قضايا وآراء

أوهام السرديات الكبرى: بين التطبيع مع الاستعمار الجديد وادّعاء مقاومته

عادل بن عبد الله
"نرد عطالة العقل السياسي التونسي يمينا ويسارا إلى أن هذا العقل قد اشتغل دائما بحكم ارتباطه الواقعي بميراث سايكس بيكو وبما يُسمى بالدول الوطنية"- جيتي
"نرد عطالة العقل السياسي التونسي يمينا ويسارا إلى أن هذا العقل قد اشتغل دائما بحكم ارتباطه الواقعي بميراث سايكس بيكو وبما يُسمى بالدول الوطنية"- جيتي
بعد أن عجز "الربيع العربي" بمآلاته الكارثية المعروفة عن خلخلة السرديات المتنافسة على إدارة الشأن العام من منظور "الديمقراطية الليبرالية"، وبعد أن عجز كذلك عن فك الارتباط العضوي بين أغلب النخب وبين منظومات الاستعمار الداخلي، يبدو أنّ حظ "طوفان الأقصى" في القيام بتلك المهمة التاريخية ليس بأفضل مما تقدمه من أحداث مفصلية محليا وإقليميا. فإذا كانت "الفاصلة الديمقراطية" في تونس قد تحوّلت في سرديات أغلب الفاعلين الاجتماعيين -خاصة من ينتمون إلى ما يُسمّى بـ"القوى الديمقراطية- إلى "عشرية سوداء"، فإن شبه الإجماع على إسناد المقاومة الفلسطينية -بتحييد الموقف الأيديولوجي من قاطرتها "الإخوانية" المتمثلة في حركتي حماس والجهاد- لم يتحرك بالتوازي مع تحييد "مصفوفة المشاعر" التي تحكم الصراعات البينية داخل مكونات المعارضة الراديكالية من جهة، وتحكم هؤلاء جميعا في علاقتهم بالسلطة القائمة ومولاتها النقدية من جهة ثانية. وهو ما غيّب أفق "الإبدال"، أي المراجعة الطوعية لأنساق الذات الفردية والجماعية، وجعل فشل الانتقال الديمقراطي ورهانات طوفان الأقصى المفوتة تأكيدا جديدا على حتمية "الاستبدال".

ونحن لا نعني بالاستبدال فقط احتياج الدول العربية أو الكيانات الوظيفية -كما يسميها الباحث هشام البستاني- إلى نخب بديلة تكون في مستوى رهانات اللحظة، بل نعني به أساسا ضرورة مقاربة هذا "المأزق التاريخي" بنموذج إرشادي (برادايم) جديد يسعى إلى تجاوز نماذج الفهم والتفسير المهيمنة. وهو ما نطرح على أنفسنا التمهيد له في هذا المقال وفتح إمكانية التفكير فيه وتعميقه من لدن غيرنا. ونحن نقترح أن نرد عطالة العقل السياسي التونسي يمينا ويسارا -بل عطالة العقل السياسي العربي بأغلب سردياته الكبرى- إلى أن هذا العقل قد اشتغل دائما بحكم ارتباطه الواقعي بميراث سايكس بيكو وبما يُسمى بالدول الوطنية، سواء قبل الربيع العربي وطوفان الأقصى وبعدهما، في أفق نيوكولونيالي (الاستعمار الجديد) وعجز بمختلف سردياته الوطنية والقومية والإسلامية -على الأقل إلى هذه اللحظة- عن التموضع في أفق ديكولونيالي (ما بعد استعماري) صَلبٍ، سواء من جهة مفاهيمه أو قضاياه أو رهاناته الحقيقية، وذلك بصرف النظر عن ادعاءاته الذاتية وشعاراته الحزبية ومزايداته الأيديولوجية.

