كتب

النكبة المتجددة.. جرائم إسرائيل في الضفة الغربية وتآكل الوجود الفلسطيني

إن العنف الذي تشنه إسرائيل ضد الفلسطينيين في كامل الأراضي الفلسطينية، وليس في غزة وحدها، بعد ٧ أكتوبر/تشرين الأول لم يحدث من فراغ، بل هو جزء من سياق عمليةٍ ممنهجة استمرت عقودًا..(معهد البحوث الاجتماعية)
وسط إعلان نتنياهو عن دوره الرسالي في إقامة إسرائيل الكبرى أو الكاملة، وما يحدث في غزة من إبادة جماعية وتطهير عرقي، تجري في القدس الشرقية والضفة الغربية عملية مماثلة، ولكن بصورة أقل حدة، ودون متابعة كالتي تحظى بها الأوضاع في غزة.

ولكي ندرك أن الموضوع جد لا هزل فيه، وأن النار مشتعلة تحت الرماد تنذر بنكبة جديدة أشد بكثير من نكبة 1948، وقد تطال أيضا فلسطيني الداخل المحتل منذ عام 1948، سنعرض في هذا المقال صورة موجزة للوضع في الضفة الغربية والقدس الشرقية والداخل المحتل عام 1948 لذلك من خلال المصادر التالية:

1 ـ تقرير منظمة بتسيلم الإسرائيلية، "إبادتنا"، يوليو تموز 2025.

2 ـ القارات الثلاث: معهد البحوث الاجتماعية، جرائم إسرائيل في الضفة الغربية.

3 ـ كيارا بولفيريني، خصخصة الأمن الإنساني في الأراضي المحتلة، معهد الاستخبارات والأمن، 30/8/2024.

4 ـ مركز أبحاث حقوق الإنسان، الكتابة على الجدار: إبادة جماعية تقترب من الضفة الغربية، 5/9/2024.

5 ـ تقرير المفوضية الأممية لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، الإبادة الجماعية محو استعماري، 1/10/2024.

إن العنف الذي تشنه إسرائيل ضد الفلسطينيين في كامل الأراضي الفلسطينية، وليس في غزة وحدها، بعد ٧ أكتوبر/تشرين الأول لم يحدث من فراغ، بل هو جزء من سياق عمليةٍ ممنهجة استمرت عقودًا من التوسع الإقليمي والتطهير العرقي بهدف تصفية الوجود الفلسطيني في فلسطين، مما ويُنذر بإلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بوجود الشعب الفلسطيني في فلسطين، وسيؤدي إلى وقوع فظائع جديدة من شأنها أن تُخلّف المزيد من الندوب في تاريخ البشرية، مما يستدعي تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في كامل الأرض الفلسطينية المحتلة.

إن العنف الذي تشنه إسرائيل ضد الفلسطينيين في كامل الأراضي الفلسطينية، وليس في غزة وحدها، بعد ٧ أكتوبر/تشرين الأول لم يحدث من فراغ، بل هو جزء من سياق عمليةٍ ممنهجة استمرت عقودًا من التوسع الإقليمي والتطهير العرقي بهدف تصفية الوجود الفلسطيني في فلسطين،
لذلك، نوجز في هذا المقال الوضع القانوني للضفة الغربية، ودور اتفاقية أوسلو في تدهور الأحوال هناك، وما هي الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، والتصنيف القانوني لهذه الجرائم، وما الواجب علينا وعلى العالم لمنع هذه الجرائم ومحاسبة إسرائيل عليها:

الوضع القانوني للضفة الغربية

الضفة الغربية، كالقدس الشرقية وغزة، هي أراض محتلة طبقا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة بما فيها قرار 181 عام 1947 الخاص بتقسم فلسطين. وفي هذا الإطار نقدم ما صدر عن منظمة العدل الدولية في 19 يوليو تموز 2024 من رأي استشاري حول الأراضي الفلسطينية المحتلة، بناءً على طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وقد انتهت المحكمة إلى أن:

1 ـ الوجود الاستعماري الإسرائيلي المطول في كامل الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 غير قانوني، وصُمم ليكون دائمًا.

2 ـ خلّف هذا الوجود غير القانوني آثارًا لا رجعة فيها على الأرض، وقوّض سلامة الشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة، ويسعى إلى اكتساب السيادة على أرض محتلة.

