الكتاب: غزة وقطاعها تحت الإدارة المصرية،
1949-1956م
الكاتب: محمود عبد الحي محمود حسن الديب.
الناشر: دار حروف الفارس للنشر والتوزيع،
2025م
عملت الإدارة المصرية خلال مرحلة إدارتها
الأولى لقطاع غزة خلال الفترة 1949-1956م، على المحافظة على الهوية والكيانية
الفلسطينية في وجه محاولات التهجير الشعب الفلسطيني، وتذويب هويتهم في مرحلة من
أشد المراحل صعوبة في تاريخ القضية الفلسطينية، بعد وقوع حرب عام 1948م، وما أسفر
عنها من النكبة وتشتت الشعب الفلسطيني بين مخيمات اللجوء داخل وخارج فلسطين، وتبدا الدراسة من توقيع اتفاقات الهدنة، وتقليص
مساحة قطاع غزة من 5.500 إلى نحو 365 كيلو متر مربع، وتنتهي بالاحتلال الإسرائيلي
عام 1956م، ورغبة من مصر في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي من قلب فلسطين، عندما
أصبح للقطاع كيان ذاتي بعد أن كان جزءاً من أرض فلسطين، يتعايش معها وتتعايش معه،
سعت خلالها مصر على النهوض بهذا الأقليم في شتى المجالات اقتصادياً واجتماعياً
وسياسياً، وتخفيف الآلام عن جموع اللاجئين الذين لجئوا إليه من مدن فلسطين بعد حرب
عام 1948م.
زاد موقع غزة أهمية مع قيام إنجلترا بإنشاء
خط السكة الحديدية، الذي ربط القنطرة بحيفا وخط سكة حديد يربط بين القاهرة وغزة،
لخدمة أغراض العسكرية، أثناء الحرب العالمية الأولى 1914-1918م، لكن للخط أهميته
الاقتصادية البالغة، فكان لا بد من إحكام القبضة على مصر باحتلال قطاع غزة من
الانجليز، الذي استغرق ثلاث معارك حربية خاضتها الدولة العثمانية ضد الحامية
الإنجليزية المتقدمة من العريش بقيادة الجنرال اللنبي، الذي منح صلاحيات واسعة، لا
للاستيلاء على غزة، بل على فلسطين بأسرها، حتى تمكن من احتلالها في الأول من نوفمبر عام 1917م، ووضعت فلسطين
بأكملها تحت الإدارة العسكرية البريطانية في ديسمبر حتى يونيه 1920م، حيث سلمت
فلسطين لإدارة الانتداب البريطاني بموجب مؤتمر سان ريمو على أساس تصريح بلفور،
واكتسب الانتداب الولاية القانونية على فلسطين في سبتمبر 1923م، بعد عقد معاهدة
لوزان مع الدولة العثمانية التي تنازلت فيها عن جميع ما كان تحت سيطرتها، بما فيها
فلسطين التي خرجت مثقلة بالأعباء، والتدمير.
النظام الإداري والمالي في قطاع غزة
شهد اللواء الجنوبي من فلسطين " قطاع
غزة " ما بين دخول القوات المصرية إلى فلسطين 15 مايو عام 1948م، وتوقيع
اتفاقية رودس 24 فبراير 1949م، حوادث سياسية وعسكرية مهمة كان لها أثرها الحاسم
ليس قطاع غزة بشكله الحالي، بل على مجمل العلاقات السياسية مع مصر ودولة الاحتلال
الإسرائيلي.
