الكتاب: حقائق التمويلات الدولية لليمن ـ
تاريخ مأساوي من الأمل إلى الخداع (2014 ـ 2015)
الكاتب: عبد القادر محمد أحمد الخراز
الناشر: المركز الديمقراطي العربي برلين
/للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية برلين/ ألمانيا- أكتوبر 2025
عدد الصفحات: 334 صفحة
ـ 1 ـ
يمثل كتاب "حقائق التمويلات الدولية
لليمن: تاريخٌ مأساوي من الأمل إلى الخداع (2015–2024) " للدكتور عبد القادر
محمد أحمد الخراز محاولة جادّة لفهم ملفّ المساعدات الإنسانية، أحد أعقد ملفات
الحرب اليمنية. ففضلا عن
العرض الوصفي للتمويلات، يحاول أن ينفذ إلى عمق مساراتها،
وأن يكشف كيفية تحويل الوعود الأممية بإنقاذ المدنيين إلى منظومةٍ متشابكة من
الاختلالات المالية والإدارية.
منذ الصفحات الأولى، يضبط الكاتب منطلقات
أطروحته بوضوح. فالمليارات التي قُدّمت بعنوان "إغاثة عاجلة" أسّست ـ كما يقول ـ لاقتصادٍ موازٍ تعيد عبره شبكات النفوذ إنتاج سلطتها على حساب الاحتياج
الإنساني الحقيقي بدل تخفيف الكارثة الإنسانية. و"تحولت الموارد الإنسانية
إلى رافعة لاقتصاد موازٍ يغذي مراكز نفوذ على حساب الاحتياج الإنساني" (ص2).
واستنادا إلى تحليل استقصائي توثيقي، يجمع بين البيانات الرسمية المنشورة في مواقع
الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، وبين وثائق أصلية حصل عليها عبر
تحقيقات ميدانية وتقارير رقابية يشدّد على أن ما وثّقه لا يعبّر عن "أخطاء
فردية" أو "هفوات تقنية"، إنه نمط متكامل من الانحرافات المنظمة
(ص3).
ـ 2 ـ
ويسعى الكتاب في جوهره إلى تفكيك مسارات
التمويل بالإجابة عن الأسئلة التالية: من أين تأتي الأموال؟ كيف تُدار؟ أين تُهدر؟
وما طبيعة العلاقات التي تربط الوكالات الأممية بالمنظمات الشريكة؟ فيخصّص حيّزًا
مهمًا لدراسة بعض المؤسسات المحلية التي حوّلت العمل الإنساني إلى أداة سياسية أو
اقتصادية، وغيّبت الهدف الحقيقي للمساعدات وأعادت صياغته بما يخدم مراكز النفوذ
الجديدة.
يمثّل هذا الكتاب واحدًا من أجرأ التحقيقات العربية في ملف التمويلات الدولية داخل مناطق النزاع، لنبرته العالية أولا ولما يجمعه من منهجية دقيقة تعتمد الربط بين البيانات الرقمية والوثائق الأصلية والمراسلات الرسمية خاصّة.
بهذه المقاربة يقدّم الخراز قراءة نقدية
هادئة، حازمة، لواحد من أكثر ملفات الحرب اليمنية تعقيدًا، ويعيد طرح السؤال
المؤلم: كيف يمكن لمشروع إنساني وُلد من رحم المأساة أن يتحوّل إلى آلية تُفاقم
المأساة ذاتها؟
قسّم المؤلف كتابه إلى بابين رئيسيين
يكمّلان بعضهما، ويكشف كلّ واحد منهما زاوية أخرى من صورة الفساد في منظومة
التمويلات الدولية. فرصد في الباب الأول، مسار الأموال التي مُنحت لليمن خلال
سنوات الحرب. وعرض حجم التمويلات وتوزيعها على المنظمات الدولية الكبرى. وعبرها
قدّم نماذج موثّقة لانحرافات مالية بيّنة، موضحًا كيف تُدار الميزانيات داخل
الوكالات وكيف تتسلّل الاختلالات إلى العقود والمشتريات والمشاريع الميدانية.
