الكتاب: غزة، مدخل إلى الحرب الممتدة
المؤلف: أسعد غانم
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
" نحن أمام تحول
استراتيجي وجوهري في الصراع.. إسرائيل تنشد الآن إخراجا كاملا لمشروع دولة إسرائيل
أو أرض إسرائيل، وهي جاهزة أكثر لتعزيز نظام التفوق العرقي في
فلسطين التاريخية،
وتنسف نهائيا مشروع الدولتين.. وتعمل على تصفية قضية اللاجئين والعودة.. إنهم
(الفلسطينيون) في لحظة خطيرة تتجاوز ثقل لحظة النكبة.. إنهم في خضم الحرب الممتدة
في مجابهة مشروع تمدد الاستعمار الاستيطاني والأبرتهايد الإسرائيلي في عموم
فلسطين".
هذه الفقرة جزء من مقدمة الباحث والأكاديمي
الفلسطيني أسعد غانم لكتابه الذي يطرح مقولة أساسية هي أن الحرب التي نشهدها اليوم
في غزة حرب مستمرة وممتدة ونهايتها غير معلومة، وربما تفتح الباب على مواجهة
فلسطينية وعربية ودولية مع إسرائيل. وهو يناقش إلى ذلك ارهاصات هذه الحرب والظروف
التي أدت إليها، إسرائيليا وفلسطينيا، وتداعياتها وآثارها.
إن ما تقوم به إسرائيل من إبادة وتطهير عرقي في غزة، بلغ ذروة جديدة لم تكن وصلت إليه من قبل، جاء بسبب ما أدركته من تصميم لدى الفلسطينيين على مقاومة الاحتلال وتعبيرهم عن ذلك بطريقة غير مسبوقة، فانطلقت إسرائيل "الرسمية والشعبية"، التي يزدهر فيها اليمين وتتصاعد فيها الفاشية لتشكل تيارا مركزيا في سياساتها، بتصميم أكبر لاستكمال مشروع السيطرة على فلسطين التاريخية وفرض التفوق اليهودي والانتقام من الفلسطينيين وإخضاعهم.
كما يشرح تطورات الحركة الوطنية الفلسطينية
قبل طوفان الأقصى وبعده، وصعود حماس إلى مركز فعل المقاومة ضد إسرائيل، في الوقت
الذي تراجعت فيه منظمة التحرير وفصائلها عن هذا الدور. ويحاول فهم "الحالة
المستعرة" في إسرائيل للانتقام من الفلسطينيين عموما وأهل غزة على وجه
الخصوص، ويناقش التطورات العربية والدولية بخصوص الحرب على غزة على المستويين
الرسمي والشعبي.
الطريق إلى حرب غزة
ينظر غانم إلى هجوم "طوفان
الأقصى" باعتباره لحظة فارقة جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني ضد إسرائيل،
وهو إلى ذلك شكل صدمة غير مسبوقة للكيان بحيث أصبحت جملة "إخفاق تاريخي وغير
مسبوق" هي الجملة التي تستخدم لتوصيف نتيجة "الهجوم الغزي". وأهم
ما يجب ملاحظته أننا أمام تطورات فلسطينية وإسرائيلية داخلية أدت بنا إلى واقع
الحال اليوم. فقد جاءت عملية حماس الكبيرة والناجحة" في السابع من أكتوبر في
سياق رؤية الحركة لنفسها باعتبارها المدافعة عن الفلسطينيين والحاملة لمشروعهم
الوطني في ظل غياب أي مشروع سياسي فلسطيني شامل لإنجاز التحرير أو التصدي
للتجاوزات الإسرائيلية.
ومن جهة أخرى فإن ما تقوم به إسرائيل من
إبادة وتطهير عرقي في غزة، بلغ ذروة جديدة لم تكن وصلت إليه من قبل، جاء بسبب ما
أدركته من تصميم لدى الفلسطينيين على مقاومة
الاحتلال وتعبيرهم عن ذلك بطريقة غير
مسبوقة، فانطلقت إسرائيل "الرسمية والشعبية"، التي يزدهر فيها اليمين
وتتصاعد فيها الفاشية لتشكل تيارا مركزيا في سياساتها، بتصميم أكبر لاستكمال مشروع
السيطرة على فلسطين التاريخية وفرض التفوق اليهودي والانتقام من الفلسطينيين
وإخضاعهم.
