرسمية منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. ومهما جادل "الحداثيون" بمختلف مرجعياتهم البورقيبية والقومية واليسارية في الحاجة إلى المكون الإسلامي لبناء المشترك المواطني بعيدا عن منطقي الاستعلاء والإقصاء، فإنهم لا يستطيعون المجادلة في المحصول البائس لدولة الاستعمار الجديد، وبالتالي في ضرورة التجاوز الجماعي لأساطيرها التأسيسية ولخياراتها الكبرى المبنية على "اللائكية الفرنسية" المأزومة في فضائها التداولي الأصلي؛ قبل تَونستها في دولة الاستعمار الداخلي وواجهاتها السياسية المختلفة.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)