واستند في ذلك إلى بيانات رسمية وتقارير رقابية، ليبرهن أن المشكلة ليست في قلّة
التمويل، بل في أساليب صرفه وآليات الإشراف عليه.
وذهب الباب الثاني إلى مستوى أكثر حساسية.
فيتناول التمويلات التي مُنحت تحت بعناوين نبيلة مثل "العدالة"
و"السلام" و"الاقتصاد المدني". وركّز على المؤسسات البحثية
والمراكز المحلية التي دخلت بقوة إلى مجال التأثير، واستفادت من التمويل الدولي
لتشكل خطابا سياسيا أو اجتماعيا يخدم أطرافًا محددة. وقدّم في نهاية هذا الباب
مقترحات عملية للمساءلة والإصلاح، داعيًا إلى بناء منظومة رقابة وطنية قادرة على
ضبط الإنفاق وتوجيهه نحو الاحتياج الحقيقي.
ـ 3 ـ
ضمن سعي الباحث إلى تفكيك صورة التمويلات
الدولية التي تدفقت على اليمن منذ 2015، كشف حجمها الهائل الذي تجاوز ثلاثة
وثلاثين مليار دولار، وبيّن أن معظمها لم يمر عبر القنوات الرسمية ولا عبر البنك
المركزي. هذا الخروج المنهجي عن الإطار المصرفي أتاح لمنظمات أممية عديدة أن تتحكم
في مسار التمويل بعيدًا عن الرقابة، حتى غدت المساعدات -ـ بحسب المؤلف ـ منظومة
مالية مغلقة تُدار بمنطق النفوذ أكثر من ارتباطها بفكرة الإغاثة. ورصد استحواذ عشر
منظمات كبرى، بينها برنامج الغذاء العالمي واليونيسف واليونيدو ومنظمة الصحة
العالمية، على نحو ستين في المئة من التمويلات، وأكد حصول الحوثيين بصورة غير
مباشرة، على ما يقارب اثنين في المائة سنويًا عبر ترتيبات غير معلنة.
وما يعزّز هذا التصور عرض المؤلف وثائق عن
تحويل البنك الدولي أكثر من 3.5 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة لليمن إلى برامج
تديرها اليونيسف والـUNOPS بلا إشراف
حكومي. ولم يكتف بتحديد المستفيدين، بل تتبع أثر المال داخل المنظمات نفسها، ليكشف
تضخمًا كبيرًا في الإنفاق التشغيلي. فأكثر من نصف التمويلات استُنزف في لوجستيات
ورواتب بدل أن تصل إلى المحتاجين. وقارن بين البيانات المنشورة في منصة
"التتبع العالمي" وما يجري فعلًا في الميدان، فوجد فجوات واسعة بين
الوعود والحقائق. فتحليل التوزيع القطاعي يُظهر أن مبالغ ضخمة ذهبت إلى بنود غامضة
أو إدارات غير مرتبطة مباشرة بحياة المدنيين، وهو ما يفسّره المؤلف بوصفه إعادة
إنتاج لمنطق فساد بنيوي يصنع أولوياته بعيدًا عن الحاجة الفعلية.
ـ 4 ـ
وعند تفصيله لحقائق هذه التمويلات، فرض
نماذج موثقة لأوجه الانحراف في إدارتها. وقدّر أن ما جرى لا يمثل حوادث فردية
متفرقة، وإنما يعكس نمطًا متكاملًا من التلاعب والاستحواذ. ومن أبرز الأمثلة مشروع
الحوالات النقدية الطارئة التابع لليونيسف، فقد اعتمد سعر صرف متدنٍّ للدولار (250
ريالًا) بينما كان سعر السوق يزيد عن 600 ريال. ففتح هذا الفارق الباب لنهب مئات
الملايين. إلى ذلك قدّم قراءة دقيقة لمشاريع برنامج الغذاء العالمي، فبيّن وجود
تضخيم كبير في تكاليف التخزين والإيجارات والرواتب، وظهور بنود واهية مثل «رسائل
نصية» بمبالغ كبيرة لا تفسير منطقيا لها.
