الكتاب: الثقل النوعي للحركة الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة (الدَّورُ الوَطَنِي والفِعْلُ المُقاوم وآفاقُ الْمُسْتَقْبَل)
الكُتّاب: رائد محمد نجم وهاني رمضان طالب وأماني سامي الفليت
الناشر: مركز فينيق للبحوث والدراسات الحقلية، الطبعة الأولى غزة - فلسطين، 2025
عدد الصفحات: 330 صفحة
ليس قطاع غزة مجرّد بقعة جغرافية على هامش
الخريطة الفلسطينية، بل هو بؤرة مشتعلة للصراع، ومختبر حيّ لمعادلات المقاومة
والانتماء، ومحكّ تُختبر فيه إرادة الشعوب أمام سياسات الإبادة والتفريغ القسري.
في هذا المؤلَّف الجماعي، يعيدنا الباحثون إلى الجذور الأولى لخصوصية هذا القطاع
الصغير حجماً، الكبير دلالة وتأثيراً، متتبعين تطوّر حركته الوطنية، وتحولاته
الديمغرافية والسياسية، مرورا بأدواره الريادية في المقاومة، وانتهاءً بتشظياته
الداخلية وتعقيدات مستقبله السياسي. ومن خلال قراءة مركّبة للوقائع والأحداث،
يتجلّى أن ما يجعل غزة "أيقونة الصمود" ليس فقط الفقر أو الحصار، بل هذا
الوعي الجمعي العميق، المتوارث جيلاً بعد جيل، بأن البقاء مقاومة، وأن الحياة ـ تحت الاحتلال ـ لا تستحق أن تُعاش إلا بشروط الحرية.
ـ 1 ـ
يُطرح اليوم سؤال بشدة: ما السرّ الذي بجعل
غزة تصمد وتظل تقارع حملة الإبادة الإسرائيلية وحدها. فتنوب عن الأمة بأسرها في
التصدي لما يحاك ضدها من المؤامرات، فيما يتراخى الجميع، ويتركها تواجه قدرها؟
لعلّ شيئا من الإجابة يكمن في تاريخ هذا
القطاع وفي ما تراكم من الوقائع والتجارب. وهذا ما يقدره المؤلف الجماعي
"الثقل النوعي للحركة الوطنية الفلسطينية في قطاع " الذي أنجزته مجموعة
من الباحثين الفلسطينيين في الشأن السياسي. فيعرض الوقائع التي جدّت في القطاع،
ليس للتأريخ ولتدوين أحداث الماضي وإنما لقراءة للمشهد الماثل أمامنا اليوم
القراءة السليمة، ولفهم يجعل إسرائيل تعمل على إبادة أكثر ما يمكن من الغزيين
وتهجير ما بقي منهم حيا قسريا، علما أنّ فكرة توطين الغزيين خارج القطاع، التي
يطرحها ترامب اليوم، ليست جديدة تماما.
بعد حرب يونيو 1967 واحتلال إسرائيل للقطاع الذي كان تحت إشراف مصري ظهرت حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة وانتزعت الاعتراف العربي والدولي. فانضمت منظمات يسارية وقومية عديدة إلى حركة "فتح" وأصبحت مخيماته مركزا للعمل الفدائي المسلح. ونشأ في أحيائه الفقيرة معظم القادة المؤسسين لحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ثم مثّلت لاحقا معقل المقاومة الإسلامية بداية من الثمانينات، خاصّة الجهاد الإسلامي وحماس.
ففي أوائل الخمسينيات طُرح المشروع دوليا.
وكان من بين المدافعين عنه وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين[
الأونروا] نفسها. ومن بين هذه المخططات الأخرى يمكننا أن نذكر مشروعا لتوطين 2500
لاجئ في ليبيا، وثانيا لتوطين 12,000 أسرة فلسطينية في شمال غرب سيناء. وكان يقتضي
استصلاح أراضيها بتوفير مياه النيل؛ لكن المخطّط أُسقط بعد غارة إسرائيلية على
القطاع في العام 1955 لما انطلقت "هبة" "آذار" الرافضة
للمشروع. وهذا ما دفع الرئيس الرّاحل جمال عبد الناصر إلى إلغائه، وتبني قضيتهم
بما هي قضية سياسية ونضالية.
