الكتاب: نكبتان فلسطين 1948 ـ غزة 2023
الكاتب: خورخي راموس تولوسا ـ ترجمة د. محمد مصطفى
الناشر: دار كنعان للدراسات والنشر،دمشق،الطبعة الأولى 2024،(عدد الصفحات 259 من القطع المتوسط)
في هذا الجزء الثاني والأخير من القراءة التي يقدمها الباحث والكاتب
التونسي توفيق المديني لـ"عربي21"، في كتاب "نكبتان فلسطين 1948 ـ غزة
2023" لخورخي راموس تولوسا، نغوص في أعماق التاريخ الفلسطيني المعاصر من
منظور استعماري وتحليلي معمق.
يقدم خورخي راموس تولوسا في كتابه "نكبتان فلسطين 1948 ـ غزة
2023" قراءة دقيقة لمسار الاستعمار الصهيوني الذي بدأ بالنكبة عام 1948،
وامتد إلى النكسة عام 1967، وصولاً إلى الإبادة الجماعية المتلفزة في غزة خريف
2023.
يكشف الكتاب كيف أن الاستعمار الإسرائيلي لم يقتصر على السيطرة
العسكرية، بل امتد إلى التطهير العرقي والفصل العنصري المنهجي، في ظل حصانة شبه
مطلقة من العقاب، وكيف أصبح الشعب الفلسطيني مضطراً لمواصلة كفاحه اليومي
والمقاومة بكل الوسائل الممكنة لاستعادة أرضه وكرامته.
هذه القراءة تكشف أيضاً عمق التواطؤ الدولي والإقليمي، وتضع الأحداث
الأخيرة في سياق استراتيجي يربط بين التاريخ الطويل للصراع والظروف الجيوسياسية
الراهنة، مؤكدة أن مسار فلسطين هو مسار مقاومة مستمرة، وأن الإبادة الجماعية
الحديثة ليست سوى حلقة جديدة في مسلسل طويل من الصراع الاستعماري.
حرب الأيام الستة والاحتلال العسكري الإسرائيلي حزيران/يونيو1967
كان عام 1967 عام النكسة الفلسطينية. ويمكن ترجمة النكسة على أنها
انتكاسة أو تراجع أو هزيمة وهو مصطلح يستخدمه الفلسطينيون للإشارة إلى النصر
الإسرائيلي في حرب يونيو/ حزيران 1967 (الاسم الأكثر شيوعاً في الأوساط العربية أو
ما يعرف بحرب الأيام الستة (الاسم الأكثر شيوعاً في إسرائيل وشمال الأطلنطي). بدأت
هذه الحرب القصيرة في 5 يونيو/ حزيران 1967. في ذلك اليوم، شن الجيش الإسرائيلي
هجوماً وقائياً ضد مصر والأردن والعراق وسوريا، وسرعان ما تمكن من تحييد الدفاعات
الجوية لهذه الدول.
بعد ذلك مباشرة احتلت القوات الإسرائيلية القدس الشرقية والضفة
الغربية وقطاع غزة، وبذلك سيطرت على كامل فلسطين التاريخية لأول مرة. وبالإضافة
إلى ذلك، احتلت إسرائيل كذلك مرتفعات الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية.
ولا تزال جميع هذه الأراضي، باستثناء سيناء، خاضعة للاحتلال العسكري الإسرائيلي في
غضون تلك الأيام من عام 1967. تم طرد ما بين 250,000 و400,000 فسلطيني، قامت
القوات العسكرية الإسرائيلية بتسوية منازلهم بالأرض. وهكذا اضطر نصف هؤلاء للنزوح
للمرة الثانية خلال أقل من 20 عاماً، كما تزايد عدد اللاجئين الفلسطينيين في
مخيمات الأونروا زيادة كبيرة، لاسيما في الأردن، وتم كذلك إخلاء أحياء وبلدات
حضرية فلسطينية، بما في ذلك حي المغاربة في البلدة القديمة بالقدس (لإنشاء ساحة
وتسهيل الوصول إلى الحائط الغربي)، فضلاً عن هدم جزء كبير من مدينة قلقيلية
الفلسطينية والمناطق المحيطة بها.
