كتب

عامان على أطول حرب في تاريخ الصراع.. تقييم لمعهد سياسة الشعب اليهودي

ستكون السنوات القادمة أكثر إثارة للجدل بالنسبة لليهود الأمريكيين حول مكانتهم في المجتمع الأمريكي وعلاقة أمريكا مع إسرائيل.
في 20/8/2025، أصدر معهد سياسة الشعب اليهودي تقييمه السنوي. وتكمن أهمية المعهد في أنه العقل البحثي للوكالة اليهودية، ويشرف عليه دينيس روس المنسق السابق لعملية السلام في الشرق الأوسط في إدارات أمريكية متعددة. وشارك في إعداد التقييم مجموعة من أبرز العقول اليهودية منهم: إليوت إبرامز النائب السابق لمستشار الأمن القومي. والتقييم يضع أمام صانعي القرار في إسرائيل تحليلًا وتوصيات تتعلق بالموضوعات المؤثرة على الكيان ويهود الشتات. 

والتقرير تقييم مهم لتداعيات الطوفان على إسرائيل ويهود العالم. وهي تداعيات مؤثرة وبعيدة المدى: منها ما هو جديد وغير مسبوق في تاريخ الصراع، ومنها ما هو تعميق للصدوع الداخلية التي تعاني منها إسرائيل:

إسرائيل في دوامة الطوفان

بعد ما يقرب من عامين من هجوم السابع من أكتوبر الذي حطم شعور إسرائيل بالأمن، فلا تزال إسرائيل تعيش في ظلها الطويل. وما بدأ كهجوم قاتل لحماس تطور إلى الحرب متعددة الجبهات الأكثر تعقيدا في تاريخ إسرائيل. نعم، حققت إسرائيل انتصارات ميدانية في لبنان وإيران أدت إلى تغيير ميزان القوى الإقليمي لصالحها. ومع ذلك، فلا تزال أهداف الحرب المركزية التي وضعتها إسرائيل في غزة دون تحقيق.

إن رفض الحكومة تقديم استراتيجية قابلة للتطبيق لما بعد الحرب قد عمق الإحباط الدولي، وأدى إلى تآكل ثقة الجمهور في الداخل، وتزايد الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو أمر رمزي. وحتى في الولايات المتحدة، تُنذر الصور المروعة القادمة من غزة بنقطة تحول في الدعم الشعبي لإسرائيل. وتزداد عزلة إسرائيل في أوروبا، وتتعرض لهجوم قانوني وسياسي متصاعد. وهناك خطر من عزلة استراتيجية طويلة الأمد.

أما داخل إسرائيل، قد أعاد طول الحرب وشدتها فتح الجراح القديمة: الخلافات حول الإصلاح القضائي، وقواعد اللعبة السياسية، والإعفاءات الشاملة من الخدمة العسكرية للحريديم الذين يتزايد عددهم بسرعة.

المشهد الجيوسياسي في 2025

لا يزال شبح السابع من أكتوبر يخيم على الواقع الاستراتيجي لإسرائيل. وإن عجز الحكومة، أو عدم رغبتها، في رسم طريق للخروج من الحرب المستمرة في غزة، وعدم انتهاء أزمة الرهائن، والعدد الهائل من قتلى الجيش الإسرائيلي، والإرهاق البدني والنفسي، كل ذلك يُعمق بشكل متزايد الفجوة بين القوة العسكرية الجامحة والشرعية السياسية المتآكلة. وقد تكون إسرائيل الآن أقوى عسكريا وأكثر أمنًا؛ لكنها أيضًا معزولة ومنقسمة، وتفتقر إلى الرؤية الواضحة اللازمة لإنهاء أطول حرب في تاريخها. أما دوليا: فتظل الولايات المتحدة هي الداعم الوحيد لإسرائيل. وفي ظل إدارة ترامب الجديدة، قد يصبح هذا الوضع أيضًا غير مستقر، فسياسته الإقليمية غير متوقعة، وتقلباته العاطفية تخلق حالة من عدم اليقين بدلًا من الاستقرار.

