قضايا وآراء

حين نشعل النار ونحن نظن أننا نطفئها

إبراهيم حمامي
يبقى الوعي هو البوصلة الوحيدة القادرة على التمييز، ويبقى الهدوء أصدق من الضوضاء، وتبقى فلسطين ـ إذا حُفظ مركزها ـ كفيلة بأن تضع كل شيء آخر في مكانه الطبيعي.
يبقى الوعي هو البوصلة الوحيدة القادرة على التمييز، ويبقى الهدوء أصدق من الضوضاء، وتبقى فلسطين ـ إذا حُفظ مركزها ـ كفيلة بأن تضع كل شيء آخر في مكانه الطبيعي.
فى لحظات الارتباك العام، يظهر خطاب يرفع رايات جميلة: تصويب، إصلاح، نزاهة، مواجهة خلل..لكن ما إن تتراكم الأصوات حتى يصبح أصعب ما في المشهد أن تميّز بين الحرص الحقيقى وبين الضوضاء التي تستهلك الوقائع..

هناك مَن يتحرك بدافع الغيرة، نعم، لكن بعض المسارات التي تبدأ بنوايا طيبة تنتهي بنتائج لا تشبه تلك النوايا إطلاقاً!

عندما تتداخل الأصوات، تبدأ إشارات صغيرة بالظهور؛ لا تُقال صراحة، لكنها تُفهم، وتكشف مساراً مختلفاً تماماً عما يرفعه الشعار. ينصرف النظر أحياناً إلى التفاصيل القريبة بطريقة مبالغ فيها، إلى حدّ يبدو معه الخطر الأكبر وكأنه غير موجود أصلاً.. تُفتح ملفات داخلية بينما تقف القضايا المصيرية خلف الباب بلا ذكر، فيشتد الضوء على الجزئى، ويغيب الأساسى.تتسع الهوّة أكثر عندما يتحول كشف العيوب إلى عرض صاخب، يأخذ من حجمه أكثر مما يأخذ من جوهره...يصبح الخطأ مادّة للاستعراض، والنصح يتبدل إلى فضح، والصوت يعلو حتى يتجاوز الفكرة التي يفترض أنه يشرحها.

الإصلاح لا يُقاس بضجيجه، ولا النوايا بعلو الصوت، ولا الغيرة بحدة الطعن. والحكمة هي التي تمنع أن تتحول النوايا الطيبة إلى كسرٍ فى جدار الوطن، ولو حدث، فلا يكون العدو دائماً من يقصد الأذى، بل من لم يدرك أثر ما يفعل.
ومع هذا الضجيج، تُقال أحياناً كلمات أو تُروى روايات غير مكتملة، تكفي كشرارة ليجدها من ينتظر أي شرخ فرصة ذهبية لتكبيره.. وفي لحظات مثل هذه، يتضح أن المشكلة ليست بالضرورة سوء نية، بل سوء تقدير.. ليس مطلوباً من أحد أن يكون عميلاً كى يخدم خصمه يكفى أحياناً أن يفتقد الحكمة!

وفى الطريق نفسه، تنشأ معارك جانبية غريبة التوقيت..تطرح قضايا فرعية، وتُعاد تدوير سجالات بلا وزن، وتتحول تفاصيل صغيرة إلى ساحات استنزاف..وفى ظل هذا الازدحام، تُهمل القضية الأصلية لأنها لم تعد الأعلى صوتاً.ويأتى الغضب ليقود المشهد بدلاً من العقل...
تسبق الانفعالات الحساب..

ويحل رد الفعل محل التروّى، يصبح الهدم عادة، والنبرة العالية أهم من الفكرة، وكأن الهدف لم يعد الإصلاح، بل التفريغ. ومع مرور الوقت، تبدأ الخلافات الشخصية فى ابتلاع أصل القضية. يتحول النقاش إلى تراشق، وتتبدل الاختلافات الفكرية إلى خصومات، ويمّحي الحد الفاصل بين الموقف والمزاج. وتضيع الغاية وسط مناكفات لا تنتهى.

فى هذا المناخ، يبدأ الشك في التمدد حتى يصل إلى الطيبين قبل المسيئين، تُصبح النوايا الحسنة نفسها مطالبة بالدفاع عن وجودها، تنشأ ضبابية تهز الثقة العامة، لا لأنها مبررة، بل لأن الضوضاء جعلت كل شيء يبدو مشابهاً لكل شيء.

ومع هذا التآكل، تتسلل ملامح لم يكن يُفترض لها أن تظهر: نبرة مناطقية، اصطفافات ضيقة، إيحاءات تعيد رسم الانتماء بأسلوب يُقَزّم المشترك الوطني لصالح تفاصيل لا وزن لها.وتتلوّن الصورة أكثر عندما يتداخل الجمال بالقبيح، فترتفع الأمثلة السلبية إلى الواجهة بينما تُغمر النماذج الصادقة. يختلط المعيار، ويصعب التمييز بين من يبني ومن يهدم.

مع الوقت، يُقدَّم للجمهور ما يشعل الغضب أكثر مما يوسّع الفهم، يُصاغ الخطاب بطريقة تسهّل اللعن وتدفع إلى التعميم، وتحوّل الساحة إلى موجة واحدة من التجريح، يصبح الانفعال سريعاً، والفهم بطيئاً. وتزداد الفجوة حين يتضخم الشكل على حساب الجوهر.عناوين قوية، جُمل متلاحقة، إيقاع صاخب، لكن العمق الحقيقي يتراجع، ويبدو البناء هشاً مهما كان مظهره كبيراً.

مع هذا التآكل، تتسلل ملامح لم يكن يُفترض لها أن تظهر: نبرة مناطقية، اصطفافات ضيقة، إيحاءات تعيد رسم الانتماء بأسلوب يُقَزّم المشترك الوطني لصالح تفاصيل لا وزن لها.وتتلوّن الصورة أكثر عندما يتداخل الجمال بالقبيح، فترتفع الأمثلة السلبية إلى الواجهة بينما تُغمر النماذج الصادقة. يختلط المعيار، ويصعب التمييز بين من يبني ومن يهدم.
وحين تتراكم هذه الطبقات، تتراجع فلسطين نفسها ـ كمعنى ومركز وقضية ـ خلف سجالات جانبية لا تُسمن ولا تُغنى، تُذكر عرضاً، أو تُستعمل رمزاً، بينما يفقد الجوهر مكانه في قلب الخطاب.

عندما تتراكم هذه الظواهر، يتغير شكل الساحة: يختلط الجميل بالقبيح، يضيع المعيار، يضعف النسيج الاجتماعى، وتصبح الممارسات التى تبدأ باسم الإصلاح سبباً لتهشيم الثقة، لا لترميمها. وحين يرتبك الوعي، يصبح الفرق بين من يخدم الوطن، ومن يثقل كاهله دون قصد، فرقاً دقيقاً للغاية.

فالإصلاح لا يُقاس بضجيجه، ولا النوايا بعلو الصوت، ولا الغيرة بحدة الطعن. والحكمة هي التي تمنع أن تتحول النوايا الطيبة إلى كسرٍ فى جدار الوطن، ولو حدث، فلا يكون العدو دائماً من يقصد الأذى، بل من لم يدرك أثر ما يفعل.

وفى النهاية، يبقى الوعي هو البوصلة الوحيدة القادرة على التمييز، ويبقى الهدوء أصدق من الضوضاء، وتبقى فلسطين ـ إذا حُفظ مركزها ـ كفيلة بأن تضع كل شيء آخر في مكانه الطبيعي.
التعليقات (0)

خبر عاجل