يعد الفصل العنصري جريمة ضد الإنسانية وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، كما أن الجرائم ضد الإنسانية هي جرائم بالغة الخطورة ولا تسقط بالتقادم. إن من واجب المجتمع الدولي وضع حد لهذه الجرائم الأمر الذي يجب أن يؤدي إلى مساءلة إسرائيل أمام العدالة الدولية.
وقد اعتبرت النكسة بمثابة نكبة ثانية، ومع ذلك، ينبغي أن نأخذ في
الاعتبار أنه على الرغم من أن النكسة تعد فترة ذات أهمية تاريخية استثنائية، إلا
أنها كانت في جوهرها فصلاً آخر في العملية المستمرة للاستعمار الاستيطاني والتطهير
العرقي لفلسطين. لا يمكن هنا أن نغفل عن تلك البديهية الصهيونية التاريخية
المتمثلة في محاولة الحصول على أقصى مساحة من الأرض بأقل قدر ممكن من السكان
الفلسطينيين وإدراكاً لتفوقها العسكري على الدول المحيطة بهاء فكرت العديد من
السلطات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، منذ عام 1948 - كما فعل بن غوريون نفسه.
في التوسع الإقليمي، خاصة في القدس الشرقية والضفة الغربية. وقد تم الإعداد لحرب
يونيو/حزيران 1967 بعناية وبنجاح.
الجرائم الإسرائيلية المستمرة في ظل الحصانة من العقاب
لقد تناول الكاتب خورخي راموس تولوسا في سياق هذا الكتاب جوهر تاريخ
فلسطين لما ينيف على 125 عاماً، ورأينا أنه تاريخ استعماري. إنه تاريخ الاستعمار
الاستيطاني الصهيوني الإسرائيلي الذي لا يعبر عن الديانة اليهودية أو المجتمعات
اليهودية، وإنما يسعى إلى السيطرة على أكبر مساحة من الأرض مع الحد الأدنى من
السكان الفلسطينيين، وهم السكان الأصليون للبلاد. حقق هذا المشروع الاستعماري
انتصاراً كبيراً في عام 1948 مع تأسيس دولة إسرائيل، لكن التطهير العرقي لفلسطين،
أو ما يُعرف بالنكبة، لم ينته في ذلك العام، حيث يستمر الاستعمار والتطهير العرقي
بعد مضي 75 عاماً. النكبة مستمرة، وكذلك تستمر محاولات الشعب الفلسطيني في تصفية
الاستعمار عن أرضه.
في عام 2022، اغتال الجنود والمستوطنون الإسرائيليون 231 فلسطينياً،
وأفلتوا من العقاب. كان من بين من قتلوا ما يتراوح بين 44 و53 قاصراً. وفي الفترة
ما بين 1 يناير/ كانون الثاني و6 أكتوبر تشرين الأول 2023 وحده، قتل ما لا يقل عن
247 فلسطينياً على يد المستوطنين والقوات الإسرائيلية. وينبغي أن يُضاف هذا إلى ما
يناهز 5000 أسير سياسي فلسطيني (منهم ما يقرب من 1000 رهن الاعتقال الإداري دون
تهمة أو محاكمة أو ضمانات من بين هؤلاء ما يزيد على 150 قاصراً). علاوة على ذلك لا
تزال إسرائيل هي أكثر دولة في العالم تعرضت للإدانة من قبل مجلس حقوق الإنسان
التابع للأمم المتحدة. في عامي 2021 و2022، قدمت أشهر منظمتين غير حكوميتين في
مجال حقوق الإنسان في العالم، هما هيومن رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، تقارير
موسعة، بعد سنوات من التحقيق، خلصت إلى أن إسرائيل تمارس نظام الفصل العنصري ضد
الشعب الفلسطيني.
