كتب

التغلب على الصهيونية.. نحو دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين.. قراءة في كتاب

إنَّ اليهودية الكلاسيكية تولي أهمية فائقة لإنقاذ الحياة البشرية. وقد بات ذلك يعتبر أمراً محورياً في التفوق الأخلاقي للشعب اليهودي. ولكن هنالك شرطاً في هذا الجانب، هو أن اليهود فقط هم الذين يُعتَبَرون بشراً.
الكتاب: التغلب على الصهيونية إقامة دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين – "إسرائيل"
الكاتب: جويل كوفيل -ترجمة: عمر عدس
الناشر: دار بلوتو برس في لندن-أبريل 2007.


"إسرائيل" واقع استعماري. وقد أجمع المثقفون العرب من اليمين واليسار أنَّ "إسرائيل" هي جزء من "الظاهرة الاستعمارية "الأوروبية. وقد تبنى هذا الموقف العالم الثالث على أوسع نطاق. ويحار المرء في الانتقاء من بين التأكيدات العربية. فها هو عبد الناصرفي كتابه "فلسفة الثورة" يحكي أفكاره كضابط في الثلاثين من العمرعند عودته من حرب فلسطين عام 1948: "لقد كان ذلك كله على توافق طبيعي مع الرؤيا التي رسمتها في ذهني التجربة. (فالمشرق العربي) يشكل منطقة واحدة تعمل فيها الظروف نفسها والعوامل نفسها وحتى القوى نفسها المتألبة عليها جميعا. ومن البديهي أن تكون الإمبريالية أبرزهذه القوى. ولم تكن "إسرائيل" ذاتها سوى نتيجة من نتائج الإمبريالية".

"إسرائيل" في نظر العرب قاعدة امبريالية أقامتها في الشرق الأوسط الإمبريالية البريطانية بالاتفاق مع الإمبرياليات الأخرى. وهي جزء من النظام الإمبريالي العالمي. ونشاطها في العالم هو منذ وجودها مرتبط بالنشاط الإمبريالي سواء أكان لمصلحتها الخاصة أو لحساب الإمبرياليات الأوروبية والأمريكية. هذا هو على الأقل التصورالأكثر شيوعاً في العالم العربي. ويشعر العرب من محيطهم إلى خليجهم بالمهانة من جراء فرض عنصرغريب في قلب أمتهم  تسانده قوى العالم الأوروبي ـ الأمريكي.

إنَّ مأساة الشعب الفلسطيني كانت نتيجة لمعطيات وأهداف الاستعمارالأوروبي الذي خطط وباشر في تنفيذ خططه في الاستيلاء على المنطقة العربية، وفي إقامة دولة "إسرائيل"، على أرض فلسطين. ومن هنا، فإن أوروبا لا تفهم قضية شعب فلسطين أكثرمن غيرها فحسب، بل لا بد وأن تستشعر بما مارسته من أعماق المأساة للشعب الفلسطيني.

"إسرائيل" في نظر العرب قاعدة امبريالية أقامتها في الشرق الأوسط الإمبريالية البريطانية بالاتفاق مع الإمبرياليات الأخرى. وهي جزء من النظام الإمبريالي العالمي. ونشاطها في العالم هو منذ وجودها مرتبط بالنشاط الإمبريالي سواء أكان لمصلحتها الخاصة أو لحساب الإمبرياليات الأوروبية والأمريكية. هذا هو على الأقل التصورالأكثر شيوعاً في العالم العربي. ويشعر العرب من محيطهم إلى خليجهم بالمهانة من جراء فرض عنصرغريب في قلب أمتهم تسانده قوى العالم الأوروبي ـ الأمريكي.
وقد بدأت فكرة الكيان الصهيوني عندما كانت الإمبرياليتان الفرنسية والبريطانية تصارعان من أجل اقتسام تركة الرجل المريض عامة بينهما، والعالم العربي خاصة، وترعرعت مع ازدياد النفوذ الاستعماري وقوته. وأعلن قيام "دولة إسرائيل" بعد الحرب العالمية الثانية، وخروج الحلفاء منتصرين على المحور.

