أحداث سبتمبر 2001 و"الحرب الصليبية"
عشية 11 أيلول/ سبتمبر 2001، تكلم الرئيس الأمريكي بوش الابن عن "حرب
صليبية"، قبل أن يقال إنها زلة لسان، وقال أيضا، عن المسلمين: "سنجعلهم
يقتلون بعضهم".
ودون التدقيق في حقيقة الجهة المخططة لأحداث 11 سبتمبر، أو حقيقة الأهداف
المرسومة من تلك الاحداث، فإن وقائع كبرى ترتبت عن تلك التفجيرات وكان مجالها
وضحاياها العالم الإسلامي، فكانت الحرب على أفغانستان في 2001 ثم الحرب على العراق
في 2003.
ثم بدأ الاشتغال على الحركات الإسلامية، عن طريق "خبراء" وباحثين في
مراكز دراسات خاصة في أمريكا. ويُعد مركز أيباك أبرز المهتمين بالحركات
الإسلامية، وهو لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأمريكية، التي تأسست منذ 1953، وهدفها
دعم العلاقات بين الولايات المتحدة و"إسرائيل". هذا المركز يتعامل مع
شخصيات ومنتديات تجري دراسات حول سياسات الحركات الإسلامية وعلاقاتها بالغرب
و"إسرائيل"، ويبدو من خلال السلوك الأمريكي تجاه الحركات الإسلامية أن
وجهة نظر غالبة انتهت إلى وجود ثلاثة صنوف من هذه الحركات، يعرّف كل صنف منها ويُحدَّد
أسلوبُ التعامل معه.
أولا: الحركة الدعوية
لماذا يتمم اليوم تصنيف حركات الإخوان المسلمين في كل من مصر والأردن ولبنان "حركات إرهابية"؟ ما علاقة هذا "التصنيف" بطوفان الأقصى، وبتداعياته الأمنية والثقافية والأخلاقية والحضارية والإنسانية عالميا؟ ما الذي ينتظر الحركات الإسلامية سواء من الأنظمة العربية الحاكمة أو من أمريكا وحلفائها؟ وما الذي يمكن لتلك الحركات فعله؟
وهي جماعة تقوم بواجب دعوة الناس إلى قيم الإسلام وفرائضه وسنن النبي صلى الله
عليه وسلم، دعوة لا يريد أصحابُها من ورائها سلطة ولا ينقدون فيها حاكما ولا يحثون
الناس على عصيان أو خروج عن "وليّ الأمر"، بل ربما يرون من الواجب
الشرعي مساعدة الحاكم على مجابهة الخارجين عليه سواء بوعظهم أو بالإشارة إليهم.
التعامل مع هذه الجماعة، يكون بمرافقتها والترفق معها وعدم التضييق عليها. ويُعرَفُ
أتباع جماعة الدعوة بكونهم ذوي أسلوب اتصالي جاذب، ولهم جرأة على الاتصال بالناس أينما
كانوا وفي أي وضعية يكونون، وهم أساسا يشتغلون على من يصنفهم المجتمع
"منحرفين" و"غير أسوياء"، يتصلون بهم ويركزون في مخاطبتهم على
عواطفهم وعلى نوازع الخير الكامنة فيهم، ويَذكرون لهم قصصا مؤثرة من سيرة الرسول
صلى الله عليه وسلم ومن مآثر الصحابة رضي الله عنهم ومن مناقب الصالحين رحمهم الله.
ثانيا: الحركة الجهادية
وتشمل مختلف التنظيمات بتسمياتها المتنوعة والتي تلتقي في تبني فكرة
"الفريضة الغائبة"، وهي الجهاد في سبيل الله، وهو جهاد يتجاوز جهاد
النفس وجهاد الكلمة، إلى جهاد الدفع، دفع الظلم سواء كان خارجيا أو داخليا، والهدف
الأسمى هو تحقيق "حاكمية الله" في كل مجالات الحياة، وتحقيق عزة الإسلام
والمسلمين بمجاهدة الأعداء المعتدين.
وهذه الحركات، وِفق المنهج الأمريكي، لا تواجَه إلا بالقوة، تماما كما حصل مع
تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، وقد تابع العالم حجم العنف والدمار الذي أحدثته
القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان.