نماذج الفهم والتفسير المتنافسة في تونس وغيرها -أي نماذج التغيير من منظور إصلاحي أو ثوري- لم تفشل فقط لأسباب خارجية، أي لأسباب مرتبطة بقوة المنظومات القديمة أو محور الثورات المضادة، بل فشلت أساسا لأنها في أفضل أحوالها قدمت عروضا لا علاقة لها بأي أفق ديكولونيالي، أي قدمت عروضا هي في جوهرها مجرد تنويعات في خدمة المنظومات النيوكولونيالية

إن التفكير في أسباب المأزق الفكري الذي يجد تعبيرته السياسية في فشل "الربيع العربي" وفي تحول "طوفان الأقصى" إلى مناسبة لتأكيد أنساق الذوات الجماعية وتجذير الانقسامات الحدية بينها، هو أمر يدفعنا إلى افتراضٍ مشروعٍ مداره أن نماذج الفهم والتفسير المتنافسة في تونس وغيرها -أي نماذج التغيير من منظور إصلاحي أو ثوري- لم تفشل فقط لأسباب خارجية، أي لأسباب مرتبطة بقوة المنظومات القديمة أو محور الثورات المضادة، بل فشلت أساسا لأنها في أفضل أحوالها قدمت عروضا لا علاقة لها بأي أفق ديكولونيالي، أي قدمت عروضا هي في جوهرها مجرد تنويعات في خدمة المنظومات النيوكولونيالية.

فإذا أخذنا "الثورة التونسية" مثلا، فإن القائمين على مأسسة مطالبها (وهم في الأغلب من المنتمين إلى المنظومة القديمة أو المطبّعين معها، بدءا من المرحوم الباجي قائد السبسي وأغلب أعضاء هيئة تحقيق أهداف الثورة والمجلس التأسيسي) لم يديروا المرحلة التأسيسية بمنطق القطيعة مع ميراث الاستبداد والفساد وأساطيره التأسيسية، خاصة البورقيبية، وحولوا "الثورة" -بمنطق استمرارية الدولة والدفاع عن "النمط المجتمعي" و"المشترك الوطني"- إلى لحظة "اختلال مؤقت" في المنظومة القديمة، وهو ما مهّد الطريق لعودتها المظفرة واحتلال مراكز السلطة بصورة "شرعية" منذ انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية.

لم يكن المسار التونسي الذي شاركت فيه حركة النهضة مختلفا عن المسار المصري ذي الواجهة الإخوانية في المستوى العلاقة بالمنظومة القديمة أو بفلسفة الدولة-الأمة وميراث سايكس-بيكو. فالعمل السياسي "القانوني" في ظل "الكيانات الوظيفية" ليس هبة غير مشروطة من منظومات الاستعمار الداخلي التي ظلت متحكمة في الدول العربية عبر واجهاتها المختلفة، بل هو عمل مشروط يستدعي "تنازلات مؤلمة" تُفرغ أي بديل من قوته الإقناعية ومن قدرته التفاوضية وتمهّد لنفي الحاجة إليه ولو بعد حين.

ونحن هنا لا نقصد نفي الحاجة إلى "الإسلاميين" فقط، بل نفي الحاجة إلى الحقل السياسي "الطبيعي" برمته، وإعادة هندسته بصورة لا علاقة لها بأي مقوّم من مقومات الديمقراطية الليبرالية ولا بأي شرعية مرتبطة بالثورة أو بالنضال ضد المنظومات القديمة. ورغم اختلاف التجربتين التونسية والمصرية، فإنهما تشتركان في عودة السلطة -بتواطؤ الجميع عن قصد أو عن سوء تقدير سياسي- إلى النواة الصلبة للمنظومتين القديمتين: الجيش في مصر وحزب الإدارة في تونس. وهو ما أدى إلى تهميش كل القوى السياسية بما فيها قوى الموالاة في مصر (تلك القوى المنادية بتحالف الشعب والجيش لإسقاط "الإخوان")، وقوى الموالاة النقدية في تونس (وهي القوى المنادية بتحالف "العائلة الديمقراطية" مع الدولة العميقة لإخراج النهضة من الحكم) باعتماد "استراتيجية الاستئصال الناعم" أو إخراجها من الحياة السياسية القانونية وتحويلها إلى ملف أمني-قضائي (استراتيجية الاستئصال الصلب).

