كتب

من التأسيس إلى الالتباس.. أيُّ تاريخ لم يُكتب بعد عن الثورة التونسية؟

كتاب يذكّر بأن كتابة التاريخ ليست فعلًا محايدًا، بل مسؤولية سياسية وأخلاقية تجاه المستقبل، وأن الثورة ـ مهما تعثرت ـ تبقى مشروعًا قابلًا للتجدد..
الكتاب: الانتقال الديمقراطي في تونس (2011 ـ 2021).. مراجعات نقدية للمسار والأدوار
المؤلف: عزالدين عبد المولى
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ـ الإمارات العربية المتحدة، 2025
الصفحات: 226 صفحة


رغم مرور أكثر من عقد على الثورة التونسية، ما تزال الكتابات التوثيقية والنقدية حولها شحيحة بالمقارنة مع حجم التحولات التي أحدثتها، ليس فقط في تونس بل في كامل الجغرافيا العربية. فالمسار الذي انطلق سنة 2011 لم يكن حدثًا سياسيًا فحسب، بل كان لحظة تأسيسية نادرة في التاريخ العربي الحديث، لحظة أعادت تعريف مفهوم الدولة والحرية والشرعية، وفتحت الباب أمام موجة أسئلة جديدة حول السلطة والمجتمع والديمقراطية. ومع ذلك، فإنّ التدوين العلمي لهذا الحدث ظلّ محدودًا، وإنتاج سرديات نقدية متماسكة ما يزال أبعد من أن يواكب حجم التحولات أو عمقها.

هذه الندرة لا تعكس فقط نقصًا في الجهد البحثي والتوثيقي، بل تعبّر كذلك عن هشاشة العلاقة بين الفعل السياسي والكتابة التاريخية في المنطقة العربية؛ إذ غالبًا ما يتم تجاوز اللحظات الكبرى دون أرشفتها أو تحليل بنيتها وآلياتها الداخلية، بما يسمح لاحقًا بفهم أعمق لمسارات النهوض أو التراجع. فالتوثيق ليس رفاهًا معرفيًا، بل هو ضرورة سياسية لإنقاذ الثورة من التشويه أو الاختزال أو النسيان، وضرورة فكرية لفهم آليات التحول الاجتماعي والاقتصادي والسياسي التي رافقتها، وضرورة تاريخية لحفظ سردية الناس قبل أن تُختزل في روايات المنتصرين أو المهزومين.

وإذا كانت تونس قد نجحت في الحفاظ على حدّ أدنى من الاستمرارية المؤسسية بعد الثورة، فإنّ المسار نفسه كان مليئًا بالمنعطفات، ما يجعل الحاجة إلى تحليل نقدي عميق أكثر إلحاحًا. فالفهم الحقيقي لما آلت إليه الثورة لا يكتمل من دون جهد بحثي يوثّق الوقائع، ويحلّل خيارات الفاعلين، ويفكّك البنى الاجتماعية والسياسية التي شكّلت مجال الفعل. كما أنّ كتابة التاريخ القريب تقوم، في جانب مهم منها، على قراءة أسباب التعثر بقدر ما تقوم على استعادة لحظات النجاح.

وفي سياق محدودية الإنتاج البحثي حول المرحلة، برزت معضلة إضافية تتمثل في السردية غير المكتملة للإسلام السياسي حول ما جرى بعد الربيع العربي. فهذه التيارات التي كانت في قلب الفعل السياسي، سواء في تونس أو غيرها، لم تتمكن من إنتاج رواية فكرية مُحكمة حول تجربتها، لا من جهة التوثيق ولا من جهة المراجعة. الزمن السياسي كان سريعًا وضاغطًا، والحراك الداخلي داخل هذه التيارات كان مشتتًا، والانتقال من موقع المعارضة إلى موقع الحكم خلق انشغالًا يوميًا لم يترك لرموزها هامشًا كافيًا للكتابة التأملية أو النقدية. لذلك بقيت سرديتها حول المرحلة ناقصة، أقرب إلى ردّ الفعل منها إلى التأريخ العلمي أو التقييم الهادئ.