إن رفض الحكومة تقديم استراتيجية قابلة للتطبيق لما بعد الحرب قد عمق الإحباط الدولي، وأدى إلى تآكل ثقة الجمهور في الداخل، وتزايد الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو أمر رمزي. وحتى في الولايات المتحدة، تُنذر الصور المروعة القادمة من غزة بنقطة تحول في الدعم الشعبي لإسرائيل. وتزداد عزلة إسرائيل في أوروبا، وتتعرض لهجوم قانوني وسياسي متصاعد. وهناك خطر من عزلة استراتيجية طويلة الأمد.
ولهذا المشهد والوضع المعقد آثار سلبية متعددة على إسرائيل:

1 ـ تآكل حاد في الروح المعنوية العامة، وشعور بالشلل. ويجد الجمهور الإسرائيلي نفسه غارقًا في حملة مطولة دون نهاية تلوح في الأفق.

2 ـ المرونة اليهودية والقدرة على تحمل الشدائد داخل إسرائيل وفي الشتات وتأمين السلامة الجسدية وضمان الرخاء المادي ودعم الشعور المشترك بالمصير الجماعي: كل ذلك يتم اختباره اليوم بشكل لم يسبق له مثيل.

3 ـ كان للسابع من أكتوبر تأثير سلبي كبير على الهجرة، إذ انخفض عدد المهاجرين إلى إسرائيل إلى النصف مقارنة بما قبل الحرب، كما زادت معدلات الهجرة العكسية منها.

4 ـ فقدان التعاطف الدولي الذي نالته إسرائيل في بداية الحرب؛ ثم تبخر سريعًا مع ارتفاع عدد القتلى الفلسطينيين، والاتهامات المتزايدة بالإبادة الجماعية. وفاقم الوضع الخطاب العنصري والتحريضي للوزراء وأعضاء الكنيست، الذين دعوا علنًا إلى محو غزة وتجويعها وتهجير الفلسطينيين إلى سيناء.

5 ـ أثارت تقارير وصور الجوع في غزة موجة من الإدانات والإجراءات العقابية ضد إسرائيل التي أصبحت بعيدة دبلوماسيًا عن حلفائها التاريخيين، ويُعامل نتنياهو بشكل متزايد كشخص غير مرغوب فيه.

6 ـ حشد الآليات القانونية الدولية ضد إسرائيل بطريقة كانت مخصصة سابقا للدول المارقة وأنظمة الإبادة الجماعية.

7 ـ زخم الاعتراف بدولة فلسطينية: نعم، قد لا يتغير الكثير على أرض الواقع؛ لكن سيتعين على الدول إعادة تقييم اتفاقياتها مع إسرائيل، وتوقف التجارة معها، وتزداد علاقاتهم بالفلسطينيين.

إن نجاحات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في القضاء على قادة حزب الله ومنع ترسيخ الوجود الإيراني لا تُغير الصورة العامة. لذا، ليس أمام إسرائيل إلا الاختيار بين مواصلة حربٍ مُضنية لا تنتهي، أو تبني مبادرة استراتيجية شاملة لإقامة نظام إقليمي جديد.

هشاشة المجتمع الإسرائيلي

تغرق إسرائيل في أزمة اجتماعية وسياسية عميقة مستمرة منذ سنوات. وفي استطلاع أُجري في أبريل نيسان ٢٠٢٥، وافق ٢٧٪ على أن إسرائيل "على وشك حرب أهلية". وقد زادت حكومة نتنياهو من حدة الأزمة والاستقطاب، والخلافات حول هوية إسرائيل، والفصائلية المدفوعة بالتنافس على النفوذ والهيمنة، والفجوات الثقافية المتجذرة في التعليم، والتفاوت في الدخل، والتضخيم الإعلام الاجتماعي والجماهيري لها.

ومع حرب السابع من أكتوبر، حشد المجتمع الإسرائيلي قواه كأن لم تكن هناك أزمة اجتماعية. وسمح للأزمة بالاستمرار كأن لم تكن هناك حرب، فلم تهدأ الخلافات حول بعض القضايا مثل سلطة المحكمة العليا، أو من يتحمل مسؤولية السابع من أكتوبر، وكيف تنتهي الحرب، والثمن الذي يجب دفعه لإعادة الرهائن. والأزمة لها تداعيات على مختلف المجالات، وهناك جوانب رئيسية لها:

