رغم
أن "تصحيح المسار"، أي إجراءات الرئيس
قيس سعيد الموظفة بصورة إشكالية
ومتنازع فيها للفصل 80 من الدستور، بدأ يوم 25 تموز/ يوليو 2021، فإنّ الرئيس الحالي كان لا يُخفي -منذ
ظهوره "خبيرا دستوريا"- أنه ضد "المنظومة الحزبية" المهيمنة
على
الديمقراطية التمثيلية وعلى النظام البرلماني المعدّل، وهو ما يعني أن
"التأسيس الجديد" كان كامنا منذ تلك الفترة التي صرح فيها السيد قيس
سعيد بأنه لا يحمل أية طموحات سياسية.
ولم
تكن الصرخة الشهيرة بعد اغتيال الحاج محمد براهمي سنة 2013 (ليرحلوا جميعا حكما ومعارضة) إلا تأكيدا للموقف الرافض لمسار مأسسة الثورة أو ما
يسمى بـ"الانتقال الديمقراطي"، في ظل "صفقات" مشبوهة بين
الأجسام الوسيطة. كما لم يكن رفض "الخبير الدستوري" للانخراط في أي حزب
أو تأسيس حزب جديد إلا إشارة إلى ما ستؤكده "حملته التفسيرية" خلال
الانتخابات الرئاسية لسنة 2019؛ من انتهاء زمن
الأحزاب والديمقراطية
التمثيلية برمتها وضرورة الانتقال إلى تأسيس جديد (التأسيس الثوري الجديد) في ظل
ديمقراطية مباشرة أو مجالسية، تشتغل فيها "الوظائف" (أي السلطات) تحت
سقف نظام رئاسوي لا مكان فيه واقعيا للأحزاب بحكم اعتماد نظام الترشحات الفردية.
مساندة أغلب مكونات ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية" للرئيس قبل إجراءات 25 يوليو وفي الفترة التي أعقبتها؛ لا يمكن أن تفهم إلا في إطار "الصراع الوجودي" ضد حركة النهضة وباقي حركات الإسلام السياسي
لقد
عمل الرئيس منذ وصوله إلى قصر قرطاج -بالتحالف مع أغلب مكوّنات "العائلة
الديمقراطية" في البرلمان وخارجه، أي في الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني
والإعلام.. الخ- على إنضاج الشروط الفكرية والموضوعية لمشروعه السياسي، أي ما يجعله
مقبولا بل مطلوبا عند فئة كبيرة من عموم المواطنين، تمهيدا للحظة 25 تموز/ يوليو 2021.
وإذا ما استثنينا بعض الدوائر الضيقة من المؤمنين بمشروع الرئيس ومن المسيّسين المطّلعين
على برنامجه السياسي القائم على إنهاء الديمقراطية التمثيلية وإلغاء الحاجة إلى
أجسامها الوسيطة، فإن أغلب
التونسيين قد اختاروا المرشح قيس سعيد في الدور الثاني
من الانتخابات الرئاسية من باب الثقة الشخصية (نظافة اليد وعدم الارتباط بمراكز
النفوذ واللوبيات)، وكذلك من باب "الانتخاب العقابي" الموجّه ضد منافسه
نبيل القروي؛ المتهم بالتواصل مع "الصهيونية" وبوجود علاقات مشبوهة بينه
وبين دوائر الفساد المحلية والأجنبية. ولكنّ اختيار التونسيين لمرشح من خارج
المنتظم الحزبي كان أيضا نوعا من الانتخاب العقابي، أو لنقل كان رسالة شديدة
اللهجة للأحزاب وللأجسام الوسيطة كلها، وهي رسالة لم يحملها هؤلاء -بحكم تقديراتهم
السياسية المختلفة لمدى جدية هذا المشروع أو لإمكانية توظيفه ضد الخصوم الأيديولوجيين-
على محمل الجد.
لو
أردنا التأريخ لـ"تصحيح المسار" بعيدا عن المقاربات الاختزالية للمعارضة
ولأنصار النظام الحالي على حد سواء، فإننا سنقول بأن ما تقدم على إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 ومهّد لها منذ إسقاط البرلمان لحكومة الحبيب الجملي وانتقال المبادرة من الحزب
الأغلبي إلى قصر قرطاج لتشكيل "حكومة الرئيس"، بالإضافة إلى ما تلا تلك
الإجراءات من تحويل حالة الاستثناء المؤقتة إلى مرحلة انتقالية تمهد لجمهورية
جديدة بدستور جديد.. كل ذلك لا يمكن أن يُفهم إلا باعتباره استثمارا موفقا لجملة
من الاستراتيجيات المتنازعة بين أهم الفاعلين الجماعيين في الديمقراطية التمثيلية.