3 ـ يشكل الاحتلال عملاً عدوانيًا، ينبع جزئيًا من طبيعته الاستعمارية الاستيطانية. لذا، يجب إنهاؤه بسرعة، وتفكيك المستوطنات وإخلائها، وتقديم تعويضات كاملة للضحايا الفلسطينيين، والسماح بعودة النازحين منذ عام 1967.

4 ـ إن إعلان عدم مشروعية الاحتلال يُبطل ادعاءات الدفاع عن النفس المزعومة؛ وإن السبيل القانوني الوحيد المتاح لإسرائيل هو انسحابها غير المشروط من كامل تلك المنطقة.

أوسلو الثانية وتسهيل الاستيلاء على الضفة الغربية

كانت اتفاقية أوسلو الثانية، 28/9/1995، نكبة قانونية ودبلوماسية وسياسية على الشعب الفلسطيني، فظاهرها: العمل على إقامة دولة فلسطينية على 22% من مساحة فلسطين التاريخية؛ أما باطنها: فهي غطاء ذهبي لإسرائيل للمماطلة وإتاحة الفرصة لعمل مستمر لفرض الهيمنة الإسرائيلية والضم الكامل للأراضي الفلسطينية.

وقد قسمت الاتفاقية الضفة الغربية إلى المناطق التالية:

1 ـ المنطقة (أ): تخضع رسميًا لسيطرة مدنية وأمنية كاملة للسلطة الفلسطينية، وتُشكل 18% من مساحة الضفة، أو 3.96% من مساحة فلسطين التاريخية.

2 ـ  المنطقة (ب): تخضع لسيطرة مدنية فلسطينية من خلال السلطة الفلسطينية؛ لكنها واقعة فعليًا تحت سيطرة أمنية إسرائيلية، وتُشكل 22% من مساحة الضفة، أو 4.62% من مساحة فلسطين التاريخية.

3 ـ المنطقة ج: خاضعة بالكامل لسيطرة إسرائيل، وتشكل ٦٠٪ من مساحة الضفة، أو ١٣.٤٢٪ من مساحة فلسطين التاريخية.

إذن، وفق أوسلو الثانية، وبعد ضم إسرائيل القدس الشرقية للقدس الغربية واعتبارهما معا عاصمة أبدية لإسرائيل، وعزم إسرائيل على احتلال غزة، فإنها تسيطر فعليا على 97% مساحة فلسطين التاريخية. وعزلت الاتفاقية السكان الفلسطينيين في "جيتوهات" أو "كانتونات"، ومنحتهم سلطة إدارية محدودة.

لقد عانت الضفة لعقود من سوء الإدارة المزمن والفساد من قبل السلطة وأجهزة الأمن الفلسطينية، التي تتقاسم مسؤوليات أمنية مع إسرائيل، وتستجيب للجيش الإسرائيلي. وأصبحت هذه الشبكة المعقدة وكيلًا للتوسع الإسرائيلي، وحماية المستوطنات والبؤر الاستيطانية، وقمع الاحتجاجات الفلسطينية.

التحريض على الإبادة ونزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين

يُعدّ نزع الصفة الإنسانية والتحريض عنصرين أساسيين في توجه النظام نحو ارتكاب الإبادة الجماعية. وهما بمثابة أدوات رئيسية في العملية التي يُوضع من خلالها الضحايا خارج ما أسمته عالمة الاجتماع هيلين فين "عالم الالتزام" للجناة. وفي جميع حالات الإبادة الجماعية الحديثة المعروفة، استخدمت الأنظمة المُرتكبة لهذه الجريمة كلتا الآليتين بشكل منهجي لتوليد الدافع للعمل العنيف ولتزويده بمبررات أخلاقية واجتماعية وسياسية.

كانت اتفاقية أوسلو الثانية، 28/9/1995، نكبة قانونية ودبلوماسية وسياسية على الشعب الفلسطيني، فظاهرها: العمل على إقامة دولة فلسطينية على 22% من مساحة فلسطين التاريخية؛ أما باطنها: فهي غطاء ذهبي لإسرائيل للمماطلة وإتاحة الفرصة لعمل مستمر لفرض الهيمنة الإسرائيلية والضم الكامل للأراضي الفلسطينية.
نزع الصفة الإنسانية معناه: تجريد أفراد مجموعة الضحايا من صفاتهم الإنسانية، وعدم انطباق المعايير الأخلاقية عليهم، لأنهم حسب زعمهم فهم قد "جلبوا معاناتهم على أنفسهم". ويُمكّن هذا التصور المجتمع من ممارسة العنف ضدهم دون المساس بصورته الأخلاقية.