إننا، بحسب ما يرى غانم، أمام حرب سوف تستمر
لسنوات، ولن تنتهي إلا بصفقة تاريخية مختلفة عن كل ما حدث حتى الآن، يصل فيها
الإسرائيليون والفلسطينيون إلى وضع جديد، قد ينفذ فيه واحد من السيناريوهات
الثلاثة التالية "بعيدة المنال" وهي: التقسيم المستند إلى مصالحة تفضي
إلى دولتين مستقلتين، أو الدولة الواحدة وإنهاء الوضع الاستعماري والأبرتهايد في
فلسطين التاريخية، أو الهيمنة الكاملة لأحد الطرفين، بحيث تصل تطلعات الطرف الضعيف
بالحصول على حقوق جماعية ـ قومية إلى حالة من الضمور والانتهاء.
لكنها كما أسلف حلول لن تتحقق في المدى
المنظور. بينما يستند سيناريو الحرب الممتدة إلى تبريرات واقعية منها أن فكرة
انسحاب إسرائيل من غزة تبدو غير مطروحة، إسرائيليا، على الأقل. فقد نشر بنيامين
نتنياهو في فبراير 2024 خطة تنص على أن "إسرائيل ستحافظ على حرية العمليات في
قطاع غزة، دون حدود زمنية، من أجل منع عودة الإرهاب.. وإن المنطقة الأمنية التي
أقيمت في قطاع غزة في محيط حدود إسرائيل ستظل قائمة، وأنه سيتم إغلاق جنوب الحدود
بين غزة ومصر". وهي خطة يرى غانم أن أي حكومة إسرائيلية ستأتي ستجد فيها
تصورا منطقيا يجب الالتزام به، لتضمن بذلك قدرتها على التوغل والانسحاب بما يشبه
الوضع الحالي في الضفة الغربية.
لكن في مقابل التصورات الإسرائيلية هناك
موقف شعبي فلسطيني يعتقد أن المقاومة قادرة على التصدي للتوغلات الإسرائيلية حتى
وإن كان ذلك بأدوات عسكرية محدودة. أضف إلى ذلك فإن حماس، التي "أضعفت
وأنهكت" لم تهزم، وهو ما تصرح به قيادات في الجيش الإسرائيلي، ما يعني أنها
قادرة على استعادة دورها في المشهد الغزي في "اليوم التالي". وعدا ما
سبق فإن تطورات الحرب وتفاصيلها القاسية، والأثمان الباهظة التي دفعها
الفلسطينيون، تثير الكثير من الشكوك اليوم حول أي إمكانية لوقوع تفاهمات متبادلة
بين الفلسطينيين والإسرائيليين. يقول غانم إن الإعلان عن هدنة أو وقف لإطلاق النار
لا يعني أننا أمام نهاية للصراع. الحرب ستأخذ أشكالا مختلفة ولن تتوقف خلالها
الاجتياحات العسكرية الواسعة.
غياب المشروع الوطني
يرى غانم أن التوحش الإسرائيلي ضد غزة
والفلسطينيين بشكل عام يمثل امتدادا لحالة دائمة من التصعيد منذ النكبة، لكنه تفاقم أكثر
في مرحلة ما بعد أوسلو، ومع صعود نتنياهو لرئاسة الوزراء عام 2009. فمعارضة
نتنياهو لأي استراتيجية لتحقيق السلام مع الفلسطينيين ليست تلاعبا سياسيا للمحافظة
على ائتلافه اليميني، بل منهجا راسخا ومتعمدا لتمكين إسرائيل من الاستمرار في
احتلال الأراضي الفلسطينية، مع السعي الحثيث "لإضعاف وتهميش الحركة الوطنية
الفلسطينية، واعدا الجمهور الإسرائيلي بأن الازدهار يمكن تحقيقه دون سلام".
يرى غانم أن التوحش الإسرائيلي ضد غزة والفلسطينيين بشكل عام يمثل امتدادا لحالة دائمة من التصعيد منذ النكبة، لكنه تفاقم أكثر في مرحلة ما بعد أوسلو، ومع صعود نتنياهو لرئاسة الوزراء عام 2009. فمعارضة نتنياهو لأي استراتيجية لتحقيق السلام مع الفلسطينيين ليست تلاعبا سياسيا للمحافظة على ائتلافه اليميني، بل منهجا راسخا ومتعمدا لتمكين إسرائيل من الاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية، مع السعي الحثيث "لإضعاف وتهميش الحركة الوطنية الفلسطينية، واعدا الجمهور الإسرائيلي بأن الازدهار يمكن تحقيقه دون سلام".