وجاء قيام الكيان الصهيوني عام 1948 ضمن مخطط استعماري استهدف المنطقة كلها بما فيها فلسطين. وكان الوجود الصهيوني في فلسطين جزءاً منه، إذ قام المخطط الاستعماري على تجزئة العالم العربي، وضمان تخلفه، وتنصيب فئات رجعية قيادات في كل "دولة" من دوله. وهدف الوجود الصهيوني الحفاظ على هذه الفسيفساء. وظل  الكيان الصهيوني مرتبطاً بحركة الرأسمالية العالمية عندما كان مركزها في أوروبا، وأصبح جزءاً من المخطط الإمبريالي الأمريكي حين انتقل مركز هذه الرأسمالية العالمية إلى أميركا بعد الحرب العالمية الثانية.

يُعَدُّ هذا الكتاب الجديد: "(التغلب على الصهيونية: إقامة دولة ديمقراطية واحدة في"إسرائيل"-  فلسطين)، الذي ألفه الكاتب الأمريكي (طبيب يهودي) جويل كوفيل الذي كان اسمه مطروحاً ليكون مرشح حزب الخضر في الولايات المتحدة سنة 2000 لرئاسة الجمهورية، قبل أن يتغلب عليه رالف نادر(وهو مؤلف عشرة كتب أخرى)، وترجمه: عمر عدس، وصادر عن دار بلوتو برس في لندن 2007، في مجمله تشريحًا للحركة الصهيونية، ولعنصريتها وعنصرية دولتها "إسرائيل"، ضمن محاولة للبرهنة على أنَّ الدولة الإسرائيلية بصورتها الحالية، لا تصلح حلاً لا لمشكلة اليهود ولا لمشكلة الفلسطينيين.

ويضم الكتاب عشرة فصول، حيث يتحدث الفصل الأول عن فكرة الشعب المختار عند اليهود ومصدرها ونقد الكاتب جويل كوفيل لها، والفصل الثاني عن طبيعة الحركة الصهيونية وكونها حركة غير طبيعية تاريخيا وحركة قومية مصطنعة. والفصل الثالث عن استغلال الصهيونية للمحرقة النازية. وفي الفصل الرابع يتحدث الكاتب جويل كوفيل عما يصفه بكذبة أن "إسرائيل" هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. والفصل الخامس عن اقتصاد "إسرائيل" وكونه اقتصادًا مصطنعًا ومعتمدًا على مساعدات خارجية. والفصل السادس عن دور اللوبي الصهيوني ومساعدته ل"إسرائيل" ودفاعه عما ترتكبه "إسرائيل" من جرائم بحق الفلسطينين بل ودعاة السلام الأجانب أيضا. والفصل السابع عن "إسرائيل" كدولة عنصرية. والفصل الثامن عن قضية القدس.وهو يخصص الكاتب جويل كوفيل الفصلين الأخيرين للحديث عن فوات الزمن في امكانية إقامة دولتين وضرورة إقامة دولة واحدة. وموضوع الدولة الواحدة قد أشار اليه بعض الكتاب اليهود-إسرائيليين وغيرهم.

والحل في نظر جويل كوفيل، هو إقامة دولة علمانية واحدة على أرض فلسطين التاريخية، تكون وطناً لليهود والعرب الفلسطينيين معاً، بعد أن تتخلص من عقد الصهيونية، التي انتقت من الكتاب المقدس والتلمود وكتب الحاخامات شذرات بنت عليها تصورها لاستثنائية اليهود وتميزهم عن سائر الجنس البشري.

