رغم
المخاوف النخبوية والشعبية من دخول الإسلاميين إلى الحقل السياسي القانوني بعد "الربيع
العربي"، فإن دخولهم لم يكسر التجانس
العلماني الذي هيمن على المجال السياسي العربي
منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، بقدر ما كسر التجانس الإسلامي في علاقته بالمرجعية
الوضعية للتشريع أو الأسس الفلسفية "العلمانية" للدول الحديثة. ونحن نقصد
ذلك التجانس -الحقيقي أو المتخيل- الذي كان يضع "
السيادة الشعبية" في مقابل
"سيادة الشرع" أو السيادة الإلهية عند كل الإسلاميين على اختلاف تنظيماتهم/مراجعاتهم.
فالإسلاميون
-خاصة منهم أصحاب المرجعية الإخوانية في
تونس- قد حاولوا التحرك بمنطق الشريك للنخب
"الحداثية" لا بمنطق البديل المطلق، كما حاولوا التحرر من ربقة الصراع الوجودي/
التنافي الذي حكم علاقة السلطة بهم في مرحلتي الحكم الدستورية والتجمعية. ولكنّ ذلك
لم يشفع لهم عند ورثة منظومة
الاستعمار الداخلي وحلفائهم الإقليميين والدوليين، فكان
أن وظّفوا أخطاءهم، أو حمّلوهم أخطاء غيرهم، بل اختلقوا لهم عبر آلاتهم الدعائية خطايا
لا دليل عليها مثل دورهم المفترض في الاغتيالات السياسية والتسفير والإرهاب، ليُغلقوا
الفاصلة "الديمقراطية" التي كان الإسلاميون في مركزها.
تقتضي إعادة التفكير في مفهوم "السيادة" أن نتحرر من سرديات "الاستعمار الجديد" ومن ربائبها عند "النخب الوظيفية" مهما كان موقعها في السلطة القائمة أو موقفها منها
كانت
"الخطيئة الأصلية" للإسلاميين الذين دخلوا الحقل السياسي القانوني هي أنهم
قد جعلوا المفاهيم الأساسية في السرديات الحداثية (مثل مفهوم السيادة الشعبية، الانتخابات،
التمثيل الشعبي، الديمقراطية، الحريات الفردية والجماعية.. الخ) تنقلب على من احتكروها
-سواء في السلطة أو المعارضة- منذ بناء ما يسمى بالدولة الوطنية أو الدولة-الأمة. فقد
جاءت نتائج الاحتكام إلى الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع لتؤكد زيف الكثير من ادعاءات
النخب الحداثية من جهة تمثيل "الإرادة العامة"، ولكنّ الأخطر على السرديات
الحداثوية كان هو أن جزءا معتبرا من الشعب قد أثبت أن النخب المعارضة لا تُمثله بالقدر
نفسه الذي لم تكن نخب السلطة تمثّله، وهو ما يعني وجود وعي شعبي عميق بعلاقة التعامد
البنيوي بين النخبتين داخل "الكيان الوظيفي" الذي يسمى مجازا "دولة".
ولا يعني ما تقدم أن الإسلاميين كانوا يحملون بالضرورة مشروعا تحرريا قادرا واقعيا
على تحويل لكيان الوظيفي إلى دولة، بل كل ما يعنيه هو أنّ "السوق السياسي"
الجديد قد جعل طيفا واسعا من "صاحب السيادة" -أي الشعب- يؤكد باختباره للإسلاميين
هشاشة مشروع "التحديث الفوقي" وتهافت ما يؤسس "الكيان الوظيفي العربي"
من استعارات "الدولة الغربية".
أمام
هذا الواقع، لم يكن من المفكر فيه لدى الأغلب الأعم من النخب الحداثية استثمار الواقع
الجديد -أي الاختلال/الضعف المؤقت لمنظومة الاستعمار الداخلي- لبناء مشروع سياسي جامع،
أي مشروع سياسي لا يتماهى مع أطروحات الإسلاميين، ولكنه لا يتحرك بمنطق الصراع الوجودي
ضدها بالضرورة. فأغلب الحداثيين يرون أن أطروحات الإسلاميين تتناقض جوهريا مع الفكر
السياسي الحديث، ولا مكان لها بالتالي في بناء المشترك الوطني. وهي أطروحة كنا قد بيّنّا
في أكثر من مقال سابق ارتباطها بمقولة "الاستثناء الإسلامي"، أي بالتعارض
المطلق والنهائي وغير القابل للتجاوز بين الإسلام في ذاته وبين الفلسفة السياسية الحديثة،
وليس فقط التعارض بين الإسلاميين وبين تلك الفلسفة.
