قضايا وآراء

بعد العدوان عليها.. ماذا ربحت إيران دولة وثورة؟

بحري العرفاوي
"لم تنجح شبكة العملاء في نَخر معمار الدولة ونسيج المجتمع"- إكس
"لم تنجح شبكة العملاء في نَخر معمار الدولة ونسيج المجتمع"- إكس
لا حديث عن خسارات بالنسبة لأصحاب المشاريع الكبرى وصُنّاع الثورات ومقارعي "الاستكبار العالمي"، فكل ما يُقدمونه إنما هو "تضحيات" وليس "خسارات"، فليس يخوض هؤلاء معارك خاطفة وليسوا ممارسي "رهان" لا يدرون أينجحون أم يفشلون، إنهم يَعون جيدا أن رحلتهم نحو مستقبل التحرر والسيادة تقتضي منهم صبرا وعطاء بغير حساب.

فَـقْدُ قادة عسكريين وسياسيين كبارٍ وعلماء بارزين في الأبحاث النووية، وتهدّم منشآتٍ وبنايات وجسور وطرقاتٍ، كلها بعضُ أثمانٍ يَطلبها التاريخ لتدوين أسماء دول وشعوب وزعماء في سجله الجميل.

من يخضعون لثقافة مادية استهلاكية لا يمتلكون هذه المعايير ولا تعني الحروب عندهم إلا "الغَلبة" أو الانهزام، لا بالمعيار "المعنوي" وإنما بالقياس الكمي، يحتسبون عدد القتلى ويزِنون ركام الخراب ويحتسبون نزيف الأموال ولا ينتبهون إلى "الإنسان" في مختلف وضعياته وصفاته؛ أكان جنديا مقاتلا أم زعيما قائدا أم مدنيّا مسالما. إن الفلسفة المادية لم تنته بالإنسان إلا إلى وضعية الكائن المُفرَغ من المعنى ومن الحب ومن الرحمة ومن الإيثار، فلا يعنيه إلا أن "يَغلبَ" وإلا أن "يكسب"، دون تساؤل عن الطرائق ودون احتكام إلى معايير خارج "المادّوية".

لا ينشغل متابعو حرب الاثني عشر يوما بممارسة المقارنات البيانية فيما هو خارج "روح الحرب"، فللحرب روحُها التي تلهبها وتمدّها بوقود الاستمرار وبوهج الصمود، تلك "الروح" هي معنويات الجنود والقادة والشعوب، إنها "الترسانة" غير المرئية، ومنصاتها ليست فوق الأرض ولا تحتها؛ إنما هي في أعماق الإنسان

هذا التقديم كان ضروريا حتى لا ينشغل متابعو حرب الاثني عشر يوما بممارسة المقارنات البيانية فيما هو خارج "روح الحرب"، فللحرب روحُها التي تلهبها وتمدّها بوقود الاستمرار وبوهج الصمود، تلك "الروح" هي معنويات الجنود والقادة والشعوب، إنها "الترسانة" غير المرئية، ومنصاتها ليست فوق الأرض ولا تحتها؛ إنما هي في أعماق الإنسان حين ينشأ على قيم التضحية وعلى معاني الشجاعة والصبر فلا ييأس ولا ينهزم ولا يتولى في زحف ولا يُبدي للعدو ضَعفا يُغريه به فيحتقره ويجرؤ عليه.

خطاب قائد الثورة في إيران ظل خطابا مُفعَما بالجرأة والشجاعة والقوة والثبات لا تردّد فيه ولا خوف ولا توسل "سلام" زائف، خطاب الشجاعة ليس صياغة إنشائية ولا تصويرا شِعريا، إنه هو ذاتهُ "روح الحرب" يُلهم الشعب طاقة رهيبة على التحمل وعلى الصبر وعلى التضحية.

لقد فشلت الرهانات الكبرىللعدو، لم يثر الشعب ولم تتمرد الشوارع ولم تقع عمليات تخريب، ولم تنجح شبكة العملاء في نَخر معمار الدولة ونسيج المجتمع رغم فداحة الخيانة وجسامة الكُلفة.

هذه الخسارة الكبرى للعدو هي في وجهها الآخر رِبحٌ حققته الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فلم تكن المراهنة على حرب استنزاف لسنوات إلا انطلاقا من ثقة في بيئة منتصرة لدولتها ولثورتها ولكرامتها، وهو فعلا ما أربك العدو فسارع بطلب وساطة لإيقاف الحرب، ولم يكن ليطلبها لو كان واثقا من قدرته على حسمها كما تعود فعله في حروب سابقة مع دول عربية قادتُها مهزومون وخوّافون.

لقد خبر الكيان في غزة معنى أن يكون المقاتلُ ممتلئا بالإرادة والأمل والشوق، شوق لما هو أرحب وأبعد وأسعد، إنها الحرية الشامخة أو الجنة الواسعة، وقد علم أن عجزه الذي يعانيه أمام أهل غزة سيكون أكبر وأسوأ أمام دولة مترامية الجغرافيا وافرة السكان عظيمة الثروات.