لم يكن الشعب الفلسطيني معارضاً للإدارة المصرية، إذ اعتقد الفلسطينيون بأن الإدارة المصرية في القطاع ما هي إلا وجود مؤقت لحين حلول الفرصة الملائمة لاستعادة كامل فلسطين وإقامة سلطة عربية فلسطينية فيها، وعلى ذلك فقد نظروا إلى الوجود المصري في القطاع على أنه حماية في وجه التوسع الإسرائيلي، خاصة بعد الهجمات والاعتداءات الإسرائيلية على القطاع، ولتطوير القطاع، وحشد قواه وامكاناته ليوم المعركة الفاصلة مع إسرائيل
يقول الديب: "إن الهزيمة العسكرية
للجيش المصري في قطاع الجنوب، والحصار السياسي والمالي لقوات المتطوعين
الفلسطينيين والمصريين كانت أساساً بسبب السياسة التي قادت الحرب فلم يخرج الهدف
السياسي للحرب الرسمية عام 1948م بالنسبة للدول التي كانت تسير في الفلك البريطاني
عن اطار السياسة البريطانية تجاه فلسطين وتنفيذ قرار التقسيم؛ فالملك عبد الله
اتفق مع بريطانيا والقيادة الصهيونية على أن يتسلم الضفة الغربية لضمها إلى امارة
شرق الأردن، ونفس السياسة اتخذت في القطاع الجنوبي فلم تتخذ الحكومة المصرية،
وقتذاك الخطوات لتقوية جيشها بل شلت قدراته وشملت هذه السياسة المتطوعين المصريين
وقوات الجهاد المقدس..."
ومع تضارب
المصالح الأردنية مع المصرية تحركت الأردن في ثلاثة اتجاهات الأول: إفشال فاعلية
الجيش المصري، الثاني: يتعلق بالمتطوعين المصريين من خلال إحداث مزيد من البلبلة
السياسة في مصر، الثالث: استغلال قيام حكومة عموم فلسطين كوسيلة للتهرب من
المسؤولية القومية بإلقائها على عاتق الحكومة التي قامت في غزة؛ أي فوق الجزء الذي
كان يقع تحت نفوذ الإدارة المصرية وقتذاك (ص37).
شجعت الحكومة المصرية، إقامة حكومة عموم
فلسطين لسببين أولهما: استعمال تلك الحكومة كورقة ضغط ضد الملك عبد الله الذي نوي
ضم فلسطين الوسطى إلى مملكته، وثانيهما: استغلال تلك الحكومة التي أنشئت فوق جزء
يقع تحت الإدارة المصرية حينذاك كوسيلة للمشاركة في المسؤولية، ولكن الأردن لم
تعترف بتلك الحكومة واعتبرتها أنها لا تمثل أحداً؛ إلا المفتي أمين الحسيني
والهيئة العربية العليا فقط، لكنها بقيت حكومة ضعيفة غير قادرة على تكوين جيش لها،
وليس لها أي موارد مالية، بقيت جامعة الدول العربية تدفع مرتبات قوات الجهاد
المقدس حتى تم حلها قبل اتفاقية رودس عام 1949م، وألحقت تلك القوات بالجيش المصري
العامل في قطاع غزة بدعم من جامعة الدول العربية التي عملت على تصفية الوجود
السياسي والعسكري الفلسطيني المستقل، وبذلك تم تصفية حكومة عموم فلسطين سياسياً
وعسكريا ورحلت الحكومة والهيئة العربية العليا إلى القاهرة؛ لتصبح الإدارة المصرية
بعد اتفاق الهدنة المسؤولة شكلاً وموضوعاً عن غزة، الذي ظهر فعليا بقرار وزير
الحربية المصري صلاحيات الحاكم العام لتبدأ المرحلة الأولى من الحكم المصري لقطاع
غزة ما بين 1949-حتى العدوان الثلاثي عام 1956م، أما المرحلة الثانية فبدأت من
1957- 1967م.
على الرغم من سيطرة الإدارة المصرية على غزة
كانت شاملة ومطبقة، إلا أن السياسة المصرية تحددت في البداية على أساس خصوصية غزة
الفلسطينية مستقلة عن السيادة المصرية، فكان الحاكم الإداري قائماً على مبدأ
الاستمرارية في تطبيق القوانين السارية، والمحافظة على البنية الإدارية المحدودة
القائمة، خاصة فيما يتعلق بمؤسسات الحكم المحلي وتعديلها وتغييرها عندما اقتضت
الحاجة بأوامر إدارية من الحاكم العام، ويلاحظ أنه عندما أصدرت قوانين جديدة، كانت
محدودة، روعي فيها مسألة شرعيتها أنها تصدر عن الحكومة المصرية باسم الشعب الفلسطيني"
أي أنها حالة جديدة، فهي فليست محتلة للقطاع أو خاضعاً لها بصورة الانتداب أو
الوصاية مروراً بما عرف بأنظمة المدن الحرة إلى حق تقرير المصير، أي أنه إقليم
يمثل وحدات سياسية ناقصة، وهو وضع لا يستقيم مع أحوال القطاع في ظل الإدارة
المصرية".