ـ 2 ـ
يصادر كل من رائد محمد نجم وهاني رمضان طالب
وأماني سامي الفليت على أنّ إسهام قطاع غزة في الحركة الوطنية الفلسطينية كان
نوعيا. فبواكير مواجهة الكيان الصهيوني انطلقت منه بعد أشهر قليلة من النكبة ثم
تحولت إلى عمليات مقاومة منظمة في الخمسينيات بعض ظهور كيانات سياسية أخذت على
عاتقها تحقيق التطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني للحرية ولبناء دولته المستقلة.
وكان لتغير تركيبته الديمغرافية دور في ذلك. فقد لجأ إليه نحو 200 ألف فلسطيني،
وبنيت فيه ثمانية مخيمات.
وبعد حرب يونيو 1967 واحتلال إسرائيل للقطاع
الذي كان تحت إشراف مصري ظهرت حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة وانتزعت الاعتراف
العربي والدولي. فانضمت منظمات يسارية وقومية عديدة إلى حركة "فتح"
وأصبحت مخيماته مركزا للعمل الفدائي المسلح. ونشأ في أحيائه الفقيرة معظم القادة
المؤسسين لحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ثم
مثّلت لاحقا معقل المقاومة الإسلامية بداية من الثمانينات، خاصّة الجهاد الإسلامي
وحماس.
ـ 3 ـ
تجسدت أهمية قطاع غزة الإستراتيجية
والاجتماعية منذ عصور ما قبل النكبة وحتى الحقبة الحديثة (وهي التسمية التي ستطلق
على المنطقة الجنوبية من السهل الساحلي الفلسطيني منذ 1949). فمع انتهاء الانتداب
البريطاني، وأثر العمليات الحربية سيطرت دولة إسرائيل على قضاء بئر السبع بكامله،
وعلى الجزء الأكبر من قضاء غزة. ووفقا لقرار اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية
1 نيسان/ إبريل 1948 أُلحق ما تبقى خارج الاحتلال للإدارة المصرية العسكرية. وتدفق
إلى هذه المساحة الضيقة التي تبدأ من رفح جنوبا إلى بيت حانون شمالا بمسافة تتراوح
من 40 إلى 45 كيلومترا، ويتراوح عرضها بين 5 إلى 7 كيلومترات، عدد كبير من
المهجرين.
وحتى يوضع العالم أمام أمر واقع يتماشى مع قرار الجامعة العربية بعدم الاعتراف
بالدولة اليهودية أنشئت "حكومة عُمُوم فلسطين" برئاسة أحمد حلمي عبد
الباقي بدعم مصري، واعتراف عربي واسع. وعقد برلمانها، تحت تسمية المجلس الوطني،
أول اجتماعاته في غزة في الأول من أكتوبر 1948، وأعلن استقلال فلسطين بحدودها
الدولية لتكون دولة ديمقراطية ذات سيادة. ثم نصّت اتفاقية الهدنة المصرية
الإسرائيلية - الموقعة في 24 فبراير 1949 - على أن "يحتفظ المصريون بالسيطرة على الممر
الساحلي الممتد من قرية رفح على الحدود المصرية الفلسطينية، على نقطة تبعد ثمانية
أميال إلى الشمال من غزة". وفقا للمؤلفين، لم يكن هذا الإشراف المصري. فخلافا
لإسرائيل التي منحت لفلسطينيي 1948 هويتها أو المملكة الأردنية التي ضمّت الضفة
الغربية وسعت إلى تمثيل الفلسطينيين، حافظت مصر على الهوية الفلسطينية. فلم تمنحهم
الجنسية المصرية ولم تسمح لهم بالهجرة إليها حتى لا يقع تفريغ القطاع من سكانه
فأصدرت لهم وثائق سفر خاصّة بهم.
ـ 4 ـ
وممّا أسهم في تشكيل هذا الوعي الوطني
الحادّ ما عاشه القطاع من أوضاع اقتصادية متردّية. فخلال الفترة من 1948 إلى 1967
ارتفعت معدلات بطالة وأصبح حوالي 70% من السكان بلا مصدر دخل، وتدنت الأجور، وعاش
معظم السكان تحت مستوى خط الفقر. ويردّ الباحثون ذلك إلى عدم تناسب القوى البشرية
مع الموارد المحدودة. فقد استولى الاحتلال الإسرائيلي على مساحات واسعة من أراضي
القطاع وفصل عن أراضيه الزراعية الخصبة. تردّت الصناعة بسبب نقص المواد الخام
والطاقة. وكان القطاع، قبل النكبة يُعرَف بصناعات البسط والسجاد والصباغة،
والتطريز والملابس، والحلويات، والصَّابون، وغيرها. ونتيجة للنكبة ولتبعاتها كتردي
العلاقات بين القطاع والمناطق الأخرى من فلسطين انهارت الحركة التجارية. فكانت
الأسر تعول في معاشها على حصص من الدقيق والأرز والزيت من مراكز توزيع الأونروا.