1 ـ اللاسامية واليهودية

يطرح الكاتب جويل كوفيل الأسئلة التالية: هل كل ما لقيه اليهود عبر تاريخهم من اضطهاد، عائد فقط إلى اللاسامية والعنصرية التي جوبهوا بها، أم أنهم يتحملون قسطاً من المسؤولية في ذلك؟ وهل هم "شعب الله المختار" المثالي أخلاقياً والمنزّه عن ارتكاب أي أخطاء أو ذنوب، أم أنه شعب مثل كل شعوب الأرض، يخطئ ويصيب، ويخضع لشروط علاقاته مع الشعوب الأخرى؟

وبما أنَّ الكاتب يهودي أمريكي، مخلصٌ ليهوديته وشعبه، فلا يمكن اتهامه بمعاداة السامية ومعاداة اليهود. ولذلك فهو يستطيع أن يجري نوعاً من النقد الذاتي لليهودية في بعض مراحلها، ويستطيع أن يشير إلى بعض الرواسب التي علقت بالفكر اليهودي عبر تاريخه الطويل. يقول إن هنالك من دون ريب ثروة روحية وجمالية جمة في التقاليد الحاخامية. ولكن فيها كذلك الكثير من الخَبَث والنفايات، بل إن فيها أموراً غريبة ومدمرة.

ويرى الكاتب جويل كوفيل أنَّ معاداة السامية، والمعاناة التي فرضتها على اليهود، كانت بدوافع عنصرية في بعض الأحيان، ولكنَّ معاداة اليهود كانت في أحيان أخرى، بسبب ممارسات غير طبيعية لليهود أنفسهم، فاليهود بشر مثل سائر البشر، يصيبون ويخطئون، غير أنه ينبغي عدم تحميل تبعات أخطائهم لليهودية ككل، ووصم اليهودية بحد ذاتها، كما يقول الكاتب.

ويفصّل الكاتب جويل كوفيل ذلك قائلاً، إنَّ اليهودية الكلاسيكية تولي أهمية فائقة لإنقاذ الحياة البشرية. وقد بات ذلك يعتبر أمراً محورياً في التفوق الأخلاقي للشعب اليهودي. ولكن هنالك شرطاً في هذا الجانب، هو أن اليهود فقط هم الذين يُعتَبَرون بشراً. وتنص القبالا، (وهي علم التأويلات والصوفية عند اليهود)، التي تحظى بشعبية كبيرة لدى مثقفي الجيل الجديد ونجومه، وتأثير كبير في أوساط اليهود الحسيديين والجماعات "الإسرائيلية" الممعنة في يمينيتها مثل حركة "جوش امونيم"، على أن "أرواح غير اليهود تأتي كلياً من الجزء المؤنث من العالم الشيطاني.

مصير "إسرائيل" سيعتمد على الاضطرابات التي تنتظر النظام العالمي، والثورات التي لا يمكن التكهن بمضمونها بدقة، ولكن قدومها قد عجّله التهوّر والغباء المطبق، اللذان يتسم بهما نظام بوش ـ تشيني، وشريكته الصغيرة ـ الكيان الصهيوني.
ولهذا السبب تُعتبر أرواح غير اليهود شريرة، وأنها تُخلق من دون علم الإله". ويترتب على ذلك ان المقصود من إنقاذ الروح البشرية هو إنقاذ أرواح اليهود فقط. ويستشهد الكاتب كذلك في هذا الصدد بقول الحاخام ابراهام كوك الأكبر (1865  1935) وهو من كبار الشخصيات في الحركة الصهيونية، وأبو التوجه الأصولي اليهودي "أن الفرق بين الروح اليهودية وأرواح غير اليهود، أكبر وأعمق من الفرق بين الروح البشرية وأرواح البهائم”. ويستشهد المؤلف كذلك بما كتبه الحاخام ميناحيم مِندِل، زعيم الحسيديين المبجل “إن جسم الشخص اليهودي ذو نوعية مختلفة تماماً عن أجسام جميع أفراد أمم العالم".