موقف القوى السياسية من الإدارة المصرية:
أبقت الإدارة المصرية على الذاتية الخاصة
لقطاع غزة حتى في مجال النواحي الاقتصادية، ورغم افتقار القطاع لإعالة نفسه زراعيا
واقتصادياً، فقد عملت الإدارة المصرية على توفير احتياجات المقيمين فيه بشتى الطرق،
وعلى أن يكون ذاتيا، لذلك اعتبرت العلاقات التجارية بين القطاع والخارج تجارة
خارجية، نظمت لها تراخيص الاستيراد والتصدير ورقابة جمركية ورسوم نظم مستقل تماماً
عن مصر، تتفق وظروف القطاع ككيان فلسطيني.
لم يكن الشعب الفلسطيني معارضاً للإدارة
المصرية، إذ اعتقد الفلسطينيون بأن الإدارة المصرية في القطاع ما هي إلا وجود مؤقت
لحين حلول الفرصة الملائمة لاستعادة كامل فلسطين وإقامة سلطة عربية فلسطينية فيها،
وعلى ذلك فقد نظروا إلى الوجود المصري في القطاع على أنه حماية في وجه التوسع
الإسرائيلي، خاصة بعد الهجمات والاعتداءات الإسرائيلية على القطاع، ولتطوير
القطاع، وحشد قواه وامكاناته ليوم المعركة الفاصلة مع إسرائيل(ص48).
ارتبطت الحركة السياسية في قطاع غزة تحت
الإدارة المصرية بتوجهات ذات أفق وطني قومي، ولهذا لم تركز في مطالبها من الإدارة
المصرية تحسين الأوضاع المعيشية، لأن ذلك اعتبر آنذاك مؤشراً على نقص الإيمان في
العودة إلى فلسطين، أو على الأقل بجعلها بعيدة، وإنما تركزت مطالبها من الإدارة
المصرية على التسليح، والتعبئة لمواجهة الغارات الإسرائيلية المتكررة، وعلى معارضة
مشروعات التدويل، وتوطين اللاجئين.
أكد الكاتب على ثلاث حقائق:
ـ أن معظم أبناء القطاع لم يقبلوا بالسيادة
المصرية على القطاع كوضع نهائي، ولهذا لم يطلبوا الوحدة مع مصر فإنهم رغبوا في
الوجود المصري في القطاع، ولم يطالبوا بجلاء القوات المصرية منه وتقرير مصيرهم
بإقامة دولة أو وحدة سياسة خاصة بهم في القطاع.
ـ تعاون معظم أبناء القطاع مع الإدارة
المصرية وقبلوا بالمؤسسات المحلية التشريعية والتنفيذية والقضائية التي أوجدتها
مصر.
ـ أن ممارسة مصر لجميع مظاهر السيادة في
القطاع من الناحية الفعلية ما هو إلا مظهر من مظاهر حق الدولة صاحبة الإشراف في
تأمين وسائلها وقواتها اللازمة لتحقيق الغاية التي تقرر من أجل إشرافها على القطاع.
الجنيه الفلسطيني:
وافقت الدول العربية على استعمال الجنيه
الورقي الفلسطيني في المناطق التي احتلتها الجيوش العربية في فلسطين بناء على طلب
وزارة المالية المصرية في 29 مايو 1948م، خاصة بعد قرار المملكة المصرية باستعمال
العملة الفلسطينية في المناطق التي احتلتها الجيوش المصرية، وظلت العملة
الفلسطينية متداولة حتى 23 ابريل عام 1950م، باعتماد النقد المصري وانهاء العمل
بالنقد الفلسطيني بتاريخ 9 يونيه 1951م.