نتيجة لهذه الظروف كان نحو 200,000 فلسطيني يحتشدون في ساحات خاصة ويتصيّد
فرصة للعمل عند الإسرائيليين ولو ليوم واحد ضمن ما سمي بـ"ـسوق العبيد"
مما خوّل لهم استغلالهم وخوّل للحكومات الإسرائيلية أن تبتزّهم وأن تضغط عليهم عبر
أنظمة التصاريح. ولكن الأوضاع شهدت
الزراعة في غزة تحسنا ملحوظا نتيجة تدفق العملة الصعبة وتدفق التحويلات المالية من
أبناء القطاع في المهجر لأهاليهم بعد عام 1956.
ـ 5 ـ
من نتائج هزيمة 1967 أن تحررت الحركة
الفلسطينية من الوصاية العربية التي كانت تتحفظ على الأعمال الفدائية بحجة أنّ
التوقيت غير ملائم وأن التصعيد المبكر مضرّ باستعدادات المواجهة العربية. فتنامى
دور حركة "فتح". وتطورت منظمة التحرير الفلسطينية إلى جبهة موحدة بعد
استقالة قيادتها القديمة في ديسمبر 1967، وتسلم قيادة جديدة تبنت أسلوب الكفاح
المسلح لجذب الاهتمام الدولي.
وبعد معركة الكرامة 1968 التي قادها ياسر
عرفات في أغوار الأردن انضم آلاف المتطوعين من فلسطينيين وعرب إلى المقاومة. فتم
تأسيس "قوات التحرير الشعبية" من جيش التحرير الفلسطيني وطلائع المقاومة
الشعبية الجناح العسكري لحركة القوميين العرب في غزة وتم توحيد العمل الفدائي.
فاستهدفت دوريات الاحتلال ودباباته وامتد العمل المقاوم ليشمل جميع مناطق القطاع،
وكان للحاضنة الاجتماعية التي قدمت الدعم اللوجستي والمادي للمقاومين دور حاسم.
ومن هنا جاءت مقولة وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان: "إنَّنا نسيطر على قطاع
غزة نهارًا، بينما يسيطر عليه الفدائيون ليلا". وبرزت في القطاع شخصيات
قيادية يذكر الباحثون منها زياد الحسيني
على سبيل المثال. فمن بين العمليات البارزة التي قادها عملية "مدرسة حي
الزيتون"، التي قُتل فيها 15 جنديًا إسرائيليًا، ودمرت سياراتهم، وقُتل مسؤول
الاستخبارات الإسرائيلية في القطاع.
ـ 6 ـ
وستزداد أهمية القطاع بداية من الفترة من
عام 1987 حتى عام 1993 فيشهد تحوّلا جوهريا في أسلوب المقاومة. فبعد طرد منظمة
التحرير من لبنان وانتقالها إلى تونس، فرضت المقاومة الإسلامية في غزة نفسها بديلا
ميدانيا. واتخذت شكلا جديدا مبتكرا. فظهر ما سمي حينها بـ"ـحرب
السكاكين" 1983 - 1985 التي قادها
تنظيم الجهاد الإسلامي الوليد حديثا. وكانت تستهدف تقويض خطة "الحدود
المفتوحة" بين قطاع غزة وإسرائيل، عبر مهاجمة التجار الإسرائيليين في
"سوق السبت" و"سوق فراس.
من نتائج هزيمة 1967 أن تحررت الحركة الفلسطينية من الوصاية العربية التي كانت تتحفظ على الأعمال الفدائية بحجة أنّ التوقيت غير ملائم وأن التصعيد المبكر مضرّ باستعدادات المواجهة العربية. فتنامى دور حركة "فتح". وتطورت منظمة التحرير الفلسطينية إلى جبهة موحدة بعد استقالة قيادتها القديمة في ديسمبر 1967، وتسلم قيادة جديدة تبنت أسلوب الكفاح المسلح لجذب الاهتمام الدولي.