وكثيرًا ما يتزامن نزع الصفة الإنسانية مع التحريض، الذي يهدف إلى حشد الجمهور لارتكاب العنف ضد جماعة معينة، أو الموافقة عليه سلبًا. وغالبًا ما يُمارس التحريض من خلال نشر معلومات كاذبة، أو تحريف الحقائق، أو التلاعب بالمشاعر، مثل بث الخوف.

وفي القانون الدولي، يُشكل "التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية" جريمةً في حد ذاته بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية 1948. وهي جريمة ممنوعة أيضا في قانوني العقوبات والإبادة الجماعية الإسرائيليين. وبالرغم من ذلك، فقد استمرت عملية تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وخاصةً في قطاع غزة، وتصويرهم لعقود على أنهم "تهديد أمني". ولذلك، هناك فصل شبه كامل بين المجتمعات اليهودية والفلسطينية في جميع المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.

نية مبيتة للتهجير القسري والإبادة الجماعية

في عام ٢٠١٧، نشر سموتريتش، ما أسماه "الخطة الحاسمة"، والتي تقول بوجوب ضم الضفة الغربية رسميًا. ولمواجهة "التحدي الديموغرافي" المتمثل في وجود ثلاثة ملايين فلسطيني بالضفة، طرح سموتريش منحهم ثلاثة خيارات: الاستمرار في العيش تحت الحكم الإسرائيلي دون منحهم الجنسية مع تخليهم عن أي طموحات وطنية؛ أو الهجرة خارج الأراضي الفلسطينية؛ أو تصنيفهم كإرهابيين يحق للجيش الإسرائيلي قتلهم إذا اختاروا المقاومة. وعندما سُئل إذا كان هذا يشمل قتل العائلات والنساء والأطفال؟ أجاب: "الحرب هي الحرب"، أي أنه يُباح قتل المدنيين في الحرب.

وفي نوفمبر ٢٠٢٣، ادعى سموتريتش، حاكم الضفة والمدافع الشرس عن الاستعمار والطرد الجماعي، أن هناك "مليوني نازي" في الضفة الغربية، ووعد بتحويل مناطق هناك إلى "كومة من الأنقاض مثل غزة".

وهذه النية ليست لدى سموتريتش وحده، ففي ديسمبر/كانون الأول 2023، صرح وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، أنه "عندما يتضح ما فعله الجيش الإسرائيلي في غزة، فسيتم إسقاطه أيضًا على الضفة الغربية".

إن توسيع نطاق العمليات العسكرية الشاملة إلى الضفة الغربية يكشف بشكل أكبر عن هدف إبادة وتهجير الفلسطينيين بما يتجاوز حماس. وكما أعلن رئيس إسرائيل، إسحاق هرتسوغ، فإن إسرائيل تعمل على أساس أن "هناك أمة بأكملها مسؤولة". وهذا يعني أن جميع السكان تعتبرهم إسرائيل "غير أبرياء"، ويعني أيضا تبرير استهدافهم لهجمات عشوائية عُرفت تكتيكات الأرض المحروقة، التي نشرت الرعب بين المدنيين. وتساعد مزاعم "الدروع البشرية" في كل هجوم تقريبًا على إخفاء الاستهداف المنهجي للمدنيين، مما يؤدي بحكم الأمر الواقع إلى محو المدنيين الفلسطينيين تمامًا.

تشجيع الاستيطان وتسليح المستوطنين

في عام ٢٠٢٢، وبعد تشكيل حكومة نتنياهو، زاد بن غفير وزير الأمن القومي تراخيص الأسلحة للمستوطنين من ألفي رخصة شهريا إلى عشرة آلاف. وتغيرت شروط أهلية الحد الأدنى للسن من ٢٧ إلى ٢١ عامًا. ونتيجةً لذلك، أصبح عدد أكبر من المدنيين مؤهلين لامتلاك أسلحة خاصة، وارتفعت الطلبات أربعة أضعاف، من ثلاثة عشر ألف طلب سنويًا في المتوسط حتى عام ٢٠٢١ إلى أكثر من أثنين وأربعين ألفاً.