اللاجئون:
ينقسم السكان الفلسطينيون في قطاع غزة إلى
فئتين، السكان الأصليون تشرف عليهم الإدارة المصرية، واللاجئون الخاضعون لإشراف
وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، التي باشرت عملها 1950م، ووضعت
خلال فترة الحكم المصري للقطاع أكثر من عشرة مشاريع لتوطين اللاجئين أهم مشروع
سيناء عام 1953م، وهو المشروع الذي عقدته وكالة الغوث مع الحكومة المصرية على أن تقدم مصر فيه
500.000فدان من الأراضي البور الواقعة في الشمال الغربي من صحراء سيناء، وتوفير
سبل العيش إلا أن الحكومة المصرية رأت أن الموارد المائية المتوفرة لا تسمح بتوفير
كميات كافية، لذلك لا يمكن تنفيذ المشروع ؛ لكن الحكومة المصرية كانت معنية بتهدئة
الأوضاع السياسة المتبعة إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، كونها منشغلة بقضية
الجلاء الإنجليزي من مصر ولا حاجة لإثارة قضايا أخرى، في ظل تزايد الاعتداءات
الإسرائيلية على قطاع غزة ومصر، وحرصاً على عدم إذابة القضية الفلسطينية وفتح باب
توطين اللاجئين الفلسطينيين على مصرعيه (ص127).
تولت وزارة المعارف المصرية بحث حالة
التعليم في فلسطين، وحرصت على افتتاح العام الدراسي بموعده في 21 سبتمبر عام
1948م، دون أي تأخير، ومع توقيع هدنة رودس 1949م، أشرفت على المعاهد والتفتيش على
المدراس بما فيها مدارس اللاجئين، وفصول الخيام التي أنشأتها وكالة الغوث داخل
معسكرات اللاجئين ومكافحة الامية والتوجيه المهني ومنعت الوكالة والكويكرز من
التدخل في المناهج التعليمية عبر تقديمها المساعدات المالية والعينية للطلاب
والمدرسين في 22 مدرسة عام 1949م .
الاعتداءات الإسرائيلية:
مثل الاعتداء على قطاع غزة اعتداء سافر على
السيادة المصرية، وعدت دولة الاحتلال وجود الإدارة المصرية في القطاع خطر داهم،
يوقف هاجس التوسع الإسرائيلي في السيطرة على المزيد من الأراضي الفلسطينية، في ظل
المساعي المصري لإيجاد حلف عربي دفاعي أمام التوغل الإسرائيلي، تكلل ذلك بعقد صفقة
الأسلحة التشيكية للمحافظة على أمنها القومي العربي، كما عملت جامعة الدول العربية
على اتباع أسلوب مغاير لمواجهة التمدد الإسرائيلي عبر المقاطعة الاقتصادية العربية
لإضعاف الاقتصاد الإسرائيلي، وحماية الاقتصاد العربي من أخطار التوسع الصهيوني
والتصدي لمصادر التمويل الصهيوني.
رأت مصر ضرورة إغلاق قناة السويس في وجه
الملاحة فأصدرت الأمر العسكري رقم 5 لسنة 1948م بخضوع جميع السفن للتفتيش في
الإسكندرية، بورسعيد، السويس، وعندما تولى حزب الوفد رئاسة الحكومة المصرية عام
1950م، أيد الملك فاروق الحكومة في إغلاق قناة السويس في وجه السفن المحملة بترول
أو البضائع المهربة إلى إسرائيل، الأمر الذي احتجت عليه الولايات المتحدة
الأمريكية وبريطانيا ودول أخرى، وطالبت بمنع اغلاق قناة السويس أثناء الحرب، وقدمت
إسرائيل شكوى لمجلس الأمن اتهمت فيها مصر مخالفة أحكام القانون الدولي والاخلال
بالمواثيق الدولية، طبقت مصر نظام التفتيش على كل السفن المارة بقناة السويس تحسبا
لمرور سفن بريطانية إليها بطرق ملتوية ووصولها لمعامل التكرير في حيفا، وتبع ذلك
قيود أخرى عام 1954م على جميع السفن المارة بقناة السويس المتجهة إلى خليج العقبة
بقصد منع البضائع من الوصول إلى ايلات، ميناء إسرائيل على خليج العقبة المقابل
لميناء العقبة الأردني(ص169).