يعد الفصل العنصري جريمة ضد الإنسانية وفقاً لنظام روما الأساسي
للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، كما أن الجرائم ضد الإنسانية هي جرائم بالغة
الخطورة ولا تسقط بالتقادم. إن من واجب المجتمع الدولي وضع حد لهذه الجرائم الأمر
الذي يجب أن يؤدي إلى مساءلة إسرائيل أمام العدالة الدولية. بعد مرور 75 عاماً على
بداية النكبة الفلسطينية، لا تستمر الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية مع الإفلات
التام من العقاب فحسب، بل إنها تتزايد بتواطؤ من المؤسسات والحكومات، لاسيما في
دول شمال الأطلسي. وهكذا تعد النكبة حاضراً مستمراً بالنسبة للشعب الفلسطيني، كما
يتضح من الإبادة الجماعية الجديدة المتلفزة التي بدأها النظام الاستعماري
الإسرائيلي في خريف 2023.
الاستعمار لا يندحر إلا عبر المقاومة المسلحة
أوضح فرانتز فانون، على نحو مثالي أن الاستعمار الحديث يعتمد على
العنصرية والقهر والعنف، وعلى تجريد الإنسان من إنسانيته. ويُعلمنا تاريخ القرن
العشرين أن كل عمليات تصفية الاستعمار، سواء في أنغولا أو الجزائر أو الهند أو
جنوب إفريقيا أو فيتنام، قد جمعت بين المقاومة السلمية والكفاح المسلح. وكلاهما
بحسب قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة مثل القرار 3070 أو القرار 3246 أو
القرار 35/35 أو القرار 37/43 أو القرار 45/130 مشروعان في سبيل إنهاء الهيمنة
الاستعمارية. في مايو/ أيار 2021 أدى القصف الإسرائيلي على غزة إلى مقتل 256
فلسطينياً. ولا يحتاج الفصل العنصري الإسرائيلي إلى تقديم مبرر، إن كان هناك أي
مبرر. في أحد أحياء القدس، وهو حي الشيخ جراح، رفض الفلسطينيون التعرض للتطهير
العرقي.
وهكذا، قام الجيش الإسرائيلي بقصف غزة.. بكثافة مرة أخرى (كما حدث
في 2008 و2009 و2012 و2014 و2018) دون أي مبرر للحرب. إن الأنظمة الاستعمارية، مثل
النظام الإسرائيلي، لا تحتاج إلى استخدام مبررات للحرب، فلقد تأسست الدولة بتبرير
عنصري لتفوق الجنس الأبيض الذي كان من المفترض أن يعمل على تحويل الهمج إلى
الحضارة. هذه هي الحالة الإسرائيلية، حيث كتب الأب الروحي للحركة الصهيونية نفسه،
تيودور هرتزل، في عام 1896، أن الدولة الصهيونية المستقبلية ستكون جزءا من الجدار
الدفاعي الأوروبي في آسيا، ومكاناً متقدماً للحضارة ضد الهمجية.
كما أن
الإسرائيليين ليسوا بحاجة إلى العثور على سبب للحرب عندما يتمتعون بالحصانة
المطلقة من العقاب لعقود عديدة، فميلادهم ذاته، ونموهم قد بنيا على أساس ما نعتبره
نحن الآن جرائم ضد الإنسانية. لذلك، فإن المبرر القائل بأن كل شيء قد بدأ في 7
أكتوبر 2023، أو أن النظام الاستعماري الإسرائيلي لم يتصرف إلا كرد فعل أو كآلية
للدفاع عن النفس هو نوع من التضليل ذلك أن الفصل العنصري الإسرائيلي ينتهك الحقوق
الأساسية على نحو ممنهج، وعلى نطاق واسع. إن ما يحدث في خريف 2023 هو حلقة أخرى،
وربما الحلقة الأكثر فظاعة في الصراع بين الاستعمار وتصفية الاستعمار.