لو علم العدو أن نتائج العدوان ستكون عكسية، لما أقدم على فعلته تلك، وهو حتى لو نجح ، كما تمنّى، في تدمير المنشآت النووية، فإنه قد أحيا في الشعب الإيراني وحدته ووطنيته وثوريته التي قد تكون بردت بسبب خلافات سياسية وبسبب أزمات اجتماعية، أو أخطاء عملية في إدارة الأزمات وتوزيع الثروات واحترام الحريات، لقد كشف الشعب الإيراني عن معادلة عظيمة مفادها أن الغضب من السلطة لا يمكن أن يتحول إلى ترحيب بالغزاة، لقد جرب الأعداء "غواية التحرير"، ونجحوا فيها، "تحرير" الشعوب من الاستبداد كما حصل في العراق وفي أفغانستان، وفي مواطن أخرى ذاقت فيها الشعوب عذابات وويلات في ظل أنظمة فاسدة باطشة فقبلت بتدخل خارجي يطيح بحكامها ليستولي هو على إرادتها.

كان الأعداء يراهنون كثيرا على النزعة الطائفية، يظنون أنها ستكون عامل إرباك للجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ "قد" ينتصر معادو "الشيعة" للصهاينة والأمريكان فلا يتعاطفون مع إيران ولا ينددون بالعدوان عليها، كان ثمة وهْمٌ كبير، وهو إعادة ترتيب الأعداء لدى "عالم السّنة" حيث تكون العداوة لإيران مقدمة على العداوة لإسرائيل، والحقيقة أن أسماء كثيرة من صُناع الرأي في عالم السنة اشتغلوا على هذا الترتيب الموهوم فقالوا بأن احتلال الأرض كما تفعله إسرائيل أهون من احتلال الروح كما تفعله إيران بنشرها لمذهبها الشيعي في بيئة سنية.

كانت صدمة كبرى للأعداء حين اتضح أن الترتيب الحقيقي هو معاداة إسرائيل أولا ثم معالجة الخلاف مع إيران الشيعية ثانيا، لقد كان الانتصار للجمهورية الأسلامية الإيرانية واسعا بين النخب والأحزاب وعموم الناس، وأبرز مفاجأة كانت بيان الإخوان المسلمين في مصر

لقد كانت صدمة كبرى للأعداء حين اتضح أن الترتيب الحقيقي هو معاداة إسرائيل أولا ثم معالجة الخلاف مع إيران الشيعية ثانيا، لقد كان الانتصار للجمهورية الأسلامية الإيرانية واسعا بين النخب والأحزاب وعموم الناس، وأبرز مفاجأة كانت بيان الإخوان المسلمين في مصر، كما كان الدعم من قوى يسارية وعلمانية، وكانت الجملة المتداولة والتي تلخص المواقف تلك هي "إن إيران تتعرض لعدوان صهيوني أمريكي بسبب دعمها للمقاومة في غزة".

تلك هي الحقيقة، فالسبب لم يكن التهديدات النووية، وإنما تهديدات الفكرة الكامنة وراء النووي ووراء الصواريخ الباليستية، إنها الفكرة التي تأسست عليها الثورة الإيرانية وملخّصها جملة الإمام الخميني رحمه الله تعالى: "إسرائيل غدة سرطانية في المنطقة يجب إزالتها".

لقد ربحت إيران بما هي دولة وحدة شعبها وتعاطفا دوليا واسعا معها، وربحت بما هي ثورة توهّج الروح الثورية المقاومة داخل إيران وفي أنحاء من العالم حيث الشوق إلى الحرية، وقد ربحت إيرانُ شرف من كسر شوكة الكيان الصهيوني حيث كان يُظّن إنه غيرُ مقدور عليه.

هل توقفت الحرب؟ هل ارتدع العدوان؟ هل اكتشف الأعداء ضرورة الذهاب إلى سلم دائم؟

لكل الحروب أسبابها، ومن الحروب ما هي طارئة أو خاطفة لأسباب قد لا تكون مهمة، ولكن المعركة مع الكيان بالنسبة لإيران كما بالنسبة لكل محور المقاومة هي معركة مبدئية إنها معركة الأرض المقدسة معركة الإنسان المظلوم، وهي معركة لن تتوقف حتى وإن شهدت هُدَنا طويلة أو قصيرة، وحتى وإن تسارعت أنظمة مهزومة إلى التطبيع مع الكيان، فالحق لا يُطبع مع الظلم حتى وإن استسلم صاحبُه، والأرض لا تألف محتليها مهما شيّدوا عليها من أبراج ومدّوا عليها من جسور وأقاموا فيها من مشاريع واستثمروا فيها من أموال، إنها كما الأم التي لا يمكن أن تنسى ثأرها وتظل تُنجب حتى ينتدبَ التاريخُ من أبنائها من يُحاسبُ مغتصبيها.

x.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)

خبر عاجل