فإذا
كانت حركة
النهضة قد اختارت التوافق مع المنظومة القديمة وحلفائها في اليسار
الوظيفي بشروطهم واملاءاتهم، فإن هذا الخيار لم يقابله "تطبيع" مبدئي
معها من أجهزة الدولة الصلبة ولا من أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية"
وأذرعها المدنية والنقابية. فقد عمل هؤلاء على اختزال منظومات الحكم المتعاقبة منذ
المرحلة التأسيسية في حركة النهضة حتى سموها "منظومة النهضة"، وهو ما
يعني تحميلها مسؤولية "العشرية السوداء" التي كان
"الديمقراطيون" أكبر المستفيدين منها في مختلف المجالات. وقد استطاعت
هذه السردية المعمّمة داخل "الطيف الحداثي" أن تشيطن حركة النهضة وأن
تفقدها جزءا كبيرا من خزانها الانتخابي ومن التعاطف الشعبي معها ومن مصداقيتها،
بالإضافة إلى نجاحها في التغطية على دور "القوى الديمقراطية" ومسؤوليتها
السياسية والأخلاقية عن "العشرية السوداء" كما يسمّونها.
إن
مساندة أغلب مكونات ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية" للرئيس قبل إجراءات 25 يوليو وفي الفترة التي أعقبتها؛ لا يمكن أن
تفهم إلا في إطار "الصراع الوجودي" ضد حركة النهضة وباقي حركات الإسلام
السياسي. وهو صراعٌ قد نجانب الصواب إذا ما حاولنا فهمه بمنطق أيديولوجي (فكري)
صرف، فقد أثبت "تصحيح المسار" أن أغلب النخب "الديمقراطية"
محكومة بـ"مصفوفة مشاعر" قبل أن تكون محكومة بمصالح أو أفكار. وآية ذلك
أن أغلب الذين ساندوا الرئيس بحثا عن موقع في سلطة من غير "نهضة"، لم
يتراجعوا عن تلك المساندة رغم تهميش أجسامهم الوسيطة ورغم رفض السلطة لأي
"حوار وطني" معهم. وهو ما يعني أن "الإشباع النفسي" الذي
يتحقق برؤية النهضة خارج السلطة وتحويلها إلى ملف أمني-قضائي مقدّم عند أغلب
"الديمقراطيين" على "الاقتناع العقلي" بأن "تصحيح
المسار" قد ألغى الحاجة إلى "الديمقراطيين" وأجسامهم الوسيطة قبل
غيرهم.
ولا
شك في أن تدبّر هذا المعطى بصورة عقلانية سيجعلنا نعيد النظر في علاقة "النخب
الحداثية" بالمطلب الديمقراطي، وما تروجه السرديات "الحداثية" من
تمايز بين النخب وعامة المواطنين من جهة العلاقة بالمطالب التي تتجاوز الاحتياجات
الواردة في أدني هرم ماسلو.
قد
يكون من السهل رد نجاح "تصحيح المسار" إلى علاقة التعامد الوظيفي بين
سرديته السياسية "الشعبوية" وبين احتياجات النواة الصلبة لمنظومة
الاستعمار غير المباشر بعد "الفاصلة الديمقراطية"، وقد يكون من السهل
أيضا أن نربط نجاح "تصحيح المسار" بالدعم الخارجي، خاصة من الجزائر ومن
محور الثورات المضادة ومن بعض الدول الأوروبية، ولكنّ هذا الطرح لن يحقق هو الآخر إلا
"الإشباع النفسي" للقائلين به، أي للمتضررين من النظام الحالي. ذلك أن
فشل "تصحيح المسار" في تحقيق وعوده داخليا (مقاومة الفساد، استرجاع
المال المنهوب، تحسين الوضع الاقتصادي) وخارجيا (تجريم التطبيع، التخلص من الهيئات
المانحة/الناهبة، تغيير منطق التبادل اللامتكافئ مع الغرب وتنويع الشراكات
الاقتصادية).. كل ذلك لا يعني "تطويب" مساري التأسيس والتوافق، ولا يعني
أيضا مجانبة الرئيس للصواب في توصيف آفات الديمقراطية التمثيلية ودور أجسامها
الوسيطة في إفشال الانتقال الديمقراطي.