ثالثا: الحركات المعتدلة
وهي الحركات الإسلامية التي تطور خطابُها وأصبحت تمارس
"البراغماتية"، ولا تعادي الغرب لكونه غربا ولا تجد حرجا في الاستفادة
من تجاربه في التنظيمات وفي طرائق ممارسة العيش؛ بما يحقق الرفاه ويضمن استقرارا
مدنيا من خلال الديمقراطية ومن خلال احترام الحريات وخاصة ما يتعلق
بالمعتقدات وبالمسائل الشخصية.
هذه الحركات لا يمانع الأمريكان في التعامل معها ومحاورتها وحتى مساعدتها على
المشاركة في دمقرطة الشعوب العربية والإسلامية، حيث تمثل الحركات الإسلامية
المعتدلة بمختلف تسمياتها قاعدة بشرية مهمة يمكنها أن تعطي حيوية للممارسة
الديمقراطية خاصة في مجال السياسة حتى إن أوصلتهم الانتخابات إلى السلطة.
والسؤال هو، هل كان الأمريكيون صادقين مع الحركات الإسلامية المعتدلة؟ هل
كانوا فعلا راضين عن فوز الإسلاميين في انتخابات تونس ومصر والمغرب زمن
"الربيع العربي"؟ لماذا لم يدافعوا عن مسار التدرب الديمقراطي حين تعرض
إلى الإلغاء بقوة الدولة في كل من مصر وتونس؟
ولماذا يتمم اليوم تصنيف حركات الإخوان المسلمين في كل من مصر والأردن ولبنان
"حركات
إرهابية"؟ ما علاقة هذا "التصنيف" بطوفان الأقصى،
وبتداعياته الأمنية والثقافية والأخلاقية والحضارية والإنسانية عالميا؟ ما الذي
ينتظر الحركات الإسلامية سواء من الأنظمة العربية الحاكمة أو من أمريكا وحلفائها؟
وما الذي يمكن لتلك الحركات فعله؟
التصنيف أو القتل بالتقسيط
تصنيف الجماعات الإسلامية ليس تصنيفا معرفيا أو عَقدَيا أو حتى سياسيا، إنما
هو عملية فصل لتسهيل عملية الشطب بالتقسيط، حيث تتفرغ آلة "الحرب" كل
مرة لتدمير مجموعة بالطرائق المناسبة، فتظن مجموعات أخرى أنها في مأمن من الحرب،
وتظل تتابع عملية تدمير غيرها دون حتى إدانة لما يحصل ودون وصف ذلك بكونه إجراما
أو إرهابا.
لقد تعرضت جماعات القاعدة وطالبان "والدولة" إلى حرب مدمرة بأعنف
الأسلحة، وتعرض عناصر تلك الجماعات إلى التنكيل والاهانة في سجن أبو غريب
وغوانتنامو، في غفلة من كل العالم بما فيه من حركات إسلامية كانت تظن نفسها في
مأمن لكونها دعوية أو معتدلة مسالمة.
لقد تبين لاحقا، بأن الحرب على "المعتدلين" كانت أعقد حرب لكونها لم
تعتمد وسائل الحرب التقليدية، إنما اعتمدت وسائل ناعمة ولكنها مدمرة، فالحركات
المعتدلة تعتمد على الأفكار ولها ثقة بقدرتها على الإقناع وعلى ربح معارك الأفكار
والقيم، لذلك احتاج الأعداء معها أسلوبا ماكرا جدا. لقد تم فتح مسالك الوصول إلى السلطة
لتلك الحركات المعتدلة، وصول شرعي عن طريق الانتخابات، في أعراس ديمقراطية مشهود
لها، فتحوا لهم مسالك الوصول إلى الحكم وأغروهم بالمساعدات وأغرقوهم في التفاصيل
حتى وصلوا بهم إلى حالة من الدوخان، فانفلتت الخيوط من بين أيديهم، ولم يعرفوا كيف
يتصرفون ولا كيف يواجهون المشاكل الاجتماعية ولا كيف يضبطون منسوب الحرية حتى لا
تكون فوضى.
لقد فشل المعتدلون في ضبط المشهد بما يوائم بين قيم الديمقراطية وبين هيبة
الدولة، لقد أصبحوا في العراء تصيبهم الضربات من كل جانب وتتراكم عليهم التهم حتى
فقدوا نقاوة صورتهم وصاروا في عيون الناس لا فاشلين فقط، بل "مجرمين"
وحلفاء للفاسدين ثم تم شطبهم دون أن يجدوا شعبا ينتصر لهم.