ويقول الكاتب جويل كوفيل: إن هذا النوع من التفكير مبثوث في ثنايا التلمود وغيره من وثائق الهالاخاه، أساس الشريعة اليهودية، وملاط الهوية والمجتمع اليهوديين، الذي يحفظ تماسكهما. وتصبح التناقضات حادة بوجه خاص في ما يتعلق بمسألة إنقاذ حياة الأغيار على أيدي الأطباء اليهود. فقد ورد في تعاليم التلمود على سبيل المثال، إنَّ "الأغيار يجب عدم رفعهم (من بئر قد يكونون سقطوا فيها) ولا دفعهم الى أسفلها". ويأمر قَسَم أبقراط الذي يؤديه الأطباء، بأن يحاول الطبيب إنقاذ حياة جميع البشر بصرف النظر عن هوياتهم. ولكن ذلك يتناقض، كما يقول المؤلف، مع تعاليم اليهودية التقليدية بأن الفرق بين اليهود وغير اليهود أكبر من الفرق بين البشر والبهائم، وأن غير اليهود، وفقاً لذلك، ليسوا بشراً.

2 ـ عقدة الغرب الأوروبي وقيام "إسرائيل"

إنَّه انطلاقاً من عقدة اضطهاد اليهود، وتحت تأثيرهذه العقدة، يعتبرالغرب الأوروبي أن قيام "إسرائيل"، قد شكل حلاً نهائياً للمسألة اليهودية التي لم يعرفها العالم العربي والإسلامي، وهو لا يريد أن يستوعب موقف العرب والمسلمين من هذا الحل الذي قام على أرضية المشاريع الاستعمارية المتعلقة بالمنطقة، وبالتالي فهو يذهب في عدم فهمه، إلى مواقف الدعم المطلق للعدوانية الصهيونية تجاه شعوب المنطقة، وإلى وصم مقاومة هذه الشعوب ردّاً على العدوان الواقع عليها بالإرهاب، معتبراً هذا الرد،على أنَّه نتاج رفض هذه الشعوب "للحل الإنساني" لتلك المسألة،على أساس أن الإسلام هو الذي يعيق تقبل شعوب المنطقة للفكر الحداثي والعصري والإنساني الذي هو نتاج الحضارة الغربية(؟).

 لقدتولد لدى الوعي الأوروبي قناعة، جوهرها أن معافاة المجتمعات الأوروبية من معاداة السامية بعد قيام الدولة اليهودية، قد أوصل هذه المجتمعات إلى أعلى مراحل ليبراليتها وذلك من خلال تخلصها من آخر نزعاتها غير الليبرالية المتعلقة بمعاداة السامية. وبالنسبة لعداء شعوب المشرق والعالم العربي والإسلامي للدولة اليهودية لكونها قاعدة استعمارية عدوانية وكياناًاغتصابياً تم زرعه في قلب المنطقة، فهو في نظر الغرب الأوروبي، مرتبط بتخلف هذه الشعوب عن ركب الليبرالية التي تتعارض حسب رؤيتهم التبسيطية والاستعلائية والعدائية، مع جوهرالإسلام، ومع جوهر الحضارات الشرقية بوجه عام التي لا تنتج غيرالثقافة والنظم الاستبدادية.

إن استجابة القوى الأوروبية لحركة المطالبة بفلسطين من قبل بعض الشخصيات الأوروبية اليهودية، في نهاية القرن التاسع عشر،تحت يافطة الحركة الصهيونية ،ثم قيام دولة "إسرائيل" في عام 1948، تؤكد لنا عدم أمانة الغرب للقيم والمفاهيم التي حملتها في سيرورتها التاريخية الثورة الديمقراطية البرجوازية الأوروبية من الليبرالية والعلمانية والديمقراطية.