عملية طوفان الأقصى والزلزال الذي أحدثته في إسرائيل والدول الغربية
سيتذكر العالم يوم 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023 لفترة طويلة. إن
المقاتلين الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر، والذين ينتمون إلى أكثر من عشرة فصائل
سياسية مختلفة ومعظمهم من اللاجئين، لم يتمكنوا قط من قبل من تدمير أنظمة المراقبة
والسياج الذكي للتكنولوجيا المتطورة الذي كان يفصلهم لمدة 75 عاماً بهذه الفعالية
أو السرعة انطلاقاً من أراضيهم.
الواقع أنهم لم يتمكنوا من قبل قط من التوغل في
الأراضي التي طرد منها أسلافهم. ومن ناحية أخرى، فقد تحدثت مصادر مختلفة عن مقتل
أكثر من ألف إسرائيلي فضلاً عن احتجاز أكثر من 200 رهينة نتيجة هجوم 7 أكتوبر /
تشرين الأول الذي أطلقت عليه الفصائل الفلسطينية اسم عملية طوفان الأقصى. لقد كان
ما حدث صدمة لا تُصدق، ولأول مرة منذ عام 1973، تعلن الحكومة الإسرائيلية حالة
الحرب.
سيتذكر العالم يوم 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023 لفترة طويلة. إن المقاتلين الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر، والذين ينتمون إلى أكثر من عشرة فصائل سياسية مختلفة ومعظمهم من اللاجئين، لم يتمكنوا قط من قبل من تدمير أنظمة المراقبة والسياج الذكي للتكنولوجيا المتطورة الذي كان يفصلهم لمدة 75 عاماً بهذه الفعالية أو السرعة انطلاقاً من أراضيهم.
في الوقت ذاته. بدأت الأخبار الكاذبة في الانتشار، لاسيما عبر وسائل
الإعلام الكبرى في دول شمال الأطلسي، في حين أعيد إحياء وتكثيف الخيال الاستشراقي
العنصري الذي درسه إدوارد سعيد وغاياتري سبيفاك تلك الفظائع المتعلقة بالأطفال
الإسرائيليين والتي تم تزييفها، والجثث المحترقة التي تبين أنها لمقاتلين
فلسطينيين ـ وليسوا إسرائيليين، كما ورد في البداية ـ والتحقيقات التي أجرتها حتى
الشرطة الإسرائيلية التي كشفت أن مروحيات جيش الدفاع الإسرائيلي ربما كانت مسؤولة
عن مقتل إسرائيليين في مهرجان شمال غزة، وهو ما دفع بوزير الاتصالات شلومو كارهي
إلى اقتراح فرض عقوبات على صحيفة هآرتس التي نشرت تلك المعلومات. ومن ناحية أخرى،
تلقت العديد من وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية انتقادات لتجريدها الفلسطينيين
من إنسانيتهم وانحيازها لصالح إسرائيل، وهو ما أدانه صحفيو بي بي سي في 23 نوفمبر/
تشرين الثاني بخصوص وسائل إعلامهم. وينبغي أن نأخذ في الاعتبار أنه خلال شهر ونصف
منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، قتل أكثر من 60 صحفياً على يد الجيش
الإسرائيلي في غزة وهو رقم يفوق جميع القتلى من العاملين في مجال الصحافة في جميع
أنحاء العالم طوال عام 2022 بحسب منظمة مراسلون بلا حدود.
وصفت الصحافة الإسرائيلية ما حدث في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023
بأنه فشل إسرائيلي ذريع، أو كارثة وطنية، أو أكبر فشل استخباراتي في تاريخ
إسرائيل، أو أصعب لحظة منذ عام 1948. وقد وافق على ذلك عدد لا يحصى من المحللين
الدوليين والعسكريين. كتب حاييم ليفينسون في صحيفة هارتس يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول
ما يلي: مهما حدث في هذه الجولة [الجديدة] من الحرب بين إسرائيل وغزة، فقد خسرنا
بالفعل.