يمثّل كتاب الانتقال الديمقراطي في تونس (2011 ـ 2021) محاولة فكرية وسياسية لتفكيك عقدٍ كامل من التجربة التونسية، منذ لحظة سقوط نظام بن علي في يناير 2011 إلى التغيّرات الجذرية التي شهدتها البلاد بدءًا من يوليو 2021. اختيار العشرية كإطار زمني ليس مجرد تأريخ للأحداث، بل مسعى إلى فهم الشروط التي جعلت المسار الديمقراطي ممكنًا في بدايته، ثم هشًّا ومهدّدًا في نهاياته. لذلك يأتي الكتاب كمراجعة نقدية مكثّفة تحاول فهم بنية الفاعلين، آليات عمل المؤسسات، وطبيعة التفاعلات التي صنعت صعود الديمقراطية ثم تراجعها.
من هنا تتضاعف أهمية كتاب عزّالدين عبد المولى، "الانتقال الديمقراطي في تونس (2011 ـ 2021)"، فعبد المولى ينتمي فكريًا إلى العائلة الإسلامية الواسعة، وفي الوقت نفسه إلى المدرسة الأكاديمية العربية الحديثة التي أسهمت في صياغة الخطاب السياسي والفكري المعاصر بأبعاده المتعددة. هذا الموقع المزدوج يتيح له أن يكتب من داخل التجربة وخارجها في آنٍ واحد: من داخلها بصفته مطّلعًا على تحوّلات التيار الإسلامي، ومن خارجها بصفته أكاديميًا يشتغل بأدوات التحليل والتوثيق والتفكيك. وهذان البُعدان معًا يمنحان كتابه قيمة مضافة في مكتبة ما تزال تعاني من نقص كبير في التدوين العلمي للثورة التونسية وللمرحلة اللاحقة لها.

إنّ القراءة التي يقدمها عبد المولى ليست مجرد شهادات أو انطباعات، بل هي محاولة لربط اللحظة الثورية بسياقاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية، وتقديم سردية نقدية متوازنة تساعد على فهم لماذا تقدّم المسار في بعض المراحل، ولماذا تعثّر في مراحل أخرى. ولعلّ أهمية العمل تكمن أساسًا في أنّه لا يكتب من موقع التبرير ولا من موقع الإدانة، بل من موقع الحاجة إلى الفهم: فهم الثورة كحدث، والمنظومة كحقل، والفاعلين كعناصر في شبكة معقدة من المصالح والتصورات والرهانات.

وبهذا المعنى، يملأ الكتاب فجوة حقيقية في المكتبة العربية، سواء على مستوى التوثيق أو على مستوى التحليل الفكري والسياسي، ويقدّم نموذجًا لما ينبغي أن تكون عليه الكتابة العربية الجديدة حول الثورات والتغيّرات الكبرى: كتابة علمية، نقدية، مسؤولة، وواعية بأنّ التاريخ لا يكتبه إلا من يملك الشجاعة على النظر في مرايا الأمل والانكسار معًا.

محاولة فكرية وسياسية للتفكيك

يمثّل كتاب الانتقال الديمقراطي في تونس (2011 ـ 2021) محاولة فكرية وسياسية لتفكيك عقدٍ كامل من التجربة التونسية، منذ لحظة سقوط نظام بن علي في يناير 2011 إلى التغيّرات الجذرية التي شهدتها البلاد بدءًا من يوليو 2021. اختيار العشرية كإطار زمني ليس مجرد تأريخ للأحداث، بل مسعى إلى فهم الشروط التي جعلت المسار الديمقراطي ممكنًا في بدايته، ثم هشًّا ومهدّدًا في نهاياته. لذلك يأتي الكتاب كمراجعة نقدية مكثّفة تحاول فهم بنية الفاعلين، آليات عمل المؤسسات، وطبيعة التفاعلات التي صنعت صعود الديمقراطية ثم تراجعها.

يبدأ الكاتب باستعادة اللحظة التأسيسية الأولى التي أعقبت الثورة، حيث امتزج الأمل العارم بتوقعات كبرى حول التأسيس لنظام سياسي جديد. ومع أنّ البلاد نجحت في إجراء انتخابات حرّة واختيار مجلس تأسيسي وكتابة دستور جديد، فإنّ المؤلف يلفت إلى أنّ البنية العميقة للدولة لم تتغيّر بالسرعة المطلوبة، وأنّ هذا الخلل البنيوي عاد لاحقًا ليؤثّر على كل مراحل الانتقال. ففي حين احتلّت الأحزاب، وعلى رأسها حركة النهضة والقوى العلمانية الصاعدة، واجهة المشهد، ظلّت أجهزة الدولة والإدارة والقضاء تتحرك ببطء أو تُدار بعقلية ما قبل الثورة، ما خلق فجوة بين طموحات المجتمع وحدود الفعل السياسي.

ويُبرز الكتاب بصورة واضحة أنّ التجربة التونسية لم تتعثّر بسبب صراع إسلامي ـ علماني فقط، بل لأن المشهد الحزبي نفسه كان هشًّا ومفتّتًا، غير قادر على إنتاج تحالفات حكومية مستقرة. هذا التشظّي، الذي بلغ ذروته بعد انتخابات 2014، جعل الحكومات المتعاقبة أسيرة التوازنات أكثر من كونها فاعلة في حلّ الأزمات. ويؤكد الكاتب أنّ منطق "التوافق" الذي قُدّم للعالم كنموذج تونسي ناجح، كان في الحقيقة حلاً مؤقتًا لإدارة الصراع وليس هندسةً واضحة للديمقراطية. ومع مرور الوقت، تحوّل التوافق إلى آلية تُعطّل قدرة النظام السياسي على اتخاذ قرارات جريئة، خصوصاً في الملفات الاقتصادية والاجتماعية.