وعقب اندلاع حرب غزة، فتحت الحكومة أبواب ترخيص السلاح للمستوطنين على مصراعيها، بحجة الدفاع عن النفس. وشملت التسهيلات إجراء مقابلة هاتفية بدلاً من المقابلات الشخصية، ومنح تصريح شراء ١٠٠ رصاصة بدلاً من ٥٠ رصاصة، كما سُمح لمتطوعي الخدمة الوطنية بحمل تراخيص أسلحة نارية بعد تدريب ليوم واحد فقط. وفي ستة أشهر من أكتوبر ٢٠٢٣ إلى مارس ٢٠٢٤، حصل أكثر من مائة ألف مستوطن على تصريح لحمل السلاح. وفي كثير من الحالات، لم يستوف حاملو السلاح معايير الترخيص.

وأنشأ رؤساء المجالس الإقليمية في الضفة الغربية، بالاشتراك مع وزارة الدفاع ثمانمائة فرقة طوارئ مسلحة من المستوطنين وجنود الاحتياط. وقد زاد العنف المسلح الذي يمارسه المستوطنون بسبعة أضعاف. وبسبب الهيكل غير المحكم لهذه الفرق، والدوافع الأيديولوجية، فقدت القيادة المركزية سيطرتها عليها بشكل متزايد. وكان من الصعب تحديد الموقف الذي يُدعى فيه هؤلاء المستوطنون المسلحون للتدخل، واختيار الأفراد الذين يمكنهم المشاركة في العمليات، وتحديد الأسلحة التي يحملونها. ومن المرجح أن تُصبح فرق الطوارئ في الضفة الغربية ميليشيات يهودية إسرائيلية راسخة تتمتع بسلطة أكثر استقلالية عن القيادة المركزية.

هل سنري عصابات الهاجاناه وشتيرن جديدة بالضفة والقدس؟

للضفة الغربية ظروفها الفريدة والخطيرة. إذ يوجد بها حاليًا حوالي سبعمائة ألف مستوطن، عدد ليس بالقليل منهم مدججون بالسلاح ومتأصلون تمامًا في الجيش الإسرائيلي. لذا، لا يواجه الفلسطينيون في الضفة الغربية هجمات من قبل الجيش الإسرائيلي فحسب، بل يواجهون أيضًا اعتداءات من قبل ميليشيات المستوطنين المكونة من أفراد أكثر تطرفًا ويتصرفون بحرية عملياتية كاملة. وهذه الاستراتيجية استُخدمت النكبة الفلسطينية في عام 1948 وما قبله، عندما ارتكبت عصابات الهاجاناه وإيتسل وشتيرن مجازر بحق المدنيين الفلسطينيين مما أدى إلى تهجير سبعمائة وخمسين ألف فلسطيني.

خنق حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية

صُممت عمليات إسرائيل في الضفة الغربية لتحويل حياة الفلسطينيين إلى حياة لا تُطاق. وجعلت الضوابط والقيود المفروضة على الحركة أنه من المستحيل تقريبًا على الفلسطينيين تعليم شبابهم وتوظيف بالغيهم.

قبل أكتوبر/تشرين الأول 2023، أقامت إسرائيل 590 حاجزًا ونقطة تفتيش في الضفة الغربية، وارتفع هذا العدد إلى ما يقرب من 900 منذ ذلك الحين، مما أدى إلى توقف شبه كامل للأنشطة الإنسانية الأساسية. وأصبح من المستحيل على الفلسطينيين الوصول إلى آبار المياه والأراضي اللازمة للإنتاج الزراعي، وكذلك إلى مياه الشرب اللازمة لحياة كريمة. وقد أدى تجريم إسرائيل لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" إلى تعطيل عمليات المنظمة بشدة، مما منع اللاجئين الفلسطينيين من الحصول على خدمات التعليم والرعاية الصحية والتوظيف الأساسية.

التهجير والمصادرة

تمارس إسرائيل تطهيرًا عرقيًا في الضفة الغربية، مستخدمةً أساليب لطرد السكان من أراضيهم بوتيرة أسرع مثل: إطلاق النار، المذابح، وتدمير المنازل والمزارع. ومنذ بدء عملية الجدار الحديدي في يناير/كانون الثاني 2025، هجّر الجيش الإسرائيلي 8255 عائلة فلسطينية قسرًا من منازلها في مخيمات اللاجئين في جنين ونور شمس وطولكرم. هذه العائلات هي الأحفاد المباشرون للاجئين الفلسطينيين الذين طُهّروا عرقيًا من منازلهم خلال نكبة عام 1948، وحُرموا من حق العودة منذ ذلك الحين.