وهكذا رأى الوعي التاريخي الأوروبي والثقافة السياسية التي أنتجها،في المطالبة بدولة "إسرائيل" وبقيامهالاحقاً أساساً ديني الطابع،واستناداً إلى ذاكرة جماعية يهودية،ظاهرة طبيعية جدًّا وشبه بيولوجية .ولم يشكل ألفا عام من الانقطاع وعدم التواصل الزمني ، ولاسكن جماعات غير عبرية في الأرض الفلسطينية ولازوال اللغة العبرية كلغة حية،عائقاً أمام مشروع قيام الدولة "الإسرائيلية".الحقيقة أن تحقيق المشروع لم يكن بالأمرالسهل،وهذاما ستبينه الدراسة،وسيما في أوساط الطوائف اليهودية التي ظلت مرتبطة  بالمعتقد الديني الثابت ،القائل بأنَّ العودة إلى أرض الميعاد لا يجب أ ن تحصل بفعل بشري ، إنما بالتدخل الإلهي وحده .

لكن ما إن بدأ مشروع العودة اليهودية إلى فلسطين يأخذ مجراه والدولة الناشئة تظهر إلى الوجود وتنتصرعلى أعدائها و تثبت وجودها في أراض جديدة ،حتى عادت صورالتاريخ التوراتي المقدس تظهرفي واجهة الذاكرة الجماعية لأوروبا العلمانية .وتصادمت زمانية قديمة من طبيعة توراتية ، ومحصورة حتى ذلك الحين ضمن حدود دينية و صوفية في الوعي الأوروبي مع زمانية حديثة نشأت في القرن العشرين ومعاشة على نمط دنيوي – علماني في عالم أزيل عنه طابع الأثر " السحري" للدين ، لينجم عن هذا التصادم تشوش في المقولات والمفاهيم وإدراك الحقيقة التاريخية و طبيعة الأحداث الحاصلة في الشرق الأدنى .

3 ـ "إسرائيل" أخطر مكان في العالم بالنسبة لليهود

يعتقد الكاتب جويل كوفيل إنَّ الصهيونية أفادت كثيراً من المحرقة اليهودية، واستغلتها في تبرير ايجاد وطن لليهود في فلسطين. ولكنها بعد ان أقامت تلك الدولة اليهودية، لم تفلح في خلق وطن آمن لليهود بالفعل. وذلك بدليل الأمور التالية:

 ـ لا تزال "إسرائيل"، اليوم، وبعد أكثر من 77سنة من تأسيسها، أخطر مكان في العالم بالنسبة إلى اليهود، وذلك ببساطة، لأنَّها أقيمت لكي تظل في حالة حرب دائمة. أثار سلوك الدولة اليهودية سيلاً عالمياً من الإدانة المنطقية لها، كما أيقظ الخوف من اليهودية في العالم. ويدعي الصهاينة، أولاً، أنَّه لا يوجد شيء اسمه الإدانة المنطقية ل"إسرائيل"، ويعتبرون كل انتقاد لها معاداة للسامية؛ وثانياً إنَّ معاداة السامية، فيروس ينبع من قلوب الأغيار المنحرفة، بصرف النظر عمّا يفعله اليهود أو "إسرائيل".