من ناحية أخرى، يحلل الكتاب بعمق أداء الفاعلين الإسلاميين ممثلين أساسًا في حركة النهضة، ويرى أنّ قوتهم التنظيمية جعلتهم لاعبًا محوريًا في السنوات الأولى، لكن اختياراتهم البراغماتية لاحقًا أضعفتهم لدى جزء من قواعدهم، وكذلك لدى خصومهم. فقد وجدت النهضة نفسها بين ضغط الهوية السياسية ومتطلبات الحكم، ما جعل خطابها يتبدّل أكثر من مرة، وأدخلها في سلسلة من التنازلات التي لم تؤدِّ إلى إدماجها الكامل في المنظومة ولا إلى الحفاظ على مشروعها الأصلي.

القوى العلمانية والمجتمع المدني

كما يتناول الكاتب دور القوى العلمانية، وخاصة نداء تونس الذي مثّل رهانًا كبيرًا لاستعادة التوازن السياسي بعد 2014، لكنه سرعان ما انهار بسبب الانقسامات الداخلية. هذا الانهيار سمح بتوسّع رقعة الفوضى الحزبية، وأدخل البلاد في سلسلة من الحكومات غير المستقرة. ويقدّم الكتاب هنا قراءة نقدية لمقاربات هذه النخب، التي رأت في الصراع مع النهضة هدفًا استراتيجيًا بدل أن تجعله جزءًا من مشروع بناء الدولة.

وفي تحليل أعمق للفاعلين غير الحزبيين، يمنح الكتاب مساحة خاصة لدور المجتمع المدني واتحاد الشغل. فالاتحاد لعب دورًا محوريًا في الوساطة خلال أزمات 2013، وأثبت أنّ الانتقال الديمقراطي لا يمكن أن ينجح دون فاعلين اجتماعيين مستقلين قادرين على فرض خطوط حمراء. مع ذلك، يشير الكاتب إلى أنّ تدخل الاتحاد والنقابات، رغم ضرورته، ساهم في إعاقة الإصلاح الاقتصادي بسبب تضارب المصالح بين المطالب الاجتماعية وضرورات التوازن المالي.

ومع التقدّم نحو نهاية العشرية، يربط الكتاب بين التدهور الاجتماعي ـ الاقتصادي وبين التراجع السياسي. البطالة، تآكل القدرة الشرائية، العجز المالي، الفساد، وتضارب المصالح كلها عناصر غذّت شعورًا عامًا بأن المسار الديمقراطي لم يُنتج تحسّنًا ملموسًا في حياة الناس. هذا الإحباط الشعبي شكّل الأرضية التي صعد عليها قيس سعيّد بانتخابات 2019، مستفيدًا من نفور المواطن من الطبقة السياسية بأكملها، ومن رغبة عميقة في "سلطة قوية" قادرة على الحسم.

الكتاب ليس سردًا تاريخيًا فقط، بل دعوة لإعادة التفكير في شروط الديمقراطية نفسها: كيف يمكن لنظام سياسي أن ينجح إذا كانت مؤسساته ضعيفة؟ كيف يمكن لحياة حزبية مفككة أن تنتج حكومات مستقرة؟ وكيف يمكن لمجتمع يعاني من فجوات اجتماعية واقتصادية أن يحتضن انتقالًا ديمقراطيًا طويل المدى؟
ويصل السرد في الكتاب إلى محطة 25 يوليو 2021، التي يصفها باعتبارها لحظة مفصلية أنهت مرحلة وفتحت أخرى. لا يقدّم المؤلف أحكامًا جاهزة، بل يضع الحدث في سياقه التاريخي: عجز حكومات متعاقبة، برلمان بلا فعالية، صراعات حادّة، وتآكل الشرعية. يرى الكاتب أنّ ما حدث كان نتيجة تراكمات بنيوية، لكنه يحذّر من أنّ "الحلول الاستثنائية" وحدها لا تنتج ديمقراطية بل قد تؤسس لمسار جديد غامض المعالم إذا لم تُبنَ على قواعد دستورية واضحة.

