سياسة عربية

بين الرمزية والردع.. قراءة فلسفية في لحظة ما بعد الحرب الإيرانية ـ الإسرائيلية

راكم كلا المتحاربين المكاسب والخسائر في الآن ذاته بكلّ تأكيد. وبالمقابل لم يحصّل العرب من هذه الحرب غير الخسائر. (إكس)
راكم كلا المتحاربين المكاسب والخسائر في الآن ذاته بكلّ تأكيد. وبالمقابل لم يحصّل العرب من هذه الحرب غير الخسائر. (إكس)
ـ 1 ـ

فاجأ ترامب العالم يوم 24-06-2025 في كلمة استهلها بتهنئة الجميع وأعلن خلالها "الاتفاق الكامل والنهائي بين إسرائيل وإيران على وقفٍ شاملٍ وتامٍ لإطلاق النار..وذلك لمدة 12 ساعة، تُعتبر بعدها الحرب قد انتهت!". ثم أعلن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان من الغد انتهاء الحرب مع إسرائيل بـ"نصر عظيم" للأمة الإيرانية، معبّرا عن عن استعداد بلاده لحل الخلافات مع الولايات المتحدة وفق الأطر الدولية.

في الأثناء ظهرت تحاليل كثيرة تحاول أن تنظر إلى هذا الإعلان من منظور ربح كل طرف أو خسارته. ورغم تعدد مقارباتها ووجهات نظر أصحابها، لم يتجاوز جميعها اللحظة الراهنة وغلبت عليه الشحنة العاطفية ووجهته الأهواء. فالمحترزون من إيران كانوا أميل إلى اعتبار الحرب إنجازا يضاف إلى انتصارات إسرائيل الكثيرة. أما المتعاطفون معها فوجدوا في نتائجها جديدا قلب المعطيات وجعل "إسرائيل المنيعة" في مرمى الصواريخ الإيرانية وعصف بصورة الجيش الذي لا يهزم.

من المصادرات أنّ إسرائيل، الطرف الثاني في المعركة، دولة مارقة تجعل من العدوان نهجا لسياستها الخارجية تجاه الدول الإسلامية قاطبة وتعوّل على تواطؤ العالم الغربي الذي يوفر لها الغطاء القانوني أو السياسي. والمصادرات لا تناقش ما لم يطرأ جديد يمس من جوهرها.
وعلى اختلاف المقاربات لم تنزّل هذه القراءات مآل الصدام الإيراني الإسرائيلي في سياقه السياسي والحضاري حتى تكون الرؤية أشمل.

ـ 2 ـ

تحاول ورقتنا هذه النّظر إلى وقائع حرب الاثني عشر يوما من زاوية أوسع، فتسلط حزمة من الضوء على الجانب الإيراني من جهة اختياراته الإستراتيجية ضمن إقليم متقلّب لا يكاد يعرف الاستقرار ومن جهة كيفية تعاطيه مع وقائع أيام الحرب الطويلة. ولكنها تدرك في الآن نفسه أنها تواجه مطبات كثيرة تحول دونها والتشخيص الدقيق. منها الذّاتي. فصاحب هذه الورقة متحيّز وجدانيا وثقافيا وإنسانيا إلى إيران، يحاول أن يتجرّد من ذاتيه وأن يتقمّص دور القارئ المحايد. ومنها الموضوعي. فلا أحد يمكنه أن يدّعي المعرفة الدّقيقة بحجم خسائر طرفي المعركة، خاصّة أنّ تعتيما شديدا قد صاحبها، رغم هول الحرب وشراستها، بحيث كانت مشاهد انفجاراتها البعيدة تبدو أمام العدسات محض ألعاب نارية في مهرجان احتفالي، لا أكثر.

ـ 3 ـ

نخص إيران بحزمة الضوء هذه لعاملين أساسيين:

فمن المصادرات أنّ إسرائيل، الطرف الثاني في المعركة، دولة مارقة تجعل من العدوان نهجا لسياستها الخارجية تجاه الدول الإسلامية قاطبة وتعوّل على تواطؤ العالم الغربي الذي يوفر لها الغطاء القانوني أو السياسي. والمصادرات لا تناقش ما لم يطرأ جديد يمس من جوهرها. ومن المؤشرات ما يؤكّد أنّ أمرا جللا  قد أصاب إيران بعد تنفيذ الضربات الأمريكية القاصمة ضد منشأة فردو لتخصيب اليورانيوم، ومنشأة نطنز النووية، وأصفهان، باستخدام قنابل متعددة من طراز GBU-57A/B MOP بوزن 15 طنا.