أولا ـ النظام السياسي

ستًجرى انتخابات الكنيست في أكتوبر/تشرين الأول 2026، منهيةً بذلك واحدةً من أكثر فترات الحكم اضطرابًا ودراماتيكيةً في تاريخ أي حكومة إسرائيلية. ورغم تمتع الحكومة الحالية بأغلبية 68 مقعدًا؛ لكنها لا تتمتع بثقة شعبية تُذكر، إذ تتراوح الثقة فيها حول 30%. وتعتقد غالبية الجمهور أن تصرفات الحكومة مرتبطة برغبتها الحفاظ على أغلبيتها البرلمانية، حتى لو تعارضت مع المصالح العليا للدولة والمجتمع، مما يفاقم التوترات المجتمعية، ويقوّض النظام السياسي. ويسود اعتقاد واسع النطاق بين الجمهور بأن الانتخابات المقبلة ستكون مصيرية لإسرائيل. وبدونها، من المرجح أن تتحول الأزمة الاجتماعية إلى شرخ خطير.

ثانيا ـ التحدي الحريدي الأرثوذكسي المتشدد

سعى الائتلاف الحاكم إلى إقرار تشريع لإعفاء الحريديين من الخدمة العسكرية وعدم فرض عقوبات اقتصادية على المتخلفين عن الالتحاق بالجيش، لكنه، يلقى معارضة شديدة من مئات الآلاف من الجنود وعائلاتهم. وقد نشأت الأزمة في أعقاب تطورين رئيسيين. الأول هو حكم المحكمة العليا الذي ألغى ترتيب "توراتو أومانوتو": "دراسة التوراة كمهنة" الذي كان معمولًا به في إسرائيل. ولم تتراجع القيادة الحريدية والمجتمع الحريدي عن معارضة تجنيد طلاب المدارس الدينية حتى في الوحدات المصممة خصيصًا لأسلوب حياتهم.

ثالثا ـ التركيبة السكانية والضغط الاستراتيجي

بنهاية 2024، بلغ عدد اليهود المتشددين في إسرائيل 13.9% من السكان. وتتمتع هذه الفئة بأعلى معدل نمو ديموغرافي: 4% سنويًا، مقارنةً بـ 1,4% بين عموم السكان اليهود. وبالتالي، فإن سكان هذه الطائفة شباب جدًا، فنصفهم دون سن 16 عامًا. وإذا استمرت هذه الاتجاهات، فسيشكل الحريديم 16% من سكان إسرائيل عام 2030. ونظرًا لعدم التحاقهم بالجيش، يُجبر غير الحريديم على تحمل عبء الخدمة النظامية والاحتياط.

وهناك تحديات أخرى يفرضها الطابع الفريد لهذه الطائفة، لا سيما في المجال الاجتماعي والاقتصادي. فقد وفرت ميزانيات الدولة دعمًا كبيرًا لأسلوب حياتهم: رجال عاطلون عن العمل يعتمدون على التمويل الحكومي، ومدارس لا تُهيئ الشباب لسوق العمل الحديث. ويتم دعم القطاع الحريدي من خلال العبء الضريبي المفروض على غير الحريديم، مما يؤدي إلى تآكل قدرة الدولة على تحسين أو حتى الحفاظ على مستوى الخدمات التي تقدمها للإسرائيليين.

وإذا استمرت إسرائيل على مسارها الحالي، فسيكون مستوى معيشتها مماثلاً لدول العالم الثالث في غضون عقدين أو ثلاثة عقود فقط. وسيكون من الصعب الحفاظ على جهاز الأمن المكلف والمتطور الذي تحتاجه إسرائيل لمواجهة التهديدات العسكرية. وفي المقابل، لجأت القيادة الحريدية باستمرار إلى أساليب المماطلة والتسويف للحفاظ على الوضع الراهن. وسمحت الائتلافات الحاكمة المتعاقبة باستمرار هذا الوضع لمصلحة حسابات سياسية قصيرة الأجل.

رابعا ـ هشاشة الوضع الدستوري

لم يقدم بن غوريون ومعاصروه الأسس الدستورية للدولة. وامتنع بن غوريون عن وضع دستور حتى لا يُقوّض سلطته كرئيس للوزراء. وكبديل، تعتمد إسرائيل على 13 "قانونًا أساسيًا"، هي ليست دستورًا حقيقيًا، لأنها لا تتناول سوى نطاق ضيق من القضايا الدستورية، كما أنها ليست "مُترسخة" إذ يمكن لأغلبية بسيطة في الكنيست تعديلها أو إلغاءها متى شاءت. وفي العقد الماضي وحده، أدخل الكنيست تعديلات على القوانين الأساسية تفوق جميع التعديلات التي أُدخلت على دستور الولايات المتحدة منذ صدوره عام 1789.