إنَّ مأساة الشعب الفلسطيني كانت نتيجة لمعطيات وأهداف الاستعمارالأوروبي الذي خطط وباشر في تنفيذ خططه في الاستيلاء على المنطقة العربية، وفي إقامة دولة "إسرائيل"، على أرض فلسطين. ومن هنا، فإن أوروبا لا تفهم قضية شعب فلسطين أكثرمن غيرها فحسب، بل لا بد وأن تستشعر بما مارسته من أعماق المأساة للشعب الفلسطيني.
ويقول الكاتب جويل كوفيل، إنَّه يجب على اليهود نبذ وجهة النظر العقائدية البشعة، والتي تخالف حقائق المجتمع البشري وترابط أجزائه بعضها ببعض. فإذا قامت دولة امبريالية بغزوِ واحتلالِ وزعزعةِ استقرارِ مجتمع آخر، وحرمت شعبه وسائل التعبير العادية والتلقائية عن الذات، فيجب عليها أن تتوقع بحكم قوانين الطبيعة، أن يثير ذلك سلسلة من ردود الفعل الانسانية التي تتراوح بين التعبير الحرّ المسالم، والارتدادات الفجة إلى الماضي، بما فيها المعتقدات العنصرية ومعاداة السامية حين يكون ذلك الغازي الدولة اليهودية. وغني عن القول ان ما يبدأ في مكان واحد يمكن ان ينتشر بسرعة حول العالم إذا كان الصراع الذي نحن بصدده يحظى باهتمام عام كافٍ. ومن البربرية الثقافية نزع مثل هذه الظواهر من سياقها التاريخي، وانتقاء العناصر الأقل منطقية في الطيف من بين بقية ألوانه وتقديمها تحت عنوان معاداة السامية.

 على الرغم من المساعدات الهائلة التي تغدقها على "إسرائيل"، حاميتها الولايات المتحدة، والفوائد التي تجنيها من المجتمع اليهودي الدولي، تظل "إسرائيل" مجتمعاً يعيش أزمة اجتماعية واقتصادية خطيرة، وتتفشى فيه البطالة، وجيوب الفقر المدقع، والعديد من علامات التفسخ الاجتماعي. وتمتاز "إسرائيل" بأوسع هوة بين الأغنياء والفقراء في العالم الصناعي برمته. ويعجز أكثر من نصف العائلات "الإسرائيلية" عن دفع فواتيره الشهرية، كما لا يقدر 14% من "الإسرائيليين" تدبير طعام مناسب. ويستشهد المؤلف بما كتبه عضو الكنيست "الإسرائيلي" السابق مايكل ملكيور، والذي كان يكتب زاوية ثابتة في صحيفة هآرتس، حيث قال "إننا نعيش في مجتمع يحيى مليون وربع المليون من سكانه ـ الذين تبلغ نسبة العاملين منهم 40% ـ تحت خط الفقر. وهو مجتمع يعرّض 366 ألفاً من أطفاله للخطر ويلقي بهم في الشارع؛ مجتمع يعامل عماله الأجانب مثل الحيوانات؛ ويزدري كبار السن فيه ويدفعهم الى التنقيب في النفايات. إنه مجتمع من أوائل المجتمعات في العالم في المتاجرة بالنساء. والسبب المباشر لكل ذلك هو الهجوم الليبرالي الجديد على الفقراء والقطاع العام، الذي يقوده وزير المالية السابق "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو. وليس ذلك من قبيل المصادفة، بل هو ناتج عن الانجراف نحو اليمين، المتأصل في ديناميات المشروع الصهيوني. يوجد في "إسرائيل" أسوأ تعليم، في المرحلتين الابتدائية والثانوية الدنيا، في العالم الغربي، على الرغم من امتلاكها ميزانيات ضخمة ملائمة. وهي تأتي في مرتبة تالية للعديد من الدول الأفقر، مثل ماليزيا، وتايلاند، ورومانيا، التي تزوّد "إسرائيل" بالعمالة الرخيصة.

 كل ذلك ترك المثل الأعلى الاشتراكي الأصلي في حالة يُرثى لها. فاليوم، تلعب الأصولية الدينية اليمينية في "إسرائيل"، دوراً أكبر بكثير من دور الاشتراكية المستنيرة التي كان من المفترض ان تكون شعارالمجتمع اليهودي الجديد. بسبب هذه المآزق، تجري الآن هجرة مضادة الى خارج “اسرائيل”، وقد بلغت نسبة خطيرة، وهي تهدد المعادلة السكانية المقلقلة، التي تشكل همّاً للدولة الصهيونية. ففي أواسط سنة ،2004 كان هنالك نحو 760 ألف "إسرائيلي" يعيشون في الخارج، بزيادة 40% منذ بدء الانتفاضة الثانية سنة، 2000 ويشير المؤلف هنا الى مفارقة غريبة: وهي ان البلد الذي يقصده اليهود الذين يهاجرون من الاتحاد السوفييتي السابق، لم يعد "إسرائيل" الآن.. بل هو ألمانيا! وقد أثار ذلك جولة أخرى من الهجمات الصهيونية على الألمان البغضاء، ولكنْ، بسبب "إغوائهم" اليهود للاستقرار في ألمانيا، هذه المرة.