فإسرائيل أصبحت أكثر شرها. وبعد أن كانت تستهدف المنشآت النووية الإيرانية لـ"ـلقضاء على الخطر الوجودي" أصبحت تستهدف عنصرين جديدين، بصرف النّظر عن مدى واقعيتهما، هما تجريد إيران من صواريخها البالستية وتغيير النظام برمته. وإيران أصبحت أكثر لينا بالمقابل. فتحوّلت من التهديد بتدمير إسرائيل وإلحاق الأذى بالولايات المتحدة إن هي تورطت في الحرب إلى المناشدة المكابرة لإنهاء العدوان الإسرائيلي. ولا شك أنها أدركت محدودية سلاحها الجوي مقارنة بسلاح إسرائيل. فمخزونها من الصواريخ يتآكل فيما تصل إلى إسرائيل شحنات جديدة من حلفائها كلّما واجهت نقصا. أضف إلى ذلك أنّ الولايات المتحدة، شريك إسرائيل غير المعلن، انتقلت من اعتراض الصواريخ وتقديم الأسلحة إلى المشاركة الفعلية الحاسمة.

ـ 4 ـ

وفي خطاب ترامب وهو يعلن نهاية الحرب ما يؤكد هذا الأمر الجلل. فقد جاء مفعما بالروح الإيمانية الإنجيلية نحو: "بارك الله في إسرائيل، وبارك الله في إيران، وبارك الله في الشرق الأوسط، وبارك الله في الولايات المتحدة الأمريكية، وبارك الله في العالم!". فعدل بصورة إيران من زعيمة لمحور الشر، تلك الصفة التي كرّستها خطبة جورج بوش  2002 بعد أن استدعت مفردات الحرب العالمية الثانية، ثم تداولها ساسة الحلف الغربي بعده. وانتقل من المعجم الذي اعتمد لتعيين التحالف النازي الفاشي إلى معجم روحاني. ففي المسيحية، تستخدم عبارة "المبارك" غالبًا لمن نال البركة وشُمل بالحماية الربّانية، وقد جاء في إنجيل متى "وَالْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ: «أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!»" (متى 21: 1-9).

بيّن إذن أنّ خطاب ترامب اللطيف هذا وجه قفاه فعله العنيف. فلا تخفى عنّا نزعته للتبجّح بكسر شوكة إيران في سخرية مضمّنة طيّ الدعاء الوقور وللاحتفال بنصره الذي عجز عنه أسلافه وبنهجه الصفيق القائل باعتماد القوة لربح صفقات السلام. والسّلام عنده استسلام غير مشروط للإرادة الأمريكية اليوم في ظل هشاشة العالم.

ـ 5 ـ

تراجع إيران خطوات إلى الوراء لتغدو أكثر لينا، أمر مؤكّد. ولكن إلقاء نظرة على المرآة العاكسة يكشف لنا أنها لم تتراجع خلال هذا الصدام فحسب. فمنذ أن سلكت مسلك الحذر وأصبح حب السلامة غالبا عليها، بدأت تخسر أوراقها الرّابحة تباعا. فتخلّت عن نظام بشار بعد أن قدّرت أنها بات عبئا عليها لا عونا لها. ولكنها اتخذت قرارها بعد استدرجت الحزب إلى ساحة المعركة السورية وجعلته مكشوفا إلى إسرائيل. ثم تخلّت عن كبريائها لمّا تراخت في الرّد  على استهداف إسرائيل لقنصليتها في دمشق بغارة جوية في 1 أفريل 2024.