إذا استمرت إسرائيل على مسارها الحالي، فسيكون مستوى معيشتها مماثلاً لدول العالم الثالث في غضون عقدين أو ثلاثة عقود فقط. وسيكون من الصعب الحفاظ على جهاز الأمن المكلف والمتطور الذي تحتاجه إسرائيل لمواجهة التهديدات العسكرية. وفي المقابل، لجأت القيادة الحريدية باستمرار إلى أساليب المماطلة والتسويف للحفاظ على الوضع الراهن. وسمحت الائتلافات الحاكمة المتعاقبة باستمرار هذا الوضع لمصلحة حسابات سياسية قصيرة الأجل.
وقد باءت بالفشل جميع المبادرات لكتابة دستور لعدم إمكانية التوصل إلى توافق واسع النطاق بشأن هوية الدولة والتزامها بقانون مفصل لحقوق الإنسان كمعيار لدستور كامل. ومع ذلك، هناك إمكانية للاتفاق على تنظيم الإطار الحكومي للنظام الوطني، مما سيمثل ترتيبًا دستوريًا متواضعًا يُعرف ب"الدستور الهش".

خامسا ـ دولة كلُّ فريق إلى خيمته

في العقود الأخيرة، أصبح الانقسام القائم على الهوية بين مختلف الفئات الاجتماعية في إسرائيل حقيقةً أساسيةً لا يمكن تجاهلها، واستُبدلت الديمقراطية التوافقية بـ"ديمقراطية الأزمة"، وثبت أن التصدعات في المجتمع الإسرائيلي مزمنة ويصعب تجسيرها. ووجدت إسرائيل نفسها في حرب ثقافية.  لذا، يدعو البعض إلى إعادة تشكيل إسرائيل كنظام من الحكم الذاتي، كل منها مُصمم خصيصًا لمجموعة هوية واحدة.

وتتعاون هذه الوحدات المستقلة ضمن إطار اتحادي. وتدير كل مجموعة شؤونها وفقًا لتفضيلاتها في مناطق محددة مسبقًا، وتتحمل مسؤولية قراراتها الخاصة. وستؤدي هذه الرؤية إلى تقليص الشراكة الإسرائيلية إلى الحد الأدنى من الضروريات، مثل الدفاع الجماعي ضد التهديدات الخارجية، دون الحاجة إلى إجماع وطني قائم على القيم. يمثل هذان المقترحان استراتيجيتين متعارضتين للرد على حرب الثقافة الإسرائيلية. يتماشى أحد الاقتراحين مع روح "كل إسرائيل إخوة"، بينما يتبنى الآخر شعار "كلٌّ إلى خيمته يا إسرائيل". مع ذلك، تشترك المقترحان في أمر واحد: أنها غير عملية إلى حد كبير، وجهود تطبيق أي منهما قد تزيد من تأجيج الأزمة. إذ ستصبح إسرائيل "دولة لجميع قبائلها"، ويضع الديمقراطية الإسرائيلية على منحدر زلق.

إسرائيل اليوم تسير على جليد رقيق، دون أي ضمان بأن واقعها السياسي لن يتغير. وتشمل العواقب عدم الاستقرار في الحياة العامة، وصدامات حادة بين السلطات، وتآكل ثقة الجمهور بالمؤسسات، وتعميق الاستقطاب الاجتماعي الذي قد يدفع البلاد إلى شفا حرب أهلية، وتراجعًا عامًا في الديمقراطية الإسرائيلية.