لم يخسر المعتدلون السلطة فقط، فذاك أمر هيّن، إنما خسروا الكثير من نقاء صورتهم ومن تاريخ نضالهم ومن ثقة الجماهير بهم، سواء بسبب ما لحق بهم من تشويه أو بدا منهم من عجز أمام المشاكل الاجتماعية وأمام شراسة الخصوم في تحديهم والنيل منهم
لم يخسر المعتدلون السلطة فقط، فذاك أمر هيّن، إنما خسروا الكثير من نقاء
صورتهم ومن تاريخ نضالهم ومن ثقة الجماهير بهم، سواء بسبب ما لحق بهم من تشويه أو
بدا منهم من عجز أمام المشاكل الاجتماعية وأمام شراسة الخصوم في تحديهم والنيل
منهم، فالناس لا يحبون السلطة العاجزة ولا يبحثون عن مبررات لفشل من انتخبوهم
وعلقوا عليهم آمالا، فليس كافيا أن يكون من في السلطة طيبين ما لم يكونوا قادرين.
هذا الغرب (نقصد دائما الإدارة الأمريكية وقادة الكيان وحلفاءهما من قادة أوروبيين
وغيرهم) لا يهمهم أن تنجح الديمقراطية في المجتمعات التابعة، ولا تعنيهم حرية شعوب
وحقوق إنسان، إنما تعنيهم مصالحهم، ولا ينظرون إلى الشعوب المتخلفة وإلى حكامها إلا
على كونهم عملاء لا شركاء ولا أصدقاء. لقد كان مطلوبا من المعتدلين ألا يكتفوا
بتأكيد انفتاحهم على الغرب ثقافة وحضارة وتشريعات ونمط عيش، إنما كان المطلوب
أساسا هو إعلانهم صراحة وبنسق سريع عن "التطبيع" مع الكيان.
لقد تأكد الغرب بأن المعتدلين غير قادرين على أو غير راغبين في اتخاذ خطوات
واضحة باتجاه "التطبيع"، فليس كافيا اعتماد وزير يهودي ولا استقبال فريق
في رياضة التايكوندو من الكيان، ولا استعمال صيغة "عزيزي بيريز"، ولا
عدم عرض قانون تجريم التطبيع على التصويت في البرلمان؛ كلها إجراءات شكلية لا يسمح
إيقاع التحولات الدولية بتقبلها والصبر على أصحابها، ولم يعد هؤلاء المعتدلون في
قائمة "الأصدقاء"، وليس من منهج هذا الغرب "إعادة تدوير" من
اختُبِر ولم "ينجح" في الاستجابة إلى الإملاءات.
ستستمر الحرب الناعمة على هؤلاء المعتدلين،
والسؤال: لماذا يحارب الغرب المعتدلين؟
إنه يعتبرهم أخطر من المتشددين، فالمتشددون يسهل تجميع أدلة إدانتهم واتهامهم
بالعنف والإرهاب، أما المعتدلون فليس من السهل وصمهم بذلك، بل إنهم في الغالب
يربحون معارك الأفكار والقيم، ولذلك لن يسمح هذا الغرب باستمرار المعتدلين في إنتاج
الأفكار وفي التدرب على ممارسة الحياة المدنية بفلسفتهم العقدية وبروحهم الإيمانية
وبمنظومتهم القيمية، خاصة في زمن انكشف فيه زيف ادعاءات هذا الغرب، إذ لم يستطع
تأكيد حداثته ومدنيته وإنسانيته، لقد كشف "طوفان الأقصى" بشاعة النظام
الرأسمالي المتوحش، فلم يعد هذا النظام قادرا حتى على إقناع شباب الغرب بما يدعيه
من شعارات حول كونية حقوق الإنسان وحول قيم السلام والمحبة. لقد كان طوفان الأقصى
صدمة هزّت المعايير القيمية التقليدية وطرحت أسئلة وجودية جوهرية لا يمتلك هذا
الغرب إجابات لها يقدمها لشبابه الذين صاروا يهتفون لفلسطين.
ولكونه عاجزا عن فهم تلك الصدمة وعن تقديم إجابات مقنعة لشبابه، فإن هذا الغرب
المتعجرف يسارع إلى "وصم" المعتدلين بالإرهاب، متوهّما أنه يمتلك سلطة
المعايير القيمية فيصنف من شاء وكما شاء وكأن الناس لا يحملون عقولا بل أوعية
للتفريغ والملء.
فما هو البديل عن الحركات الإسلامية المعتدلة الذي سيعتمد عليه هذا الغرب في
حروبه القادمة داخل جغرافية العالم العربي والإسلامي؟
x.com/bahriarfaoui1