افتعلت إسرائيل أزمة احتجاز سفينتها
"بات جليم" في 28 سبتمبر عام 1954م، أثناء محاولة عبور قناة السويس وكسر
الحظر المصري المستخدم ضدها، واعتقلت السلطات المصرية طاقم بحارتها للتحقيق في
اطلاق النار على مراكب صيد مصرية، استغلت إسرائيل ذلك وقدمت شكوى لمجلس الأمن
الدولي، مستندة في ذلك على عدة اعتبارات:
ـ أن الهدنة تنهي حالة الحرب.
ـ أن تفتيش السفن عمل غير مشروع.
ـ أن القيود التي فرضتها مصر على الملاحة هي
خرق للقانون الدولي.
رفضت مصر كل الادعاءات الإسرائيلية موضحة أن
الهدنة مرحلة انتقالية، ولا تمثل سلاماً دائماً مع إسرائيل، فهي توقف القتال مؤقتا
ولا تمثل معاهدات صلح بين الجانبين، وما عدا ذلك من حقوق وواجبات الدولتين
المتحاربتين فيما بينهما لا يعتريها أي تغيير لقيام الهدنة، والدول العربية لم
توقع معاهدة صلح مع إسرائيل حتى تدعي أن حالة الحرب انتهت من الناحية القانونية.
"إننا شعب لا ينسى الإساءة، وأن الإساءة تزيدناً عزماً، وتصميماً وأننا لم ننهزم في عام 1948مـ، وأن إسرائيل لم تنتصر عام 1948م، إنما كان الانتصار لمجلس الأمن وحلفاء إسرائيل الذين ناصروهاـ وعملوا على إزالة القومية العربية"
استدعى محمد فوزي سفراء 6 دول من الدول
الأعضاء في مجلس الأمن ليبلغهم أن مصر لم تسمح بمرور سفن إسرائيلية قائلاً: أن مصر
لن تسمح بمرور سفن دولة تأمرت لنسف المنشآت المصرية، وأوفدت إلينا أفواجاً من
الجواسيس والمخربين"، وقصد بذلك تخريب المنشآت الأمريكية في مصر فيما عرف
بفضيحة لافون، وكان هدفه الرد على الحملة الإسرائيلية في الولايات
المتحدة"(ص198)، كما منعت مصر سفينة أرجو بيك البريطانية من المرور بخليج
العقبة، حيث كانت تحمل مهربات لإسرائيل عام 1955م.
زادت في تلك الفترة الاعتداءات الإسرائيلية
على قطاع غزة في الوقت الذي اعتبرت فيه إسرائيل الحدود الشرقية هي الحدود
الإسرائيلي المصرية، وأنها منطقة منزوعة السلاح داخل حدود إسرائيل حيث كانت محتلة
بقوات اسرائيلية أثناء توقيع الهدنة، الأمر الذي رفضته مصر كونها حدود مصرية
فلسطينية حتى الحل النهائي للقضية الفلسطينية، لذلك صنفت منطقة العوجا كمنطقة
انتفاع لإبعاد القوات عن بعضها، وعدم حدوث احتكاك في تلك المنطقة، وهذه القيود
المفروضة في الجزء الواقع غرب منطقة العوجا لعدم إعطاء المصريين قوة المبادأة
للوثوب على العوجا، وهي المنطقة الواقعة تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة، ووصفت
بالمنطقة المحايدة وفق قرار التقسيم لعام 1947م.
هجوم السهم الأسود:
شنت إسرائيل هجوما همجياً على قطاع غزة في
28فبراير عام 1955م، قاده أرئيل شارون مستهدفاً مركز قيادة الجيش المصري ودمرته
حينما اجتاحت قوة من الجيش خطوط الهدنة متسلسلة، عملت خلالها على نسف محطة المياه،
ومهاجمة بيت مدير محطة سكة حديد غزة، ومن ثم تم اقتحام خيام المعسكر المصري، وقتل
عدد من الجنود المصري، وأحدثوا تفجيرات الألغام بالمكان، وأسفر ذلك عن استشهاد
أكثر من 39 شهيداً و33 جريحاً.