فالحداثي
التونسي الذي يفكر من داخل اللائكية الفرنسية وفرضياتها الأساسية، لا يستطيع أن يقبل
بإرادة عامة أو بنتائج انتخابات تهدد الفرضيات الأساسية لتلك السردية الفرنسية "المُتَونسة"،
كما لا يستطيع أن يرى في مساءلة اللائكية أو في إعادة التفكير في محصولها منذ الاستقلال
الصوري عن فرنسا خطوة نحو التحرر والسيادة، بل يراها خطوة نحو "التخلف" ومظهرا
من مظاهر "الرجعية". وهو ما يجعل منه -فكريا وموضوعيا- حليفا لمنظومة الاستعمار
الداخلي، أو على الأقل يمنعه من التحرك خارج الإطار العام الذي فرضته تلك المنظومة
على عقول "النخب الوظيفية" وأنماط مخيالها، وذلك بصرف النظر عن ادعاءات استقلاليتها
و"نضاليتها".
يعلم
كل التونسيين أن مصدر السيادة في دساتيرهم منذ الاستقلال هو "الشعب"، كما
يعلمون أن هذا "الشعب" هو صاحب السيادة الأصلية، وأن كل السلطات -أو الوظائف
كما يسميها النظام القائم حاليا- تستمد شرعيتها منه. ولكنّ التونسيين يعلمون أيضا أن
الشعب لم يحضر يوما إلا عبر من "يُمثله" من أقليات سمحت لها سياقات معينة
-سياق الاستقلال، سياق الانقلاب، سياق الثورة، سياق تصحيح المسار- بشرعنة الأمر الواقع
عبر توظيف "الإرادة الشعبية" للحديث باسم الشعب باعتباره مصدر السيادة. ولذلك
فإن مصدر السيادة الحقيقي هو "القوة" -أو القهر أو الشوكة أو التغلب بمنطق
القدامى- ولكنّ تلك القوة لا تحضر عارية في المجال العام، بل تحتاج إلى الدخول في علاقات
استبدالية مع الإرادة الشعبية أو الشرعية أو المشروعية.
فالتاريخ
يخبرنا أنّ أغلبية الشعب التونسي لم تقاوم الاستعمار، ويخبرنا أيضا أن من أسسوا منظومة
"الاستعمار الجديد" لم يكونوا هم فقط من حارب للحصول على الاستقلال، ولم
يكونوا أفضل الممكنات التاريخية للخروج من التخلف والتبعية وإعادة إنتاج شروطهما الفكرية
والموضوعية. كما يعلمنا التاريخ أن انقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 لم يكن استجابة لنداء الشعب، بل مجرد إنقاذ لبنية
تسلطية جهوية-ريعية-زبونية. ولا شك عندنا في أن "الثورة التونسية" هي في
بعض وجوهها نتيجة استراتيجيات دولية تقاطعت مع مصالح بعض الأجنحة الفاعلة في النظام،
وكذلك شأن "تصحيح المسار" الذي هو عندنا مجرد تعامد وظيفي بين سردية ثورية
تكفل "الشرعية" وبين النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي ومكوناتها
المختلفة.