بالإضافة إلى مخيمات اللاجئين هذه، قامت قوات الاحتلال والمستوطنين المسلحين بطرد 28 تجمعًا فلسطينيًا من أراضيها بين يناير/كانون الثاني 2022 وسبتمبر/أيلول 2023. ودمرت أكثر من 3500 منشأة، بما في ذلك المنازل وحظائر الماشية وخزانات المياه في الضفة الغربية بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأبريل/نيسان 2025.

ويشن الجيش، على مدار العامين الماضيين، غاراتٍ دامية على مدن الضفة الغربية، مستخدمًا جرافاته وقنابله، مُدمرًا البنية التحتية المدنية الأساسية والمنازل دون أي ضرورة عسكرية. وتُركت أحياء بأكملها وكأنها ساحة حرب. وصعّد الجيش حصاره للتجمعات السكانية الفلسطينية. وبينما يتمتع المستوطنون الإسرائيليون في المنطقة نفسها بحرية حركة تامة؛ يُحاصر الفلسطينيون بمئات نقاط التفتيش وحظر التجوال. وتُعدّ هذه الحواجز من ضمن مجموعة من السياسات المباشرة وغير المباشرة التي تهدف إلى تهجير الفلسطينيين.

الموت والاعتقال والتعذيب

منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي ما يقرب من 900 فلسطيني في الضفة الغربية، بينهم 190 طفلاً على الأقل، وأصابت 8400 آخرين. ومن المرجح أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك لنقص المنظمات الإنسانية التي تُوثّق العنف الذي تمارسه إسرائيل هناك. ومنذ أواخر عام 2023، اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي 15000 فلسطيني، العديد منهم تحت بند "الاعتقال الإداري"، الذي لا يتطلب توجيه تهمة رسمية، ومن المرجح أن تكون هذه الأرقام أيضا أقل من الواقع بسبب القيود الصارمة المفروضة على التمثيل القانوني. ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، سُجّلت أكثر من 65 حالة موثقة لقتل فلسطينيين في السجون ومراكز الاحتجاز ومعسكرات الاعتقال الإسرائيلية. ويُعدّ العنف الجنسي أمرًا روتينيًا في هذه المعسكرات.

خطأ يجب ألا يقع فيه أحد

من الخطأ افتراض أن السياسات السابقة خاصة بنتنياهو وحكومته، وهو ما تُصوّره وسائل الإعلام والقادة الغربيون غالبًا. والصحيح، أن هذه السياسات من الأسس التي قام عليها المشروع الصهيوني منذ أكثر من قرن من الزمان. وقد بُنيت المستوطنات في الضفة الغربية في عهد الحكومات الصهيونية اليمينية واليسارية على حد سواء على مر العقود. وفي يوليو تموز 2024، أقرّ البرلمان الإسرائيلي رسميًا مشروع قانون يُعلن معارضته لإقامة دولة فلسطينية، بدعمٍ ليس فقط من الحكومة، بل أيضًا من المعارضة التي يرأسها بيني غانتس، رئيس الأركان السابق، والأوفر حظًا لخلافة نتنياهو في المستقبل، والذي يُعتبر معتدلًا.

يُعدّ نزع الصفة الإنسانية والتحريض عنصرين أساسيين في توجه النظام نحو ارتكاب الإبادة الجماعية. وهما بمثابة أدوات رئيسية في العملية التي يُوضع من خلالها الضحايا خارج ما أسمته عالمة الاجتماع هيلين فين "عالم الالتزام" للجناة. وفي جميع حالات الإبادة الجماعية الحديثة المعروفة، استخدمت الأنظمة المُرتكبة لهذه الجريمة كلتا الآليتين بشكل منهجي لتوليد الدافع للعمل العنيف ولتزويده بمبررات أخلاقية واجتماعية وسياسية.
ومن المهم أيضًا أن نتذكر أن حكومة حزب العمل، بقيادة الزعيم الصهيوني اليساري ديفيد بن غوريون، هي التي نفذت التطهير العرقي لنصف السكان الفلسطينيين خلال حرب عام 1948. لطالما كان إنشاء دولة ذات أغلبية سكانية يهودية جزءًا من الإجماع الصهيوني، وتحقيق هذا الهدف لا يتطلب فقط الطرد المستمر للفلسطينيين، بل أيضًا منع اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى وطنهم، وهو ما يُخالف القانون الدولي.