وجه جمال عبد الناصر إنذارا ً إلى إسرائيل،
وأعلن أن الجيش المصري قادر على رد العدوان بالعدوان، قائلاً: "إننا شعب لا
ينسى الإساءة، وأن الإساءة تزيدناً عزماً، وتصميماً وأننا لم ننهزم في عام 1948مـ،
وأن إسرائيل لم تنتصر عام 1948م، إنما كان الانتصار لمجلس الأمن وحلفاء إسرائيل
الذين ناصروهاـ وعملوا على إزالة القومية العربية"، ومضى يقول إن الجيش
المصري لم يحارب مطلقاً، وإنما كان ضحية للغدر والخيانة والهدنة(ص216).
اتخذت مصر إزاء تدهور الأوضاع عدة قرارات:
ـ ضرورة شراء الأسلحة من أي مواجهة التهديد
والعدوان الإسرائيلي حماية للوطن وكرامة الجيش.
ـ السماح للفدائيين بالانطلاق من قطاع غزة
إلى الداخل الفلسطيني، ولكن تحت القيادة المصرية وتوجيهها.
عد موشيه شاريت" أن الاستيلاء على غزة
لن يكون حلاً لأي مشكلة أمنية, لأنه حتى لو فر نصف اللاجئين القاطنين بغزة أو
أرغموا على الفرار إلى هضاب الخليل، فإن بغضهم الكامن لإسرائيل سوف يزداد
اشتعالاً" كانت النتيجة أن رفض مجلس الوزراء هذه الخطة التي قدمها بن غوريون
بأغلبية 9 أصوات مقابل 4 أصوات، فكانت هناك صعوبات نحو ضم غزة إلى إسرائيل لوجود
نحو 250000 وفلسطيني، هذا العدد إذا ضم إلى إسرائيل تزداد نسبة العرب إلى 25% من
مجموع السكان، وهي نسبة تشكل خطراً على المجتمع اليهودي من الناحية السياسية
والاجتماعية، وفي حال اجبارهم على الخروج من المنطقة إلى مصر، سيثير ذلك مشكلة
تؤدي إلى تأليب الرأي العالمي ضد اسرائيل، بينما النقاش الدائر في إسرائيل حول
احتلال غزة والإبقاء على سكانها العرب بعد طرد العناصر النشطة المعادية لإسرائيل،
فاجأت مصر العالم بعقدها صفقة السلاح التشيكية فاتجهت الأنظار بشكل مركز على
اختلال التوزان العسكري بين مصر وإسرائيل (ًص221).
تحسبا لوقوع المزيد من الاعتداءات
الإسرائيلية على قطاع غزة، شرعت السلطات المصرية في تدريب بعض الكتائب الفلسطينية
في منطقة غزة، بناء على تكرار الهيئة العربية العليا لفلسطين اقتراحها عمل دفاع
إقليمي عن سيناء ومنطقة غزة تكون نواته القوات الفلسطينية المدربة والمسلحة
بالاشتراك مع قوات تدرب من أهالي سيناء، وبالفعل تم تجنيد لواء كامل بقرابة ثلاثة
آلاف جندي فلسطيني.
يعترف الكاتب بأن تجربة العمل الفدائي التي
امتدت 1955-1956م، من المحطات البارزة في تاريخ قطاع غزة تحت الإدارة المصرية،
كوها شكلت اندفاعة جديدة في مستوى الصراع مع إسرائيل، تحمل فيها قطاع غزة وزر
القضية الفلسطينية بانطلاق الفدائيين وشن غارات على إسرائيل، خاصة بعد تشكيل مصطفى
حافظ ما عرف بالكتيبة 141 تدريبهم عسكرياً وكان لها نشاط ملحوظ في رد الاعتداءات
الإسرائيلية عن غزة وخانيونس، إلا أنه أوقف نشاط الفدائيين نتيجة الترتيبات
السياسية التي اتفق عليها بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي على مصر عام 1956م (
ص242).