التعامد الوظيفي/التخادم بين سردية تصحيح المسار وبين النواة الصلبة للحكم قد جعل من "استمرارية الدولة" مسألة لا علاقة لها بالأحزاب وبمجمل الأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية، بل جعل تلك الأجسام خطرا جاثما على الدولة وعلى مواطنيها. وهو ما يعني رجوع السلطة إلى النواة الصلبة للحكم وإلى "حزب الإدارة
إن
القول بأن فشل الديمقراطية التمثيلية راجع أساسا إلى أنها لم تأخذ فرصتها كاملة،
وأن الانقلاب عليها بإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 قد أفقدها أهم مميزاتها -أي التراكم والتعديل الذاتي.. الخ- هو قول مردود لسببين:
أولا، هذه الحجة يمكن لأنصار تصحيح المسار أن يستعملوها من جهة أن الفشل الحالي هو
فشل مؤقت وأن التجربة تحتاج إلى التراكم وإلى الوقت الكافي لتنجح؛ ثانيا، هذه
الحجة تصادر على صلابة الأسس منذ المرحلة التأسيسية وعلى أن الفشل راجع إلى
"عوارض" سياقية لا تكوينية أو بنيوية؛ تجد جذرها في إدارة الثورة بمنطق
"رجال الدولة" بالمعنى المعروف في اللحظتين الدستورية والتجمعية للحكم.
ولو ذهبنا بالتحليل إلى نهاياته المنطقية فإننا سنقول بأن "تصحيح
المسار" هو لحظة حتمية لخيار "استمرارية الدولة". فذلك الخيار قد
جعل من "مأسسة الثورة" على أعين النواة الصلبة للمنظومة القديمة هو
الخيار التوافقي الأصلي، ولكنه خيار هش ولا يمكن له أن يستمر، خاصة عند فشل
المنتظم السياسي في إدارة الدولة واكتساب "مشروعية" شعبية تعضد مبدأ
الشرعية الانتخابية. وهو ما يعني أن "التأسيس الثوري الجديد" (السردية السياسية
"المشخصنة" والفاقدة لأي حاضنة حزبية، والتي تكتسب شرعيتها من التمايز
الجذري عن الأجسام الوسيطة كلها) قد مثّل الخيار الأمثل للنواة الصلبة لمنظومة
الحكم.
لا
شك عندنا في أن التعامد الوظيفي/التخادم بين سردية تصحيح المسار وبين النواة
الصلبة للحكم قد جعل من "استمرارية الدولة" مسألة لا علاقة لها بالأحزاب
وبمجمل الأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية، بل جعل تلك الأجسام خطرا جاثما
على الدولة وعلى مواطنيها. وهو ما يعني رجوع السلطة إلى النواة الصلبة للحكم وإلى "حزب
الإدارة" الذي أوكلت إليه مهمة تعويض الأحزاب والقيام بدور الحزب في المشروع
السياسي لـ"تصحيح المسار".
وفي
هذا الواقع الذي لا مكان فيه للأحزاب ولا دور فيه لاتحاد الشغل ولا للمجتمع المدني
باعتبارهم "شركاء اجتماعيين"، ما زال أغلب "الديمقراطيين"
يحلمون بتلك اللحظة التي يحتاج فيها النظام إلى إشراكهم في إدارة الدولة ومحاربة
"الظلامية" داخل أجهزة الحكم، كما فعل نظام المخلوع من قبله، وما زال
النهضويون يحلمون بتلك اللحظة التي يخرج فيها "الديمقراطيون" من
"مصفوفة المشاعر" ويقبلون بهم مواطنين كاملي الحقوق الفردية والجماعية.
أما النظام فإنه لا يحتاج إلى أكثر من استثمار هذه الانتظارات السريالية المتباينة
لتكريس وضعية "الأمر الواقع"؛ لا باعتباره تجسيدا لقوة ذاتية بقدر ما هو
تعبير عن ضعف الخصوم وانعدام البدائل على الأقل في المدى المنظور.
x.com/adel_arabi21