جاء خطاب ترامب مفعما بالروح الإيمانية الإنجيلية نحو: "بارك الله في إسرائيل، وبارك الله في إيران، وبارك الله في الشرق الأوسط، وبارك الله في الولايات المتحدة الأمريكية، وبارك الله في العالم!".
وبعد ردها الخجول في عملية وعد الحق في 14 نيسان / أبريل 2024 ظهر القائد العام للحرس الثوري حسين سلامي ليؤكّد أنّ إيران أرادت من الهجوم عملية محدودة ناجحة، محذّرا إسرائيل من أنّ بلاده ستردّ بعنف إذا هوجمت مصالحها. فكشف التهديد الظّاهر توسلا مضمّنا ووهنا خفيّا.  ثم تخلت عن حماس إثر عملية "طوفان "الأقصى". ولم تكلّف نفسها عناء دعمها، الدعم الفاعل. وكان صوت قياداتها الإصلاحية و"المعتدلة" الدّاعي إلى ضرورة الانتباه إلى "من يحاولون جر رجل إيران إلى المعركة" أكثر ارتفاعا من الصوت المنادي صباحا مساء بالموت إلى إسرائيل. واكتفت بجعل حزب الله، وكيلها الأول في المنطقة، يشاغب إسرائيل دون أن يؤذيها ضمن ما أسماه بجبهة الإسناد. فلم يكن يفتح جبهة حقيقية لتشتيت المجهود الحربي الإسرائيلي ويؤازر مقاتلي حماس المحاصرين في مساحة 365 كلم مربع، بقدر ما كان يرفع الحرج عنها ويستر عورتها بأوراق من توت.

وكان لهذا التكتيك تبعاته القاتلة. فقد جرّدها من هيبتها وأطلق يدي إسرائيل وحرّرها لتصبح أكثر جرأة. فاغتالت إسماعيل هنية على أرضها بشكل استعراضي مهين تزامن مع تنصيب رئيسها الجديد في يوليو 2024. ثم شجعها عدم الرد على خطوة أكثر تهورا. فاغتالت حسن نصر الله في سبتمبر 2024 . وحرمتها من القطعة الأبرز من "مدافعي الحرم" ضمن  فلسفة "الدفاع الفسيفسائي" التي تقوم على خلق كيانات شيعية داخل الدول السنية توالي المرجعية حلى حساب الولاء للوطن.

ـ 6 ـ

ليست الحرب الإسرائيلية المعلنة على إيران بداية من 13 يونيو 2025 غير نتاج لمسار كامل كانت فيه إيران تتراجع مرتبكة وتضحي بحلفائها بعد أن مثل "الحذر الإستراتيجي" انقلابا جوهريا في سياستها الخارجية وكانت إسرائيل تتقدم بجرأة. فماذا يعني قبولها بوقف إطلاق النّار مباشرة بعد الضربات الأمريكية؟

هل يعني رضوخها لإرادة ترامب واستسلاما وتضحية ببرنامجها النووي الذي ضحت في سبيله بسنوات من الحصار لا يزال وقعها جليا على اقتصادها وعلى مستوى معيشة مواطنيها؟ هذا ما توحي به كلمة "الرئيس البرتقالي" التي أعلنت إيقاف  إيران لإطلاق النار أولا، وبعد 12 ساعة، ستبدأ إسرائيل بدورها وقف إطلاق النار، و"سيتم إعلان النهاية الرسمية لحرب الـ12 يومًا، وسيحتفل بها العالم".

ومفاد هذه الفرضية أنّ إيران تنهي الحرب ذليلة مهزومة وأنّ الزمن الذي كانت فيه تتبنى خيار نشر الثورة (من منظور إيديولوجي) وتشكّل من أتباعها في العراق ولبنان والبحرين واليمن هلالا شيعيا داعما "مدافعا عن الحرم"، وتعبث بأمن بالبلدان العربية تحت عنوان "المظلومية الشيعية"، قد ولّى، وأنّ نظام الملالي يدخل قوقعته لحماية نفسه بعد أن أضحى يواجه تهديدا وجوديا حقيقيا. فالعزلة الخارجية تطوّقه بعد أن تأكّد من أنّ من يعتقد أنهم من الحلفاء لم يأكلوا من مائدة نفطه في ظل الحصار إلا لأنه أدسم. وعند الشدائد يقفون على الربوة لأنها أسلم. واختراق الجواسيس الذين يضعون أنفسهم في خدمة الموساد  بسبب تعسفه على الأقليات العرقية ينخره من الدّاخل.