اتضح أن المقاتلين الفلسطينيين هم من ضبطوا الإيقاع، وبزغ سيناريو
جديد مفاده أن إسرائيل أكثر
عرضة للخطر مما بدت كما أنه يمكن مهاجمتها وهزيمتها.
ولو بشكل مؤقت - ويُمكن إجبارها على تغيير موقفها، ليس فقط على الصعيد الدولي،
ولكن أيضاً في الأراضي التي تسيطر عليها... ويجب أن نأخذ في الاعتبار أن يوم 7
أكتوبر/ تشرين الأول 2023 لم يكن يوم سبت فقط، وهو يوم عادة ما يتراجع فيه النشاط
اليهودي الإسرائيلي، بل إنه كان اليوم الذي تلى الذكرى الخمسين لحرب يوم الغفران
التي شنتها القوات المصرية والسورية بشكل مباغت لاستعادة سيناء ومرتفعات الجولان،
وهي الأراضي التي احتلها الجيش الإسرائيلي من مصر وسويا، على التوالي، عام 1967.
وبعد سنوات تمكنت مصر من استعادة سيناء مقابل الاعتراف بإسرائيل، لكن
مرتفعات الجولان لا تزال محتلة عسكرياً من قبل نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. لكن
لماذا هذه المرحلة الجديدة في عملية تصفية الاستعمار في فلسطين؟ لعدة عوامل، فمنذ
انتهاء الجائحة، حققت المقاومة الفلسطينية مستوى عال من التنسيق والفعالية
والتخطيط على الصعيدين الداخلي والخارجي. وهي ظاهرة لوحظت بشكل خاص منذ عام 2022
في مدن شمال الضفة الغربية مثل نابلس وجنين. وقد ظهر هناك جيل جديد من المقاتلين
الفلسطينيين الشباب، الذين سئموا 75 عاماً من الاستعمار والفصل العنصري، وانتقدوا
بشدة السلطة الوطنية الفلسطينية التي فقدت مصداقيتها تماماً، وهي سلطة تفتقر إلى
صلاحيات حقيقية، وتضطر إلى التعاون مع النظام الإسرائيلي. في الأسبوع الأول من شهر
يوليو/ تموز 2023، اقتحم الجيش الإسرائيلي مخيم جنين للاجئين وشارك في ذلك سلاح
الجو في انتشار عسكري غير مسبوق منذ الانتفاضة الثانية (2000 -
2005).
الإبادة الجماعية في غزة 2023 والأطماع الصهيونية الأمريكية في
ثرواتها
وفي خريف 2023، كما حدث في المرات السابقة شهدت غزَّة قصفاً عنيفاً
في الأعوام 2008 - 2009 أو 2012 أو 2014 أو 2018، ويذكر الكاتب مرَّة أخرى أنَّ
القصف الإسرائيلي على قطاع غزة كان مستوحى من عقيدة الضاحية. إنها استراتيجية
عسكرية للحرب غير المتكافئة ترمي إلى إحداث دمار هائل في الأرواح وفي البنى
التحتية المدنية انتقاماً لصلات المدنيين بالجماعات المسلحة المعادية. وهذه
العقيدة لا تميز بين الأهداف العسكرية والمدنية، وقد اشتق الاسم من حي الضاحية
الشعبي جنوب بيروت، معقل حزب الله، الذي دمره الجيش الإسرائيلي خلال حرب الـ 34
يوماً في صيف 2006. اقترح الجنرال الإسرائيلي غادي أيزنكوت الذي أعلن أن ما حدث في
الضاحية سوف يتكرر، من خلال استخدام قوة غير متناسبة من شأنها أن تسبب أضراراً
ودماراً هائلين. وأضاف: من وجهة نظرنا هذه قواعد عسكرية [...] والإضرار بالسكان هو
السبيل الوحيد لاحتواء نصر الله [الأمين العام لحزب الله] يرى ريتشارد فولك، أستاذ
القانون الدولي الفخري في جامعة برينستون، أن مبدأ الضاحية ينظر إلى البنية
التحتية المدنية لخصوم مثل حماس أو حزب الله على أنها هدف عسكري مسموح به، ولا
يمثل هذا الأمر فحسب انتهاكاً صريحاً لمعظم القواعد الأساسية لقوانين الحرب
والأخلاق الكونية، ولكنه اعتراف بعقيدة العنف التي يجب أن تطلق عليها اسمها
الصحيح: إرهاب الدولة.