ومع هذه الاستراتيجية العدائية المتنامية
ساهم الوضع الفلسطيني الداخلي المهلهل في وصولنا إلى "طوفان الأقصى"
وتداعيات الحرب التي نشهدها اليوم. يوجه غانم انتقادات واضحة للفلسطينيين عموما
والكيانات التي يفترض أنها ممثلة لهم، مثل
منظمة التحرير، والسلطة الوطنية، وحتى الفلسطينيين في إسرائيل، ويرى أنهم جميعا
أخفقوا في تقديم الحد الأدنى من الدعم والمساندة لغزة، ويقول إن "أهم ما حصل
فلسطينيا قبل الحرب بوقت طويل هو غياب أي مشروع جدي وفاعل لإعادة الاعتبار للفلسطينيين
ولحركتهم الوطنية.. ورغم إن إسرائيل، من خلال نهجها العنصري والفاشي، تعطي
الفلسطينيين فرصة تاريخية لمجابهتها دوليا وعربيا وفلسطينيا وحتى إسرائيليا، لكن
مع قيادة يمثلها محمود عباس فإننا نكون قد وصلنا إلى الهزيمة الكاملة
فلسطينيا".
أما وقد اندلعت الحرب فإن القيادة
الفلسطينية في رام الله لم تقم بدورها المطلوب في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية
سواء في غزة أو في باقي الأراضي المحتلة التي تتعرض باستمرار لانتهاكات صارخة من
قبل المستوطنين وجيش الاحتلال، "فيما ينتظر عباس وسلطة رام الله انتهاء الحرب
ليكون لهم دور في ترتيبات اليوم التالي وخصوصا في قضايا الإعمار التي تعتبر لبعض
قيادات السلطة وأبنائهم مناسبة للاستثمار". ويضيف أن هذه القيادات تمنى النفس
كذلك بتفعيل العملية السياسية والتقدم في مسار قيام دولة فلسطينية، وهو ما يراه
أوهاما غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع، إلا لمن يقبلون أن تكون هذه الدولة
"بانتوستانا يرعى ويتابع الحاجات المدنية للفلسطينيين داخل حدوده، ويهتم
بحماية إسرائيل وأمنها".
أما عن حماس ومستقبلها، فيلفت غانم إلى أن
آثار الحرب الكارثية كشفت عن مأزق عسكري للحركة، وعن أنها لم تكن قادرة على تحضير
غزة لسيناريو الحرب خلال فترة حكمها، وعن أن المجتمع الغزي يعاني من الضعف والترهل
وانعدام التخطيط والتنسيق. وإلى ذلك يقر بأن مستقبل الحركة لا يمكن أن يتضح قبل
نهاية الحرب، فرغم أنها لا تزال تحظى بتأييد شعبي كبير فإن مستقبلها السياسي محكوم
بتطورات لا بد قادمة في المشهد الفلسطيني والدولي. إلا أنه "لا يمكن تخيل
مستقبل سياسي للفلسطينيين من دون حماس".
يقول غانم إن أهم ما يمكن فعله فلسطينيا
السعي إلى تغيير جذري في الأداء الرسمي والشعبي. وهو ما يستدعي تغييرا جذريا في
طرق النضال ضد إسرائيل. إذ يرى أن الفلسطينيين يقفون اليوم أمام مفترق طرق"
فإما الاندثار نهائيا كجماعة وطنية واحدة او الانطلاق نحو التصرف كشعب متماسك
تقوده قيادات تليق به وتستطيع صياغة طريق واضح نحو المستقبل".
على صعيد عربي ودولي يشير غانم إلى حالة من
الانقسام الحاد بين مواقف الشعوب والحكومات. فالمواقف الرسمية عبرت عن دعم واضح
لإسرائيل وتبرير جرائمها، وإن كانت هناك مواقف لبعض الدول منددة بالجرائم
الإسرائيلية فإنها لم تكن مؤثرة، بل إن الكثير من هذه الدول واصل التعامل بشكل
طبيعي مع إسرائيل متغاضيا عن كونها "دولة مارقة تتحدى القوانين والأعراف
الدولية وتمارس جرائمها أمام العالم".
في المقابل عبرت الشعوب عن مواقف أكثر شجاعة
وإنسانية، ونددت بالمجازر الإسرائيلية، ودعت إلى وقف الحرب فورا، ومقاطعة إسرائيل
وبضائعها وأنشطتها، وشارك في ذلك العديد من المشاهير والشخصيات البارزة. وهذا شكل
بدون شك ضغطا ملحوظا على الحكومات الداعمة لإسرائيل في أوروبا والولايات المتحدة،
لاتخاذ مواقف أكثر توازنا. يقول غانم أن هذه الاحتجاجات تساهم في "قلب معاناة
غزة إلى أداة مركزية لتغييرات كونية". ويلفت إلى أن دعوى جنوب إفريقيا ضد
إسرائيل في محكمة العدل الدولية تطور نوعي ضد إسرائيل. فهذه الدولة التي احتكرت
خطاب الضحية متهمة الآن في أعلى هيئة قضائية بالتهمة نفسها التي وجهت للنازية،
"إن إسرائيل في ورطة جدية لن تستطيع الإفلات منها بسهولة".