الكتاب ليس سردًا تاريخيًا فقط، بل دعوة لإعادة التفكير في شروط الديمقراطية نفسها: كيف يمكن لنظام سياسي أن ينجح إذا كانت مؤسساته ضعيفة؟ كيف يمكن لحياة حزبية مفككة أن تنتج حكومات مستقرة؟ وكيف يمكن لمجتمع يعاني من فجوات اجتماعية واقتصادية أن يحتضن انتقالًا ديمقراطيًا طويل المدى؟ هذه الأسئلة يطرحها الكاتب دون تجميل، ويقترح في ختام عمله مجموعة من الدروس العملية، أهمها ضرورة إصلاح النظام الانتخابي، تقوية الثقافة السياسية، إعادة بناء الدولة الاجتماعية، وإعادة ضبط العلاقة بين السلطات على أساس توازني واضح.

في النهاية، يقدّم عزّالدين عبد المولَى عملاً يعيد وضع التجربة التونسية في سياقها الواقعي بعيدًا عن الأساطير، فيُبرز مكاسبها دون مبالغة، ويكشف عللها دون تهويل. هذا العرض الممتد يجعله كتابًا مرجعيًا لكل من يريد فهم كيف صعد حلم الديمقراطية التونسية، وكيف تعثر، وكيف يمكن له أن يُجدَّد إن وُجدت الإرادة السياسية والشروط المؤسسية لذلك.

في ختام هذه القراءة، يبدو واضحًا أن مقاربة مرحلة الانتقال الديمقراطي في تونس من داخلها فقط ـ أي عبر تحليل موازنات الفاعلين السياسيين، وأداء المؤسسات، وتقلبات المشهد الحزبي ـ لا تكفي وحدها لاستيعاب تعقيدات التجربة. فقراءة التجربة بمعزل عن إطارها الإقليمي والدولي، وعن موجات التحول التي ضربت المنطقة بعد 2011، قد تؤدي إلى استنتاجات غير دقيقة؛ إذ لا يمكن فصل ديناميات الداخل عن تأثيرات الخارج، ولا يمكن فهم صعود الفاعلين أو تراجعهم دون إدراك شبكة العلاقات العابرة للحدود التي شكّلت ضغطًا مستمرًا على المسار التونسي في الاقتصاد والسياسة والأمن.

كما أن غياب ضبط المفاهيم بدقة ـ سواء تعلق الأمر بمعنى "الثورة" نفسها، أو بحدود وآليات "الانتقال الديمقراطي"، أو بالعوامل الاقتصادية التي قيدت قدرة الحكومات المتعاقبة على الاستجابة للمطالب الشعبية ـ يجعل كثيرًا من القراءات عرضةً للانزلاق نحو التعميم أو الحكم الأخلاقي بدل التحليل الموضوعي. فالنقاش حول الثورة لا يزال مفتوحًا: هل كانت قطيعة مع النظام السابق أم استمرارًا له بأدوات جديدة؟ وهل كان الانتقال مسارًا تراكميًا أم سلسلة من التسويات الهشة؟ ومن دون تحديد واضح لهذه المفاهيم، يصبح من الصعب تقييم النجاح أو الفشل، أو حتى فهم ما إذا كنا نتحدّث عن الانتقال نفسه أم عن صورته المتخيّلة.

ولعلّ ما يضفي على هذه القراءة بُعدًا شخصيًا لا يمكن إنكاره هو أنني تسلمت نسخة الكتاب من المؤلف نفسه، مرفقةً بإهداء يليق بصاحبه وبالحلم الديمقراطي الذي ما زال يسكن وجدان التونسيين والعرب جميعًا. غير أن هذا القرب من صاحب العمل لا يجعل من قراءتي خاضعة للمجاملة بقدر ما يجعلها محكومة بوجع أكبر: وجع الإدراك بأن الثورة التونسية ـ بطموحاتها وعثراتها ـ لا تزال مشروعًا مفتوحًا، مسارًا لم يكتمل بعد، إن لم نقل إنه ما زال في بداياته الأولى. فالثورة لا تُقاس بزمن السنوات، بل بقدرتها على إعادة تأسيس علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، وهو تحدٍّ ما يزال قائمًا، بل ربما صار أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

من هنا تأتي أهمية كتاب عزّالدين عبد المولى: لا بوصفه نهاية للتأمل في المرحلة، بل بوصفه خطوة أخرى في مسار طويل من القراءة والمراجعة والتفكير، خطوة تعيد فتح النقاش حول ما جرى، وما لم يجرِ بعد، وما يجب أن يجري كي لا يتحول الحلم الديمقراطي إلى مجرد ذكرى جميلة أو ندمٍ جماعي. إنه كتاب يذكّر بأن كتابة التاريخ ليست فعلًا محايدًا، بل مسؤولية سياسية وأخلاقية تجاه المستقبل، وأن الثورة ـ مهما تعثرت ـ تبقى مشروعًا قابلًا للتجدد ما دام هناك من يكتب عنها، ويحللها، ويسعى إلى إنقاذها من النسيان ومن التبسيط معًا.