من ناحية أخرى، قدرت منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية
(الأونكتاد)، في عام 2019، احتياطيات الغاز الطبيعي والنفط في شرق البحر الأبيض
المتوسط، والتي يقع جزء منها أمام سواحل غزة بـ 453 مليار دولار. وفي السنوات
الماضية، سلط محللون دوليون مختلفون الضوء على نوايا نتنياهو لجعل إسرائيل مركزاً
للطاقة. علاوة على ذلك، وبهدف تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، وقع الاتحاد
الأوروبي اتفاقية لشراء الغاز الطبيعي من إسرائيل عبر مصر في يونيو/ حزيران 2022،
بعد أربعة أشهر من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. لكل هذه الأسباب، فإن السيطرة على
المزيد، وحتى ضم أجزاء من قطاع غزة إلى إسرائيل، يمكن أن تسهل مثل هذه الأهداف
لنتنياهو والنخب الاقتصادية الإسرائيلية. ومن المنطقي ربط ذلك بالحلقة الجديدة من
النكبة في غزة التي بدأت في خريف 2023.
خلال الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة في خريف 2023، ارتفعت العديد من أسهم شركات الأسلحة وحققت أرباحاً ضخمة. وذلك لأن الجيش الإسرائيلي يظهر على الهواء مباشرة، مرة أخرى أن الأسلحة والتقنيات التي يستخدمها فعالة وأنها تم اختبارها في القتال.
في الوقت ذاته، وقبل 15 يوماً فقط من 7 أكتوبر 2023، ألقى بنيامين
نتنياهو خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبينما كان يحمل في يده خريطة،
أوجز خطته لـ الشرق الأوسط الجديد، وهي الخطة التي تقترح إنشاء ممر اقتصادي بين
الهند وأوروبا يمر عبر عدة دول. أول تلك الدول الإمارات العربية المتحدة، التي
طبعت علاقاتها بإسرائيل عام 2020 فيما عُرف باتفاقات أبراهام (الاتفاقات
الابراهيمية). ثم المملكة العربية السعودية، التي كانت تعمل على التقارب مع
إسرائيل وإن تم تجميد ذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وكذلك الأردن، وهي ثاني
دولة عربية توقع اتفاق سلام مع إسرائيل بعد مصر.
وبالطبع، عبر إسرائيل، النواة الكبيرة الأخيرة قبل الوصول إلى
أوروبا. وأكد نتنياهو على أهمية الولايات المتحدة في هذا المشروع منطقياً، فإن
التحول التدريجي نحو عالم متعدد الأقطاب كان وراء هذا الاقتراح للتماهي الإسرائيلي
- الأمريكي، الذي يهدف إلى موازنة القوة المتنامية لمجموعة البريكس (ستتجاوز نسبة
دول البريكس من الناتج المحلي العالمي الإجمالي في عام 2024 مجموعة دول السبع،
ومنظمة شنغهاي للتعاون وطريق الحرير الجديد في الصين. وعلى الرغم من أن القوى
الآسيوية لديها اتفاقيات مع النظام الإسرائيلي، إلا أن منظورها العام أكثر تأييداً
للفلسطينيين، ولذلك أيضاً علاقة كبيرة بهجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فعملية طوفان
الأقصى يمكن أن تكون نقطة تحول تاريخية تعجل بإنهاء الاستعمار في فلسطين على المدى
المتوسط والطويل من خلال إظهار مدى الضعف وانعدام الأمن والاستقرار الإسرائيلي.
