قضايا وآراء

الساعة النووية لإيران.. آلية الزناد تعيد الفصل السابع وتفتح أبواب أزمة عالمية

غزل أريحي
الأهم أن المنطقة والعالم يدخلان في لعبة جديدة: إيران بين مطرقة العقوبات وسيف التهديد العسكري، والغرب بين ذريعة النووي وطموح تغيير النظام.
الأهم أن المنطقة والعالم يدخلان في لعبة جديدة: إيران بين مطرقة العقوبات وسيف التهديد العسكري، والغرب بين ذريعة النووي وطموح تغيير النظام.
لم يعد السؤال اليوم ما إذا كان الاتفاق النووي مع إيران قد مات، بل كيف سيُكتب تاريخ ما بعده. خلال ساعات قليلة، تدخل "آلية الزناد" حيّز التنفيذ، لتُعيد إيران رسميًا إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. هذه ليست خطوة إجرائية روتينية، بل لحظة فارقة في ميزان السياسة الدولية، تحمل معها مزيجًا متفجرًا من العقوبات، والتهديدات العسكرية، والسيناريوهات المفتوحة على احتمالات خطرة تتجاوز حدود الشرق الأوسط.

في الأيام الأخيرة، حاولت موسكو القيام بآخر عملية إنعاش للاتفاق النووي عبر اقتراح تمديد رفع العقوبات حتى أبريل 2026. لكن التحالف الغربي في مجلس الأمن أغلق تلك النافذة، منهيا فعليا آخر فرصة لإبقاء الصفقة على قيد الحياة.

المشهد لا يقف عند العقوبات. فالمؤشرات المتراكمة تُظهر أن قرار الحرب ضد إيران اتُّخذ بالفعل. ليس قرارًا إسرائيليًا منفردًا كما قد يُعتقد، بل مشروع تتقاطع فيه أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، ودول غربية أخرى.
هكذا، وبعد سنوات من محاولات الترقيع الأوروبية والشرعية الدولية، يُعلن الاتفاق النووي رسميًا وفاته القانونية والسياسية، وتُدفع إيران إلى مواجهة مباشرة مع نظام العقوبات الأممية.

الآلية المضمَّنة في القرار 2231 صُممت عام 2015 كأداة لتجنب استخدام روسيا أو الصين لحق النقض لحماية طهران. الفكرة بسيطة لكن مدمرة: بدل التصويت على إعادة فرض العقوبات، يُصوَّت على تمديد رفعها. والفشل في التمديد يعني العودة التلقائية لكل القرارات السابقة.

المفارقة أن هذه الآلية كانت من بنات أفكار روسيا نفسها، كما ذكر محمد جواد ظريف في كتابه صمود الدبلوماسية. لكن اليوم، تحولت إلى السلاح الذي يجهز على الاتفاق ويضع موسكو نفسها في موقع الخاسر. وكأن التاريخ قرر أن يسخر من مهندسيه.

جميع العقوبات التي فرضها مجلس الأمن على إيران بسبب برنامجها النووي كانت تحت الفصل السابع. ومع توقيع الاتفاق النووي، رُفعت تلك القرارات، وخرجت إيران رسميًا من حالة «الخطر على السلم والأمن الدوليين».

اليوم، ومع عودة الآلية، تُستعاد تلك القرارات بكل ما تحمله: حظر الأسلحة، تجميد الأصول، قيود على الصواريخ، عقوبات مالية ومصرفية شاملة.

لكن الأخطر أن الفصل السابع لا يقتصر على العقوبات. هو يمنح مجلس الأمن صلاحيات للانتقال من الأدوات الاقتصادية إلى الأدوات العسكرية، كما حدث مع العراق عام 2003 وليبيا عام 2011. وهنا تبرز المقارنة المقلقة: كل ما حدث ضد العراق يتكرر اليوم ضد إيران، لكن من دون غزو بري، وبمشاركة تتجاوز أمريكا وإسرائيل.

المشهد لا يقف عند العقوبات. فالمؤشرات المتراكمة تُظهر أن قرار الحرب ضد إيران اتُّخذ بالفعل. ليس قرارًا إسرائيليًا منفردًا كما قد يُعتقد، بل مشروع تتقاطع فيه أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، ودول غربية أخرى.

كان من الممكن ـ بل من المنطقي ـ منح الدبلوماسية فرصة وتأجيل العقوبات بضعة أشهر. لكن الهدف الظاهر هو دفع طهران إلى ردات فعل قوية توفر الذريعة للحرب. المشروع النووي لن يكون سوى الغطاء القانوني، أما الهدف الحقيقي فهو تغيير النظام.