4 ـ حل الدولة الواحدة: إقامة دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين لليهود والفلسطينيين

يعتقد الكاتب جويل كوفيل أنَّ السبيل الوحيد لحل الصراع  العربي ـ الصهيوني هو قيام دولة واحدة تضم كلاًّ من الفلسطينيين واليهود، ويقترح لها اسماً، هو "فلسرائيل". ويرى أنَّ ذلك يمكن تحقيقه عبر أمور منها:

ـ فضح اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، بوصفه  من الخطوات المهمة في هذا الصدد. فعند فضح هذا اللوبي، يمكن مواجهته.ويقول الكاتب إنَّ الأمريكيين بحاجة الى شن حملة لإجبار اللوبي على الاعتراف بأنَّه عميل لقوة أجنبية، وحملة أخرى لإقامة بنوك معلومات لفضح المتواطئين معه، وإنهاء الامتيازات الخاصة التي تتمتع بها: "إسرائيل" مثل التخفيضات الضريبية، وتحويل التكنولوجيا، وضمانات القروض، وتكنولوجيا الموت والدمار، وما شابه ذلك، مما يثقل كاهل دافع الضرائب الأمريكي، بينما يجرّ على فلسطين ولبنان تعاسة ودماراً لا حدّ لهما، وكذلك الاحتجاج على ترسانة "إسرائيل" النووية والمطالبة بوضعها تحت الرقابة الدولية، والاستمرار في مقاضاة "إسرائيل" على ما ترتكبه من انتهاكات لحقوق الانسان، والإصرار على أن تنشر وسائل الإعلام وجهات نظر بديلة، وبناء إعلام بديل يفعل ذلك، وتلتقي جميع هذه الحملات على الخطوة الرئيسية التي بدأ جميع الناشطين في كل مكان اتخاذها، وهي تنظيم حملات مقاطعة دولية ضد الدولة الصهيونية.

ـ وضع "إسرائيل" في مكانها الطبيعي، إلى جانب الدول التي تمارس التمييز العنصري، وحرمانها أولاً من الغطاء الذي تتستر به لتبدو دولة عادية سوية، وحرمانها بعد ذلك من تدفق رؤوس الأموال التي تشكل عصب حياتها.. وهذا هو الصراع المركزي للتغلب على الصهيونية، وهو استراتيجية تتطلب بالضرورة قطع الخيوط بين “اسرائيل” وبين أنظمة دعمها. وذلك أمر ضروري، كما يقول المؤلف، ولكنه غير كافٍ. ولذلك فلا بدّ من أسلوب ملموس وغير عنيف يمكن به تجاوز الصهيونية.

ـ تطبيق قانون حق العودة  للفلسطينيين(194) إلى ديارهم، إذ يقول الكاتب جويل كوفيل :"إن الفلسطينيين يشكلون اليوم أكبر وأقدم مجموعة سكانية لاجئة في العالم، حيث يشكلون ثلث عدد اللاجئين في العالم، وقد نشأت حول محنتهم مجموعة معقدة من القواعد والظروف، التي أهمها، أنَّ لهم حقاًّ في العودة الى وطنهم، لا يمكن إنكاره، وهو متضمن في القانون الدولي، وبخاصة في قرار الأمم المتحدة رقم 194. وحلّ الدولة الواحدة الذي يتحقق من خلال تطبيق حق عودة الفلسطينيين، سوف يتجه بحد ذاته نحو صيغته العلمانية الجامعة. فمن الجانب الفلسطيني، كان الغزو والاحتلال صدى لنكبة 1948 التي يظل التغلب عليها النجم الهادي لكفاح الفلسطينيين في سبيل الحرية. ولذلك، فإن دعم حق العودة، يعني دعم حق تقرير المصير الذي هو حق إنساني أصيل.