الساحة القانونية الدولية.. نحو أزمة شرعية معقدة

منذ اندلاع الحرب، واجهت إسرائيل تحديات غير مسبوقة في الساحة القانونية الدولية. وتجري ضدها إجراءات في الجنائية الدولية والعدل الدولية، والاختصاص القضائي العالمي. وتشكل هذه التطورات تهديدًا استراتيجيًا من الدرجة الأولى لها، وتؤثر على الشرعية العامة لإسرائيل:

المحكمة الجنائية الدولية (ICC) والحرب في غزة

وسّعت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاتها لتشمل تصرفات إسرائيل في الصراع الحالي. وأصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، في مايو/أيار 2024 مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير الدفاع آنذاك يوآف غالانت، في إجراء غير مسبوق يعكس تدهورًا كبيرًا في نظرة المجتمع القانوني الدولي إلى سلوك إسرائيل في زمن الحرب، ويُعرّضها دوليا لخطر قانوني جسيم. وقد يؤثر على علاقاتها الدبلوماسية والتجارية والأكاديمية، وشرعيتها الدولية، وإدارتها لعملياتها العسكرية المستقبلية.

ولأول مرة، وخلافًا لموقفها بعدم التعاون، مثلت إسرائيل أمام الجنائية الدولية للطعن في أوامر الاعتقال. لكن، مع استمرار الحرب وارتفاع عدد الضحايا المدنيين، يزداد صعوبة إقناع العالم بصحة موقف إسرائيل.

قضية الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية

في 29 ديسمبر/كانون الأول 2023، رفعت جنوب أفريقيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية، حول انتهاك إسرائيل لاتفاقية الإبادة الجماعية. وتُعتبر هذه القضية من أكثر الأحداث القانونية دراماتيكيةً على الساحة الدولية منذ قيام إسرائيل، وتُشكّل تهديدًا قانونيًا وسياسيًا خطيرًا لإسرائيل. ورغم أن المحكمة لم تُصدر حكمًا بوقوع إبادة جماعية، إلا أن نظرها في القضية وإصدارها تدابير مؤقتة يُلقي بظلال ثقيلة على إسرائيل، ويُضرّ بصورتها، ويُثير تداعيات دولية واسعة النطاق. ويُمثّل سابقة خطيرة وتحديًا قانونيًا واستراتيجيًا طويل الأمد.

القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية

بعد عملية استغرقت قرابة عامين، أصدرت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري في يوليو/تموز 2024 والذي نص على عدم مشروعية الاحتلال ووجوب تصدي المؤسسات الدولية والمجتمع الدولي له. ويُمثل هذا الرأي نقطة تحول مهمة في الساحة القانونية والدبلوماسية، ويُغير فعليًا قواعد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وقد يتطور إلى وثيقة تأسيسية تؤثر على سياسات الدول والمؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدني. ويحمل عواقب وخيمة محتملة على إسرائيل يصعب تقييمها بالكامل في هذه المرحلة. وتُمكّن هذه الأداة القانونية من تجاوز مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث يحمي حق النقض الأمريكي إسرائيل عادةً من القرارات المعادية. ويؤدي هذا الرأي أيضا إلى توسيع نطاق تحقيق الجنائية الدولية ليشمل النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية وإصدار مذكرات اعتقال إضافية بحقّ مسئولين إسرائيليين رفيعي المستوى، ويعزز رفض الفلسطينيين لأيّ حل يتضمن "تنازلات" لإسرائيل. كما يوسع هذا الرأي من دائرة الاعتراف الدولي بدولة فلسطين.

مبدأ الولاية القضائية العالمية

يرتكز هذا المبدأ على فكرة أن جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتعذيب تضر بالمجتمع الدولي بأسره، مما يمنح جميع الدول مصلحةً راسخةً في مقاضاتهم. وقد ازداد في السنوات الأخيرة خطر تطبيقه على الإسرائيليين، لا سيما في الدول الأوروبية. وقد بدأت عدد من المنظمات، من بينها مؤسسة هند رجب، بتقديم شكاوى قانونية ضد جنود إسرائيليين في العديد من البلدان المختلفة. وعلى الرغم من قلة الملاحقات القضائية الفعلية حتى الآن، فقد تم إرساء الأساس القانوني والسياسي لهذه الملاحقة.