وعرض مشروع السفينة البديلة "نوتيكا"
المتصلة بناقلة صافر، باعتباره نموذجًا على تعاقدات معقّدة حُوّلت فيها المساعدات
الفنية إلى أداة نفوذ لا علاقة لها بسلامة البيئة أو بحماية الموارد. فتقاطعت هذه
الأمثلة مع نقد صريح لتقارير الأمم المتحدة التي تقدّم "صورة تجميلية"
عن تأثير مشاريعها والحال أنّ اليمنيين يعيشون تراجعًا مستمرًا في الخدمات
الأساسية.
وعليه ينتهي إلى دعوة واضحة لإنشاء هيئة
رقابة يمنية مستقلة تعتمد الكشف المالي الكامل، وإلى فتح تحقيق دولي يعيد النظر في
عقود الشراكة الأممية التي تحوّلت - وفق وصفه- إلى غطاء للفساد والابتزاز السياسي.
وبهذا البناء يصل الكتاب إلى خلاصة مؤلمة: إن التمويل الذي حمل وعود الأمل صار في
كثير من الأحيان أداة للخداع وإعادة ترتيب موازين القوة على حساب الإنسان اليمني.
ـ 5 ـ
خاض الباب الثاني في موضوع التمويلات التي
رُفعت تحت شعارات العدالة والسلام والاقتصاد المدني، فكشف طبقة أكثر خفاءً من
النفوذ مقارنة بتمويلات الإغاثة التقليدية. وبيّن أن هذه التمويلات صاغت شبكة
واسعة من المؤسسات المدنية والمراكز البحثية التي تحوّلت، بمرور الوقت، إلى فاعل
سياسي غير معلن. واستعرض خمس مؤسسات يمنية بارزة هي ديب روت ورنين اليمن وزمالة
حكمة ومواطنة ومركز صنعاء ليوضّح كيف تداخلت أدوارها مع هياكل الدولة ومع البعثات
الدبلوماسية، وكيف أنتج هذا التداخل "بيئة خصبة لـلفساد المقنّع".
توقف الخراز عند المفارقات المالية التي
تحيط بعمل هذه المؤسسات. فالبيانات التي تقدّمها للمانحين تختلف عن تلك التي
تعلنها للرأي العام. فمؤسسة "ديب روت" مثلًا أدلت بأرقام متناقضة في
بريطانيا لتقليل الضرائب رغم تلقيها ملايين اليوروهات. استخدمت مؤسسات أخرى
التمويل لتحسين صورتها وصورة المانحين أكثر من تحسين الواقع اليمني. ومع اتساع هذا
النطاق، يتكرّس - كما يرى المؤلف - نوع من الاقتصاد "النخبوي" الذي
يتحدث باسم العدالة والسلام لكنه يعيد إنتاج النفوذ في صورة جديدة، مستفيدًا من
فجوات الرقابة الرسمية ومن حاجة المانحين إلى شركاء محليين يقدمون لهم سردية
منسجمة مع أولوياتهم.
ـ 6 ـ
ومن هذا المستوى انتقل التحليل إلى ما هو
أعقد. فربط بين تمويلات غربية وبين شخصيات حوثية جرى تلميعها في مؤتمرات دولية،
لتبدو جزءًا من "مشاريع حوار" لا علاقة لها بواقع النزاع. من ذلك مؤسستا
مواطنة ومركز صنعاء المرتبطتان بتمويلات "المجتمع المفتوح"، وما نتج عنه
من إدماج شخصيات محسوبة على الحوثيين ـ مثل أحمد الشامي وأمير الدين جحاف ـ في
فعاليات مركزية بجنيف.
لقد أنتج هذا المسار، وفق المؤلف، عملية
"تبييض سياسي" أضعفت الموقف القانوني للحكومة الشرعية، وأسهمت في معارضة
إدراج الجماعة في قوائم الإرهاب، وهو ما يعكس انتقال المال الإنساني من وظيفته
الأصلية إلى أداة ضغط سياسي تُعيد صياغة ميزان القوى داخل اليمن.