خلال العدوان الثلاثي على مصر ساندت
بريطانيا وفرنسا إسرائيل في عدوانها، واشتركت قوات بريطانية في الهجوم على رفح،
وهاجم الاسطول البريطاني مدينة غزة 1 نوفمبر عام 1956م، وهدد بتدمير المدينة
بأكملها إذا لم تستلم، لذا كانت القوات التي احتلت غزة قواتاً بريطانية فرنسية،
ولم يصل الجيش الإسرائيلي إلى غزة إلا بعد مرور خمس ساعات من احتلال المدينة من
قبل الفرنسيين والبريطانيين، حيث انسحبت تلك القوات على أثر وصول القوات
الإسرائيلية، وتمكنت إسرائيل من احكام قبضتها على قطاع غزة، الذي أمنع في القتل
والتدمير والتهجير، وقامت القوات الإسرائيلية بطرد المراقبين الدوليين التابعين
لهيئة الأمم المتحدة من قطاع غزة، لتثبيت حكمها العسكري على القطاع واتسمت سياستها
باتجاهين أولهما:
أولاً ـ احداث تغييرات اقتصادية ومالية
وسياسية تتصل بالنظام الإداري الذي كان يخضع له سكان القطاع بالإضافة الى محاولات
إرهاب السكان والتأثير عليهم عبر المذابح الوحشية.
ثانياً ـ تدمير طرق الصحراء للتباطؤ في
الانسحاب، واحداث مذابح في خانيونس ورفح وغزة وتجريد قطاع غزة من كل روابطه مع
مصر، بإلغاء المنهاج الدراسية، وكافة الخدمات الحياتية المصرية في قطاع غزة من
بريد وعملة، إلا أن ذلك لم يستمر طويلاً مع الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في
مارس 1957م، بالاتفاق مع الأمم المتحدة بعد تعنت استمر لشهور من رفض العودة لخطوط
هدنة عام 1949م، ووجود قوة من قوات الطوارئ الدولية في قطاع غزة للمحافظة على
الهدوء.
إذا كانت إسرائيل فشلت في ضم غزة اليها أو
تدويلها فإن هذا الفشل راجع للصمود المصري وموقف القوى المؤيدة له، ولكن إسرائيل
مع الاتفاق على الانسحاب اسقطت الحظر المصري على الملاحة الإسرائيلية في خليج
العقبة، كما أن وجود قوات الطوارئ على خط الهدنة كان حائلاً بدرجة كبيرة لمنع
العمليات الفدائية ضدها، كحل وسط لتطورات الموقف بين مصر وإسرائيل، أما الإدارة
المصرية فقد عادت مرة أخرى الى قطاع غزة، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ القطاع، من
مراحل الارتباط المصري بالقضية الفلسطينية، توجس عالي المستوى من إسرائيل.
أكد الكاتب في نهاية دراسته أن الإدارة
المصرية أوجدت كياناً ذاتيا فلسطينياً بالقطاع، قدر استطاعتها ووضعت بذلك نظاماً
أدارياً وماليا لإدارة الخدمات بالقطاع فأسهمت بجهود في المجلين الاقتصادي
والاجتماعي فضلاً عن حماية القطاع الغارات الإسرائيلية وتكوين فرق فدائية فلسطينية
لتساهم في الدفاع عن أرضها لا سيما بعد عدوان 1955م.
تحملت مصر كثيراً من الأعباء من إدارتها
للقطاع، وأصبحت العلاقات المصرية مع إسرائيل، علاقات مباشرة لسيطرة الإدارة
المصرية على قطاع غزة، وتحملت المسؤولية العسكرية والمسؤوليات الأخرى الأمنية
والاقتصادية والاجتماعية، نظراً لظروف أرض القطاع المجاورة لإسرائيل ومصر، فالأمن
المصري ارتبط بالأمن في القطاع، والاعتداء على القطاع يعني اعتداء على السيادة
المصرية " تشابكت العلاقات وأصبحت علاقات مباشرة، وصارت قوة مصر مصدر خطر
للكيان الإسرائيلي باعتبارها دولة جوار لإسرائيل بشكل واضح وحائلاً دون تحقيق
الحلم الإسرائيلي في التوسع على الأرض الفلسطينية".