العلاقة مع الولايات المتحدة.. تحالفٌ تعاقديٌّ أم مصيرٌ مشترك؟

منذ السابع من أكتوبر، اتسمت كلٌّ من الإدارتين الديمقراطية والجمهورية بسخاءٍ استثنائي. تتلقى إسرائيل ٣.٣ مليار دولار كمساعداتٍ أمريكيةٍ سنويًا عبر برنامج التمويل العسكري الأجنبي (FMF) و٥٠٠ مليون دولار لبرامج الدفاع الصاروخي التعاونية. يجب على إسرائيل إنفاق معظم هذه الأموال على المعدات والخدمات العسكرية الأمريكية. بحلول يونيو/حزيران 2025، كانت الولايات المتحدة قد شحنت أكثر من 90 ألف طن من المعدات العسكرية، عبر أكثر من 800 شحنة جوية و140 شحنة بحرية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول. وتتجاوز المساعدات الأمريكية منذ عام 1948 مبلغ 130 مليار دولار. ومع ذلك، فإن إحدى الاستنتاجات الشائعة من الصراع بين بايدن ونتنياهو حول تكتيكات إسرائيل، هي أن على إسرائيل إعادة تقييم اعتمادها على أمريكا. ويتساءل "الانعزاليون الجدد" المتناميون في أمريكا عما تحصل عليه أمريكا في المقابل - إلى جانب العداء العربي وخطر "حرب أبدية" أخرى. ذلك، من أن جيوش الولايات المتحدة و الناتو تتبنى ابتكاراتها في حرب الذكاء الاصطناعي وحرب المدن والأنفاق.

هل انتهى "العصر الذهبي" لليهود الأمريكيين؟

هذا السؤال يناقش الآن بجدية في الجالية اليهودية الأمريكية. فقد أصبحت معاداة إسرائيل مرئية في العديد من الديمقراطيات الغربية، وأوضح الأمثلة: كندا وأستراليا والمملكة المتحدة وفرنسا؛ لكن الولايات المتحدة بدت محصنة؛ فهل بدأت في الاستسلام؟ وهل أيام الدعم الواسع لإسرائيل صارت شيئًا من الماضي؟

منذ اندلاع الحرب، واجهت إسرائيل تحديات غير مسبوقة في الساحة القانونية الدولية. وتجري ضدها إجراءات في الجنائية الدولية والعدل الدولية، والاختصاص القضائي العالمي. وتشكل هذه التطورات تهديدًا استراتيجيًا من الدرجة الأولى لها، وتؤثر على الشرعية العامة لإسرائيل:
في العقدين الأولين بعد الحرب العالمية الثانية، كان هناك الكثير من معاداة السامية في الولايات المتحدة: النوادي والفنادق والأحياء بأكملها تستبعد اليهود في الستينيات. لكنها تضاءلت بالفعل، وشهد اليهود - في ول ستريت، هوليوود، الإدارة منذ كينيدي، وفي جميع أنحاء الولايات المتحدة - سقوط الحواجز؛ لكن استمرت النظرة إلى إسرائيل على أنها عبء على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لمدة عقدين على الأقل بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تبدأ في الانعكاس إلا بعد الانتصار الإسرائيلي الساحق في حرب الأيام الستة عام 1967. لذا، إذا كان هناك عصر ذهبي، فمن المحتمل أنه كان في نصف قرن بعد عام 1967.

هل انتهى الأمر الآن؟ بمقارنة الولايات المتحدة بمجتمعات الشتات الكبيرة الأخرى، فهناك اختلاف واحد واضح، في فرنسا، يفوق عدد المسلمين عدد اليهود بنحو 13 إلى 1، فوي المملكة المتحدة، أقرب إلى 15 إلى 1؛ أما في الولايات المتحدة، يفوق عدد اليهود عدد المسلمين بمقدار 2 إلى 1. وهذا مهم لأن كل مجتمعات الشتات هذه هي ديمقراطيات ستعكس سياساتها تجاه إسرائيل ما يريده الناخبون. علاوة على ذلك، فإن التردد في مواجهة السلوك المعادي لإسرائيل سيكون أكبر عندما تخشى الحكومات رد فعل انتخابي عنيف من كتل كبيرة من الناخبين المسلمين.

ولعل الأهم من ذلك هو أن الولايات المتحدة لديها تقليد مختلف تماما يتعلق باحترام اليهود ومعاملتهم. فقد وضعت الرسالة الشهيرة عام 1790 من جورج واشنطن إلى يهود رود آيلاند مذهلة نغمة جديدة: " لا يزال أبناء نسل إبراهيم الذين يسكنون في هذه الأرض يستحقون ويتمتعون بحسن نية السكان الآخرين، بينما يجلس كل واحد بأمان تحت كرمه وشجرة التين ولن يكون هناك من يجعله يخافه".