وفي ختام الباب، وضع الخراز خطة عملية
للإصلاح تقوم على ست مراحل، تبدأ بتتبّع مسارات الأموال وتصحيح التحويلات، وتمرّ
بمساءلة المراكز المحلية المموّلة، وتنتهي بإعادة توجيه العمل الإنساني نحو
التنمية المستدامة بوصفها أفقًا أخلاقيًا لازمًا. وشدّد على أن العدالة والمساءلة
ليستا شرطين تنظيريّين، بل مفتاحًا لإنقاذ العمل الإنساني من التوظيف السياسي الذي
أفرغه من مضمونه.
يحتاج الجانب القانوني المقارن، خصوصًا ما يتصل بإمكانات المساءلة وفق القانون الدولي الإنساني، إلى مزيد من التعمّق حتى تكتمل الصورة ويُقرأ الفساد في سياقه القانوني لا الأخلاقي والسياسي فقط.
وبهذه الخلاصة، تحوّل الباب الثاني إلى
قراءة نقدية تكشف كيف استُخدمت لافتات السلام لبناء نفوذ جديد، وكيف أصبح الإصلاح
ضرورةً، لا خيارًا، إذا كان للتمويل الدولي أن يستعيد معناه الإنساني الحقيقي.
ـ 7 ـ
يمثّل هذا الكتاب واحدًا من أجرأ التحقيقات
العربية في ملف التمويلات الدولية داخل مناطق النزاع، لنبرته العالية أولا ولما
يجمعه من منهجية دقيقة تعتمد الربط بين البيانات الرقمية والوثائق الأصلية
والمراسلات الرسمية خاصّة. فقد أكسبت هذه البنية التوثيقية العمل قوّة إقناعية.
وقدّم خريطة واضحة لمسار الأموال وكشفت آليات الانحراف داخل المنظمات الأممية
والمراكز المحلية على حدّ سواء. وفككت اقتصاد المساعدات الذي تمدّد على حساب
الدولة اليمنية، وتحوّل إلى منظومة نفوذ تتجاوز السياسة وتعيد تشكيل المجال العام
برمّته
.
لكن هذا النفس الاستقصائي لم يخل من نزعة
اتهامية واضحة تجعل الكتاب أقرب أحيانًا إلى لائحة اتهام شاملة منه إلى تحليل طبقي
دقيق. فبعض الأحكام تتجه إلى تعميم نقد "المنظومة الأممية" دون تمييز
كافٍ بين الممارسات الفردية وبين السياسات المؤسسية التي تختلف من وكالة إلى أخرى.
فضلا عن ذلك يحتاج الجانب القانوني المقارن، خصوصًا ما يتصل بإمكانات المساءلة وفق
القانون الدولي الإنساني، إلى مزيد من التعمّق حتى تكتمل الصورة ويُقرأ الفساد في
سياقه القانوني لا الأخلاقي والسياسي فقط.
ورغم هذه الملاحظات، يبقى الكتاب إضافة
جريئة إلى الأدبيات العربية حول اقتصاد الأزمات. فهو لا يكتفي بتسجيل الانتهاكات
المالية، بل يطرح سؤالًا أخلاقيًا أعمق يطرح في اليمن وفلسطين والسودان..: كيف
يُعاد تشكيل معنى العمل الإنساني حين تنفصل النية عن الرقابة، وحين تُدار
المساعدات بوصفها موردًا للصراع لا وسيلة لإنهائه؟
ومن هذا السؤال وجّه الخراز نداءً إلى
المجتمع الدولي لتصحيح مسار التمويلات وإعادة بنائها على قواعد شفافة، وآخر إلى
اليمنيين لبناء آلية رقابة وطنية تحمي القرار العام من سلطة المانحين ومن نفوذ
الوسطاء المحليين.
ويغلق المؤلف كتابه بنبرة محبطة تلخّص جوهر
أطروحته وعمق الأزمة اليمنية: "ما لم تُربط النية الإنسانية بالرقابة
والمحاسبة، فإن الأمل يتحول إلى خداع، والتمويل إلى وسيلة لإطالة الحرب لا
إنهائها" (ص218).