ويطرح الكاتب جويل كوفيل السؤال العتيد عن مدى إمكانية تطبيق مبدأ عودة الفلسطينيين إلى ديارهم.ويقول، إن أفضل جواب عن هذا السؤال يمكن العثور عليه في  كلمات سكوت ليكي، مدير إحدى المنظمات غير الحكومية المتخصصة في هذه المسألة، وهي اللجنة المختصة بشؤون حقوق الإسكان وعمليات الطرد والترحيل. يقول ليكي:على الرغم من أنَّ الواقع الراهن المهيمن، يشير في ظاهره إلى إنَّ تطبيق حقوق اللاجئين الفلسطينيين المشردين بالعودة الى المنازل والأراضي والممتلكات التي طردوا منها بصورة عشوائية وغير شرعية، لا يعدو كونه حلماً خيالياً، فإنَّه لا شيء أبعد عن الحقيقة من هذا الكلام.فقد أصبحت إعادة أملاك اللاجئين إليهم هي العرف السائد. وقد عاد ملايين اللاجئين والمشردين الى مواطنهم الأصلية خلال العقود الأخيرة، من البوسنة، وجنوب افريقيا، وطاجيكستان إلى ألمانيا.

ومن بين عشرات الجماعات السكانية الكبيرة المشردة في العالم، التي تنتظر أن تمارس هذه الحقوق، لا تملك جماعة ما يملكه ملايين اللاجئين الفلسطينيين من حقائق ووثائق، وأدلة، وأساس قانوني، تدعم حق إسكانهم في ديارهم وإعادة ممتلكاتهم إليهم. وتتوفر للعالم جميع سجلات الأراضي، وسندات الملكية، والوثائق التاريخية، والصور الفوتوغرافية - بل حتى مفاتيح المنازل - اللازمة لجعل استعادة الملكية المنصفة والعادلة حقيقة واقعة لكل الفلسطينيين المشردين".

ويضيف الكاتب جويل كوفيل قائلاً: "إنَّه لا ريب في أنَّ عملية التحكيم سوف تتطلب هيئة ضخمة، وستكون مكلفة في حالة عودة اللاجئين أو حصولهم على تعويض. ولكن ذلك يهون أمام ما يُنفق على الصراع العربي الصهيوني ، وبخاصة ما تنفقه "إسرائيل" على الجانب العسكري، وللحفاظ على الاحتلال.

ويختم الكاتب جويل كوفيل كتابه بالحديث عن مدى إمكانية تحقق الحل الذي يتصوره، حلّ الدولة الواحدة التي تضم الفلسطينيين واليهود.. يقول حيناً، إنَّ ذلك ربما لن يتحقق في مدى قريب، وربما لن يتحقق أبداً، إذا أخذنا في الاعتبار، الثروة الهائلة، والقوة الجبارة اللتين تتوفران للامبراطورية الأمريكية، وإعلامها الجبان، وجمهورها المجبر على الخضوع، ووعيها السياسي الخرب. ولكن الكاتب جويل كوفيل يبقي كوة الأمل مفتوحة.. فيستدرك قائلاً، وربما سيتحقق ذلك.. لأن مصير "إسرائيل" سيعتمد على الاضطرابات التي تنتظر النظام العالمي، والثورات التي لا يمكن التكهن بمضمونها بدقة، ولكن قدومها قد عجّله التهوّر والغباء المطبق، اللذان يتسم بهما  نظام بوش ـ تشيني، وشريكته  الصغيرة ـ الكيان الصهيوني.