لكن اليوم، يخاف العديد من اليهود. إذ على اليمين وعلى اليسار، أصبحت أقلية كبيرة من المسؤولين المنتخبين الديمقراطيين الآن مناهضين لإسرائيل بصوت عال وحريصين على المظاهرات العنيفة. وهناك المواقع والبودكاست اليمينية المعادية للسامية التي لم تكن موجودة قبل عشر سنوات، ليس فقط لتقديم ادعاءات قديمة حول القوة اليهودية الشريرة؛ ولكن القول بأن المسيحية ليس لها جذور أو علاقة باليهودية. وقد أظهرت معظم النخبة في جامعات أمريكا نفسها بعد السابع من أكتوبر أنها مليئة بالطلاب والأساتذة والإداريين المعادين لإسرائيل إلى درجة صدمت معظم يهود الولايات المتحدة. ومعظم المؤسسات الحاكمة للثقافة الأمريكية في معظم وسائل الإعلام والمتاحف والكثير من هوليوود، وغالبية الممثلين والرسامين والكتاب المشهورين، معادية لإسرائيل الآن.

وعلى مدى العقود الأخيرة، خفضت سياسات القبول في الجامعات الأمريكية التواجد اليهودي إلى عشرة في المائة أو أقل، مما يعني تضييق مكانة اليهود الأمريكيين في النخب الأمريكية المستقبلية.

ومع ذلك: عندما حذر هؤلاء المعادون والكارهون لإسرائيل الرئيس ترامب من ضرب إيران، تجاهل تحذيراتهم وسخر منهم. وأظهرت استطلاعات الرأي دعما قويا بين الجمهوريين وبين ناخبي ترامب للضرب؛ لكن الصورة أقل تشجيعا على الجانب الديمقراطي، حيث انخفض الدعم لإسرائيل على نطاق واسع.

إن تراجع الدعم لإسرائيل بين الأمريكيين الأصغر سنا، حدث خلال عقود انخفضت فيها قوة الجالية اليهودية: يبلغ معدل الزواج المختلط بين اليهود غير الأرثوذكس الآن أكثر من 70٪، والعديد من أطفال هذه الزيجات ينشئون دون هوية يهودية قوية. كما أن 68٪ فقط من أولئك الذين نشأوا على أنهم يهود يعرفون أنفسهم الآن بأنهم يهود. وهذا ينذر بمزيد من التآكل في المجتمع اليهودي في المستقبل.

وتتعرض العلاقة بين الولايات المتحدة والجالية اليهودية وإسرائيل لضغوط كبيرة. والتأييد لإسرائيل آخذ في الانخفاض. وأصبح دعمها مسألة نقاش ساخن ومثير للانقسام. ويشير صعود معاداة إسرائيل بين اليسار واليمين إلى تحديات متزايدة، خصوصا مع انتشار نهج شبه انعزالي في أمريكا، وأصبح الابتعاد عن الدولة اليهودية الآن شائعا بين النخب السياسية، وخاصة في الحزب الديمقراطي.

إن أي تغيير كبير بمرور الوقت في الديموغرافيا الأمريكية سيترك الجالية اليهودية أصغر وأقل نفوذا في السياسة الأمريكية - وأن المسيحيين الأمريكيين قد يقللون من قيمة ديونهم الدينية لليهودية ودعمهم للدولة اليهودية، وبدلا من ذلك يتبنون شكلا حديثا يسعى إلى قطع العلاقة اللاهوتية والتاريخية بين الديانتين.

إذن، ستكون السنوات القادمة أكثر إثارة للجدل بالنسبة لليهود الأمريكيين حول مكانتهم في المجتمع الأمريكي وعلاقة أمريكا مع إسرائيل. وما بدا لفترة من الوقت طبيعيا ومقبولا تماما سيتطلب الآن قتالا. نعم، لا تزال "الاستثنائية الأمريكية"؛ لكن لها حدود وتدرجات وأعداء. وما اعتبره اليهود الأمريكيون أمرا مفروغا منه لجيل سيتطلب الآن تفكيرا جديدا وجهودا جديدة وأصدقاء جيدين.