التوصيات

قالت بتسيلم في ختام تقريرها: "إن الإبادة الجماعية هي اعتداء على الإنسانية نفسها، وعلى الاعتقاد الأساسي بأن كل حياة ثمينة، وعلى المبدأ الأساسي القائل بأن لكل إنسان الحق في الحقوق الأساسية التي توفر الحماية من العنف التعسفي. ويُظهر التاريخ أن محاولة إبادة مجموعة من البشر جريمةٌ ذات عواقب كارثية، ويجب كل فرد واجب معارضتها والعمل على وقفها فورًا". 

وفي باب التوصيات، قالت ألبانيزي: "إن الإبادة الجماعية الحالية في فلسطين هي جزء من مشروعٍ استعماري استيطاني إقصائيّ، وهي وصمة عار على النظام الدولي والإنسانية، ويجب إنهاؤها والتحقيق فيها ومقاضاة مرتكبيها. وعلى جميع الدول التصرف بناءً على التزامها القانوني نظرًا للخطر الجسيم الواضح المتمثل في استمرار انتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية واتفاقيات جنيف، وعليها النظر في اتخاذ قرار عام عاجل بشأن الوسائل والأدوات المتاحة لكل دولة للتخفيف من هذا الخطر:

1 ـ استخدام الدول لنفوذها السياسي، بدءاً بفرض حظر كامل على الأسلحة وعقوبات، حتى توقف إسرائيل هجومها، وتقبل وقف إطلاق النار، وتنسحب بالكامل من الأرض الفلسطينية المحتلة.

2 ـ إعلان إسرائيل كدولة فصل عنصري ومنتهكة مستمرة للقانون الدولي، وإعادة تفعيل اللجنة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري لمعالجة الوضع في فلسطين بشكل شامل، وتحذير إسرائيل من احتمال تعليق عضويتها بموجب المادة 6 من ميثاق الأمم المتحدة.

3 ـ دعم نشر وجود دولي وقائي في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة.

4 ـ وضع إطار حماية للفلسطينيين النازحين خارج غزة، مع الحفاظ الكامل على حقهم في العودة.

5 ـ دعم إجراء تحقيقات مستقلة وشاملة في السلوك الإجرامي، والإبادة الجماعية والفصل العنصري، وتطبيق الولاية القضائية العالمية في المحاكم الوطنية.

6 ـ التحقيق مع، ومقاضاة الكيانات الاعتبارية والمواطنين المزدوجين، المتورطين في جرائم في الأرض الفلسطينية المحتلة، بمن فيهم الجنود والمرتزقة والمستوطنون.

7 ـ توفير التمويل والحماية الكاملين للأونروا، بما في ذلك الهجمات على مبانيها وموظفيها، وحملات التشهير، وضمان استمرارية ولايتها في جميع المجالات.

8 ـ قيام المقرر الخاص المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية على التحقيق في ارتكاب إسرائيل لجرائم الإبادة الجماعية والفصل العنصري.

9 ـ قيام لجنة تحقيق دولية مستقلة تكون معنية بالأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وداخل إسرائيل، للتحقيق في السياق الأوسع في أعمال الإبادة الجماعية، والنية الإقصائية والممارسات الإسرائيلية ضد جميع الفلسطينيين، بمن فيهم حاملو الجنسية الإسرائيلية واللاجئون، وأعمال الإبادة الجماعية الأخيرة.

الختام

هذه التقارير التي قدمنا موجزا لها في هذا المقال هي صيحات تحذير قوية لكل من يمتلك حساً وإدراكاً بخطورة الجريمة التي تحدث في فلسطين، والمخطط لها منذ عقود، جريمة تستدعي التحرك الجاد الفعال على كافة الأصعدة لمنعها وحماية حياة الفلسطينيين وبقائهم على أرضهم، فهم خط الدفاع الأول عن الأمة، الذي إن سقط سيصبح نتنياهو هو الآمر الناهي في الشرق الأوسط الكبير. فهل نثبت أننا أمة واحدة جديرة بأن تعيش حرة كريمة؟