وإثرها ظهرت الانتفاضة الفلسطينية الأولى من
مخيم جباليا. فقد اندلعت في 8 ديسمبر 1987 بشكل عفوي ثم انتشرت في كافة أرجاء
الأراضي المحتلة بعد صدم مركبة عسكرية إسرائيلية لحافلة كانت تقل عمالا في شمال
قطاع غزة، أفضى إلى مقتل أربعة منهم. ثم تصاعدت وتيرة العمل الفدائي من الاحتجاج
الشعبي إلى العمل المسلح من جديد، فشاركت بعض النساء في التدريبات العسكرية وواجهن
السجن. ولكن لمّا تأسست السلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو وانسحاب الجيش
الإسرائيلي من معظم قطاع غزة وأريحا، تحولت منظمة التحرير، وحركة فتح خاصّة، من
قيادة الثورة إلى ممارسة السلطة بما تقتضي من الالتزامات والإكراهات. ولبس أفرادها
بدلة الحاكم بدل زي الثائر واعتقلوا المناضلين ونسّقوا مع إسرائيل لحفظ أمنها،
وهذا ما كرس سيطرة الاحتلال وتوسّع الاستيطان واختزل دور السلطة في دور الشرطي
الذي يقوم يتخابر ضد المقاومين ويعتقلهم تعسفيا.
مثّل اتفاق أوسلو بداية التحول في العلاقة
بين مختلف الفصائل من التعاون ووحدة الهدف إلى الصراع. وكانت حماس على رأسهم
رافضيه. فقد اعتبرته "اتفاقًا باطلاً ومشؤومًا ، كونه أعطى إسرائيل الحق في
السيطرة على 78 في المائة من أرض فلسطين التاريخية"، وتعهدت بعدم الالتزام
به. وأعلنت استمرار عملياتها ضد القوات الإسرائيلية.
ـ 7 ـ
يميّز الأثر بين مرحلتين خاصة وسمتا الدور
الوطني الذي لعبه القطاع. تتمثل المرحلة الأولى في الفترة الفاصلة بين إنشائه
وتوقيع اتفاق أوسلو. واتسمت بالتعاون وتنسيق العمل المقاوم. وتمتدّ المرحلة
الثانية من توقيع هذا الاتفاق وتركيز السلطة الفلسطينية حتى اليوم. ويمكن اعتبارها
مرحلة الفرقة والانقسام الاشتباكات المسلحة ، خاصّة بعد تنظيم الانتخابات
التشريعية الفلسطينية، في مطلع2006 لمّا تحصلت حماس على أغلبية المقاعد في المجلس التشريعي. وفي الحالين يعتبر أنّ
من أهم الأسباب التي تجعل القطاع أكثر تمردا استقطابه لضحايا التهجير القسري بعد
النكبة. فقد أنشئت على أرضه 8 مخيمات تقع على مساحة تقل عن 6.5 كيلومتر مربع من
إجمالي مساحة قطاع غزة البالغة 362 كيلومتر مربع، باتت لاحقا رمزا للمعاناة
الفلسطينية. ولكن رغم أهمية العوامل الاقتصادية يبقى تفسير صمود القطاع أعقد
بكثير. فلا يمكن بحال قصر التمسك بالعمل المقاوم ورفض الاحتلال عليه. ففي ذلك
تسطيح لفكرة الهوية والانتماء وإقصاء للفكريّ والسياسي والديني والأنثروبولوجي..
ـ 8 ـ
يدرس الشطر الثاني من هذا المؤلف
"سيناريوهات الدور المستقبلي لقطاع غزة في النظام السياسي الفلسطيني".
فيستعرض فرضيات كثيرة منها توحيد النظام السياسي الفلسطيني أو حكم السلطة الفلسطينية لقطاع غزة تشكيلها لحكومة
تكنوقراط. ويخوض بالمقابل في سيناريوهات انفصال غزة عن الضفة نهائيا. وهذا ما جعل المبحث أقرب إلى
التكهنات منه إلى استشراف المستقبل المبني على أسس دقيقة، خاصّة أن مثل هذا العمل
العلمي على قدر من التعقيد لكثرة العوامل
المؤثرة فيه. ففضلا عن الموقف الفلسطيني المنقسم لا بدّ أن نأخذ بعين الاعتبار
مواقف كل من المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية وتأثير الداخل الإسرائيلي
وجميع هذه العناصر متحركة لا تستقر على حال.