الاعتراف بأن كل السرديات المتنازعة هي سرديات لا تخرج في أصل نشأتها وفي مفاهيمها وفي رهاناتها عن سقف الاستعمار الجديد. ولذلك فإنها في حدها الأدنى كانت جزءا وظيفيا في استراتيجياته لإعادة هندسة التبعية وإنتاج شروطها، وكانت في حدها الأقصى فائضا يمكن الاستغناء عنه أو على الأقل تحييده في مستوى صناعة القرار، كما وقع بعد فشل الربيع العربي

إذا ما أردنا صياغة ما تقدم بصورة مختلفة، فإن أطروحتنا التفسيرية تقوم على تجاوز منطوق/ادعاءات الأنساق الحجاجية المتنافسة، سواء في ذلك السرديات السلطوية وسرديات المعارضة بمختلف أيديولوجياتها، وردّها جميعا إلى نموذج إرشادي واحد هو النموذج الاستعماري الجديد (النيوكولونيالي) باعتباره إطارا مفاهيميا جامعا. فالأغلب الأعم من النخب -بمن فيها النخب الإسلامية التي خرجت من منطق البديل عن العلمانيين إلى منطق الشريك لهم- لم تستطع أن تفكر أو تتحرك إلا بمنطق الدولة-الأمة وأساطيرها التأسيسية. وهي أساطير بنت شرعيتها على "التحرير" و"الاستقلال" ولكنها واقعيا مكّنت للاستعمار الجديد أو غير المباشر، أي أنتجت الأطر الموضوعية والفكرية للتبعية والتخلف ولقابلية الاختراق الخارجي، حتى في أشد لحظاتها عداء خطابيا للإمبريالية والصهيونية، وفي أعظم لحظاتها تغنّيا بالسيادة الشعبية وحجبا للبنية الحقيقية لسلطة "الأقليات" الأيديولوجية والجهوية والعسكرية والطائفية.

رغم أن الفعل السياسي ليس فعلا إيمانيا خالصا، فإنه في بنيته العميقة ذو جوهر إيماني ديني أو مُعلمن. فمهما كانت صلابة الأجهزة المفهومية للسرديات الكبرى فإنها تحمل بعدا إيمانيا أو طوباويا هو جوهر مشروعها الإصلاحي أو الثوري. ولعل ما تحتاجه النخب العربية يمينا ويسارا هو القيام بـ"قفزة إيمانية" تحررها من أوهامها الذاتية باعتبارها مشاريع تحررية ما بعد استعمارية. ونحن نعني بـ"القفزة الإيمانية" هنا الاعتراف بأن كل السرديات المتنازعة هي سرديات لا تخرج في أصل نشأتها وفي مفاهيمها وفي رهاناتها عن سقف الاستعمار الجديد. ولذلك فإنها في حدها الأدنى كانت جزءا وظيفيا في استراتيجياته لإعادة هندسة التبعية وإنتاج شروطها، وكانت في حدها الأقصى فائضا يمكن الاستغناء عنه أو على الأقل تحييده في مستوى صناعة القرار، كما وقع بعد فشل الربيع العربي. وهو اعتراف يوجب التخلص قبل كل شيء من "أقنعة" المستعمر في سرديات مقاومته قبل غيرها.

ولا شك عندنا في أن ذلك الاعتراف هو شرط الانتقال الجماعي إلى منظورات ما بعد استعمارية حقيقية، تلك المنظورات التي لا تكاد تبين في سرديات "التحرير" و"التنوير" و"الأسلمة" و"التحديث"، وغير ذلك من المطالب الأيديولوجية التي تحولت -بصورة قصدية أو غير قصدية- إلى أكبر حليف للاستعمار الجديد ولوكلائه في منظومات الاستعمار الداخلي.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)

خبر عاجل