برنامج إيران النووي ليس منشآت فحسب. إنه خبرات علمية تراكمت على مرّ السنين رغم قنص العديد من العلماء، وتجهيزات مكلفة لا شكّ أنها فُكّكت وحفظت حالما بدأت إسرائيل حربها عليها، ومحصول كبير من اليورانيوم المخصّب بدرجات متفاوتة لن يترك في متناول الضربات الإسرائيلية والأمريكية بأية حال.
ـ 7 ـ

لهذه الفرضية نقاط قوّة بلا شك. ولكن لا نعتقد أنها ستصمد كثيرا أمام نقاط ضعفها. فبرنامج إيران النووي ليس منشآت فحسب. إنه خبرات علمية تراكمت على مرّ السنين رغم قنص العديد من العلماء، وتجهيزات مكلفة لا شكّ أنها فُكّكت وحفظت حالما بدأت إسرائيل حربها عليها، ومحصول كبير من اليورانيوم المخصّب بدرجات متفاوتة لن يترك في متناول الضربات الإسرائيلية والأمريكية بأية حال. وعليه فأولى بنا أن نحسب سعي إيران إلى إنهاء الحرب حماية لتلك المقدرات وخطوة إلى الوراء، شأن خطواتها السابقة التي عدّدناها جميعا لأن القفزة إلى الهدف الكبير، باتت وشيكة كما تعلن التقارير الغربية.  ولا شيء يمنع مَن أن تقوم مرجعيته الفقهية على مفهوم التّقية مِن الانحناء قليلا حتى تمر العاصفة. والخطاب الإيراني الرسمي الذي يدعو إلى الاحتفال بالنصر الكبير في السّاحات العامة يرجّح ذلك.

ـ 8 ـ

ولكن أليس في التركيز على إيران أجحاف في حقها؟ فهي لم تقبل بوقف إطلاق النّار وحدها. وإسرائيل بعثت برسائل عديدة لإنهاء الحرب بدورها. وحصيلتها كانت سلبية للغاية. لذلك لا يمكننا أن نتحدث عن منتصر في هذه الحرب بل عن مهزوم بدرجة أقل. وخسائر إيران مهما عظمت تبقى دون خسائر خصمها. فتفوق إسرائيل الجويّ الذي جعلها تنتصر في مختلف معاركها السابقة لم يعد كافيا. وعمقها أصبح في مرمى صواريخ إيران وأنظمة دفاعاتها الجوية تفشل اليوم في صدّها. ولا شكّ أنها ستفشل غدا أكثر بسبب مراكمة إيران لخبراتها في صناعة الصواريخ البالستية وفي تطويرها بشكل مذهل.  ومشاهد الدّمار الكبير التي أصابت مختلف مدنها تختزل معاناتها. وإعلانها أنّ إسقاط النّظام في إيران عبر انتفاضات داخلية بات هدفا لحربها ليس أكثر من ضغط سياسي. فالوضع هناك غير الوضع في عراق صدام حسين. أضف إلى ذلك أنّ مصلحتها مرتبطة ببقاء النظام الإيراني لمزيد تمزيق الجسد الإسلامي إلى سنة وشيعة وروافض..

ـ 9 ـ

راكم كلا المتحاربين المكاسب والخسائر في الآن ذاته بكلّ تأكيد. وبالمقابل لم يحصّل العرب من هذه الحرب غير الخسائر. فقد كانوا مغيبين بلا وزن أو تأثير يكتفون بمشاهدة الصواريخ والطائرات الحربية والمسيرات تعبر من فوق رؤوسهم. ولا شكّ أن ترتيبات اليوم الموالي لوقف إطلاق النار ستكون على حسابهم.  وما يؤكّد  زعمنا أنّ عداء إيران وإسرائيل  نشأ بسبب القدس وبسبب اختلال فلسطين فيما يفترض. ولكن الاتفاق لم يتضمن شيئا حول العدوان على غزة والحال أنّ مجال المناورة لإيجاد شيء من التداخل بين الحربين كان واسعا أمام إيران وهي تستجيب لرغبة إسرائيل في إنهاء الحرب.  
التعليقات (0)

خبر عاجل