الإبادة الجماعية في غزة مختبر لصناعة الأسلحة الإسرائيلية
هناك عامل رئيسي آخر يساعدنا على فهم تلك الإبادة الجماعية المتلفزة
التي بدأها النظام الإسرائيلي في خريف عام 2023 وهو أن أجساد وأراضي الفلسطينيين
هي بمثابة مختبر لصناعة الأسلحة والتكنولوجيا العالمية.. ما يتم اختباره في فلسطين
يتم تصديره وشراؤه حول العالم: تقنيات الشرطة التي تتعلمها قوات الأمن الإسبانية
(بما في ذلك إرتزاينتزا وموسوس دي أسكوادرا من الإسرائيليين، وخراطيم المياه
الإسرائيلية التي تقمع المظاهرات من سانتياغو دي تشيلي إلى برشلونة، وبرنامج
التجسس الإسرائيلي بيغاسوس الذي يستخدم لتعقب الناشطين والصحفيين وقادة الاستقلال
القطالونيين، أو ضد رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيث - والذي له علاقة كبيرة
بتغيير موقف الدولة الإسبانية عام 2022 تجاه قضية الصحراء الغربية - أو الطائرات
الإسرائيلية بدون طيار التي تراقب الحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي، أو التي
يستخدمها الطاغية المغربي في المخيمات الصحراوية في تندوف. كل شيء متصل ببعضه
البعض اتصال الظلم بالطغاة. ولهذا السبب فإن نتنياهو هو حليف مقرب من بولسونارو أو
ترامب أو أوربان، ذلك أن إسرائيل هي دائماً حليف ومروج لأفكار اليمين المتطرف
العالمي.
يعد نظام الفصل العنصري في إسرائيل أكبر مصدر للأسلحة في العالم
بالنسبة للفرد. وخلال الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة في خريف 2023، ارتفعت
العديد من أسهم شركات الأسلحة وحققت أرباحاً ضخمة. وذلك لأن الجيش الإسرائيلي يظهر
على الهواء مباشرة، مرة أخرى أن الأسلحة والتقنيات التي يستخدمها فعالة وأنها تم
اختبارها في القتال.
لذلك فإن هناك مصلحة رأسمالية كبيرة في استمرار جرائم الفصل
العنصري الإسرائيلي. ولهذا السبب فإن الحملة العالمية لمقاطعة إسرائيل هي الأمل
الأكبر للشعب الفلسطيني، ذلك أنها تعد أكبر تحالف للمجتمع المدني الفلسطيني كما أن
حملة مماثلة ساهمت في الماضي في سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. إن
إنهاء التواطؤ هو المفتاح، ذلك أن الشعب والحركات الاجتماعية هي التي يجب أن تحدد
مسار الحرب ضد الظلم.
في خضم الصور الرهيبة للإبادة الجماعية المتلفزة في غزة والتي بدأت
خلال خريف عام 2023، وفي خضم الحلقة الجديدة من النكبة الفلسطينية، يجب علينا أن
نتشبث بالحياة التي يعلمنا دروسها الشعب الفلسطيني كل يوم، وكما يتجلى ذلك في
أشعار الشاعرة الفلسطينية رفيف زيادة. ويجب علينا أن نرقب المدن في جميع أنحاء
العالم وهي تخرج في مظاهرات حاشدة ضد الإبادة الجماعية في غزة، وتطالب بإنهاء كل
تواطؤ مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. وأخيراً، لا يسعنا إلا أن نتمسك بأن ما
يحدث يمكن أن يكون نقطة تحول تاريخية، وأنه من الممكن هزيمة الكيان الصهيوني.
إقرأ أيضا: النكبة الثانية.. كيف تحوّلت فلسطين إلى مسرح إبادة وشعبها إلى ضحية استعمار دائم؟