الخطة لا تتضمن غزوًا بريًا، بل قصفًا جويًا تدميريًا منظمًا، يترافق مع إدارة فوضى داخلية.

هذه الحرب، إذا اندلعت، لن تستهدف إيران وحدها. إنها حرب متعددة الطبقات:

ـ إضعاف نفوذ روسيا في جنوب القوقاز.

ـ تقويض التمدد الاقتصادي الصيني عبر إيران.

ـ زعزعة استقرار دول الجوار: تركيا، والعراق، وباكستان.

كل ذلك ليس مجرد آثار جانبية، بل "نتائج مقبولة وربما مطلوبة" بالنسبة لإسرائيل والغرب. ما يجري إذن أبعد من أزمة نووية: إنه مشروع يعكس بعدًا عالميًا، وقد يكون بالفعل نواة لحرب كبرى تتجاوز حدود الشرق الأوسط.

أمام هذا المشهد، أعلنت طهران بوضوح أنها قد تنسحب من معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT) وتعتبر اتفاق القاهرة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لاغيًا.

بالنسبة للغرب، هذه الخطوة ليست مجرد ورقة ضغط، بل إشارة حمراء: الخطوة الأولى نحو القنبلة النووية.

إسرائيل، التي تراقب المشهد عن كثب، ترى في ذلك ذريعة مثالية لتوجيه ضربات عسكرية جديدة. أما واشنطن وشركاؤها الأوروبيون، فيعتبرونها دليلاً على أن إيران لم تترك لهم خيارًا سوى التصعيد.

الوقائع على الأرض تزيد التوتر. إيران تمتلك الآن أكثر من 400 كغ من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، أي على بُعد خطوة واحدة من العتبة العسكرية. والأخطر أن هذا المخزون خارج رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

هنا تتجلى خطورة استراتيجية «الغموض النووي» التي تتبعها طهران: الاحتفاظ بأوراق تفاوض قوية من جهة، لكن من جهة أخرى تغذية شكوك الغرب وتسريع مسار العقوبات والضغط الأقصى. إنها لعبة محفوفة بالمخاطر قد ترتد على صانعيها.

الوقائع على الأرض تزيد التوتر. إيران تمتلك الآن أكثر من 400 كغ من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، أي على بُعد خطوة واحدة من العتبة العسكرية. والأخطر أن هذا المخزون خارج رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كما في جولات العقوبات السابقة، يشكل العراق منفذًا رئيسيًا لطهران للالتفاف على الحصار عبر التجارة والتمويل. لكن هذه المرة، يبدو أن الغرب عازم على إغلاق كل الثغرات: من مراقبة الحدود والتهريب، إلى تضييق الخناق على قنوات النفط والمال، ما سيضاعف الضغوط الاقتصادية على إيران وحلفائها، ويرفع احتمالات الاحتكاك الأمني عند الممرات البحرية والحدودية.

لم يعد الحديث عن العودة إلى اتفاق 2015 واقعيًا. أي مفاوضات مقبلة ستكون مختلفة في الشكل والمضمون، وربما تستند إلى ترتيبات مؤقتة من نوع «تجميد مقابل تجميد» أو «نزع تصعيد محدود». لكن استعادة روح الصفقة القديمة باتت وهمًا.

المرحلة المقبلة ستتحرك على ثلاثة مسارات متوازية:

1 ـ ضغوط دولية مشددة: عقوبات مالية وتجارية بلا هوادة، وملاحقة كل الثغرات.

2 ـ تصعيد عسكري محتمل: استخدام الفصل السابع كمبرر قانوني لأي ضربات.

3 ـ ردود إيرانية متطرفة: انسحاب من المعاهدات النووية ومنع الوكالة من التفتيش والرقابة.

الزمن لا يعود إلى الوراء. منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق عام 2018، بدا واضحًا أن الصفقة أصيبت بجراح قاتلة. أما اليوم، فإن تفعيل آلية الزناد يدفنها رسميًا.

لكن الأهم أن المنطقة والعالم يدخلان في لعبة جديدة: إيران بين مطرقة العقوبات وسيف التهديد العسكري، والغرب بين ذريعة النووي وطموح تغيير النظام.

إنها ليست مجرد أزمة تخصيب يورانيوم، بل صراع عالمي تتقاطع فيه حسابات واشنطن وتل أبيب مع رهانات موسكو وبكين، وتتردد ارتداداته في كل العواصم المحيطة بإيران وكذلك العواصم العربية.

هذه ليست نهاية مرحلة فقط، بل بداية زمن جديد، حيث تدق الساعة النووية لإيران على إيقاع أزمة قد تكون نواة لحرب كبرى، تتجاوز حدود الشرق الأوسط نحو قلب النظام الدولي نفسه.
التعليقات (0)