بعيدا
عن المزايدات الخطابية بالوطنية والسيادة والاستقلال وتمثيل الإرادة الشعبية، فإننا
نستطيع إعادة تعريف السيادة في "الكيان الوظيفي" بالانطلاق مما ارتضاه القاضي
الهولندي هوغو غروتيوس لها. فالسيادة عنده هي "السلطة السياسية العليا الموكلة
إلى شخص لا يخضع لأي سلطة أخرى، ولا يمكن انتهاك إرادته"، ولكنّ هذا التعريف يصلح
للسيادة داخل "الدولة"، أي في مجال يتمتع فيه صاحب السلطة على إنفاذ إرادته
دون أي تدخل خارجي. أما في "الكيانات الوظيفية" فإن "الشخص الطبيعي"
الذي يتحدث عنه غروتيوس يتحول إلى "شخص معنوي" ثابت بصرف النظر عن واجهاته
البشرية المتغيرة. وهذا الشخص المعنوي هو "منظومة الاستعمار الداخلي"، ولكنها
في الحقيقة ليست صاحبة سيادة حقيقية لأنها لا تقدح من رأسها، ولا تسطيع أن تمتنع عن
الخضوع لسلطة أخرى أو انتهاك إرادتها من إرادة أقوى منها وأعلى. إنها مجرد "وكيل
حصري" لإدارة الكيان الوظيفي ضمن شروط يضعها السادة الحقيقيون، أي تلك القوى المتحكمة
في منع الشعوب من تحقيق سيادتها بمختلف تجلياتها المادية والروحية. فما معنى الحديث
عن "سيادة" في بلد لا تملك نخبه الحاكمة من أمرها شيئا؟ وما معنى "الاستقلال"
في كيانات وظيفية هي في جوهرها مجرد صناعة استعمارية؟ وما معنى "الإرادة الشعبية"
في ظل هيمنة نخب حاكمة هدفها الأوحد هو "البقاء" وشرط استمرارها هو إعادة
إنتاج التبعية والتسلط والفساد، كما بيّن الباحث الأردني هشام البستاني في حديثه العميق
عن "الكيانات الوظيفية"؟
"حرب التحرير الوطني" التي يخوضها النظام ضد "العدو الداخلي" -أي من يعتبرهم فاسدين ومتآمرين ومتخابرين مع الخارج- هي حرب مشروعة، بشرط أن تتوجه إلى العدو الحقيقي: منظومة الاستعمار الداخلي. فلا تحرر ولا سيادة في ظل وضعية الكيان الوظيفي، و"لا عبور" من وضعية الكيان الوظيفي إلى وضعية الدولة صاحبة السيادة إلا بتحييد منظومة الاستعمار الجديد
تقتضي
إعادة التفكير في مفهوم "السيادة" أن نتحرر من سرديات "الاستعمار الجديد"
ومن ربائبها عند "النخب الوظيفية" مهما كان موقعها في السلطة القائمة أو
موقفها منها. فلا معنى لأي نقد لمفهوم السيادة في ظل سرديات تصادر على وجود دولة-أمة،
وتحتفل بـ"الاستقلال" وتحتفي بمشروع "التحديث الفوقي" وتعتبره
مكسبا "وطنيا". ولا معنى أيضا للحديث عن سيادة وطنية في ظل أنظمة متعاقبة
تحصر وزارات السيادة أو تركيبة مجلس الأمن القومي في البعدين الأمني والمالي ولا تعتبر
أن الفلاحة أو التصنيع أو الثقافة أو التربية أو القيم الروحية جزءا لا يتجزأ من السيادة
ومن الأمن القومي. ولعلّ إلقاء نظرة سريعة إلى ترقيم السيارات الإدارية في تونس-أو
في غيرها من الدول العربية- يكفي لنفهم اختزالية مفهوم السيادة داخل الكيانات الوظيفية،
كما قد تكون تلك النظرة كافية لفهم علاقة الأنظمة بمفهوم "الأمن القومي"
وبالقيمة التي تراها لكل وزارة في ترسيخ مفهومٍ يكاد يتحول واقعيا إلى "أمن النظام".
إن
حديث السردية السلطوية عن "السيادة" وعن رفض التدخل الأجنبي لا يعني توفر
مقومات السيادة واقعيا، ولا يعني أيضا أن السلطة -باعتبارها تمثل الإرادة الشعبية-
هي صاحبة السيادة الحقيقية على المجال الداخلي أو على السياسات الخارجية. فالسيادة
الشعبية أو سيادة السلطة هما أمران لا يتجاوزان مستوى "الخطاب"؛ بحكم انعدام
مقومات السيادة داخل تونس أو غيرها من الكيانات الوظيفية.
ولا
شك عندنا في أن "حرب التحرير الوطني" التي يخوضها النظام ضد "العدو
الداخلي" -أي من يعتبرهم فاسدين ومتآمرين ومتخابرين مع الخارج- هي حرب مشروعة،
بشرط أن تتوجه إلى العدو الحقيقي: منظومة الاستعمار الداخلي. فلا تحرر ولا سيادة في
ظل وضعية الكيان الوظيفي، و"لا عبور" من وضعية الكيان الوظيفي إلى وضعية
الدولة صاحبة السيادة إلا بتحييد منظومة الاستعمار الجديد. وهو مطلب سيكون من الصعب
على النظام القائم تحقيقه بحكم علاقة التعامد الوظيفي/الاستراتيجي بينه وبين تلك المنظومة،
وكذلك بحكم دخوله في شراكات ملتبسة مع بعض الفاعلين الإقليميين والدوليين الذين سيكون
من الصعب تصديق أنهم يريدون لتونس أن تكون دولة ذات سيادة حقيقية وأن يكون شعبها -عبر
إرادته الحرة- صاحب السلطة الأصلية فيها.
x.com/adel_arabi21