قبل أيام قليلة
من الذكرى الثانية لبدء الإبادة الجماعية
الإسرائيلية، أصدرت إدارة ترامب آخر
إنذاراتها وتهديداتها للشعب
الفلسطيني، تحت مسمى "خطة سلام". وقد حملت
هذه الخطة في جوهرها وعيدا بمزيد من الإبادة الجماعية للفلسطينيين، ما لم يرضخوا
للمشروع الأمريكي-الإسرائيلي بمواصلة تدمير حياتهم ووطنهم. وما يثير السخرية أنّ
السلطة الفلسطينية، إلى جانب عدد من الدول الأوروبية والعربية، ودول ذات أغلبية
مسلمة كتركيا وباكستان وإندونيسيا، فضلا عن الأمم المتحدة والبابا الأمريكي
للفاتيكان، قد انضمّت إلى جوقة المؤيدين للتهديد الأمريكي بالإبادة، الذي وافق
عليه بنيامين نتنياهو، المشارك في كتابة خطة ترامب، تحت شعار "التنازلات
الإسرائيلية".
من الواضح أن هذا
الإجماع الدولي الذي يقبل -أو حتى يدعم- حق إسرائيل في أن تكون دولة عنصرية تضمن
تفوق العرق اليهودي إلى الأبد، يُقرّ بأن إبادة إسرائيل للفلسطينيين في سبيل حماية
ذلك التفوق، ليست مُبرّرة فحسب، بل تستحقّ المكافأة أيضا. يُطالب ترامب وحلفاؤه
والدول المساندة لخطته الأخيرة المقاومة الفلسطينية بالاستسلام، كي يتسنى للجيش
الإسرائيلي مواصلة الإبادة الجماعية وتهجير الناجين الفلسطينيين بأقل جهد وتكلفة.
الواضح أن هذا الإجماع الدولي الذي يقبل -أو حتى يدعم- حق إسرائيل في أن تكون دولة عنصرية تضمن تفوق العرق اليهودي إلى الأبد، يُقرّ بأن إبادة إسرائيل للفلسطينيين في سبيل حماية ذلك التفوق، ليست مُبرّرة فحسب، بل تستحقّ المكافأة أيضا
في
تموز/ يوليو الماضي دعت جامعة الدول العربية، بتوجيهاتٍ وأوامرٍ أمريكية، المقاومة
الفلسطينية إلى نزع سلاحها ومغادرة
غزة. وبينما لم نسمع من هذه الجامعة
"العربية" أيَّ مطالب مماثلة من مجرمي الحرب الذين يذبحون الفلسطينيين،
والذين يُمدون بالسلاح والعتاد دون تأخير أو تقتير من قِبل الولايات المتحدة
وأوروبا، باستثناء إسبانيا مؤخرا، يطالَب ضحايا الإبادة الجماعية بتسليم أسلحتهم
المتواضعة.
لكن،
يبدو أن نزع سلاح ضحايا الإبادة الجماعية الإسرائيلية غير كافٍ بالنسبة لمحرري
صحيفة نيويورك تايمز، الذين لم يكتفوا بدعم تهديدات ترامب بالإبادة الجماعية، بل
يطالبون أيضا بإرسال ضحايا الإبادة الجماعية الفلسطينيين إلى معسكرات "إعادة
التأهيل" ليتعلموا هناك كيف يعشقون مُستعمِريهم، وكيف يتقبلون مصيرهم دون
مقاومة مُضطهِديهم الذين يسعون إلى إبادتهم.
ولتحقيق ذلك،
يُؤيد محررو نيويورك تايمز اقتراحا أعدّه مركز ويلسون، الذي أنشأته الحكومة
الأمريكية في واشنطن، وشارك في صياغته عقيد إسرائيلي متقاعد والجنرال الأمريكي
المتقاعد كيث دايتون. وهو دايتون نفسه الذي شغل منصب منسق الأمن الأمريكي للسلطة
الفلسطينية من كانون الأول/ ديسمبر 2005 إلى تشرين الأول/ أكتوبر 2010، وأشرف على
تدريب مليشيات السلطة الفلسطينية البلطجية، وعلى الانقلاب الذي قاموا به على منظمة
حماس المنتخبة ديمقراطيا في عام 2007. قبل مجيئه إلى الضفة الغربية، كان دايتون
مشغولا بخوض حرب أمريكا ضد الشعب العراقي في عام 2003. واليوم، لم تهدأ حربه على
الشعب الفلسطيني لضمان أن من سيحكمه هم البلطجية غير المنتخَبين فقط.
واستنادا إلى
"الخبراء في مركز ويلسون في واشنطن"، يُعلّمنا محررو صحيفة التايمز بأن
المليارديرات المقترحين في خطة ترامب، والذين سيتولون إدارة غزة بعد انتهاء
الإبادة الجماعية، مطالبون "بإنشاء برامج في المدارس ووسائل الإعلام وأماكن
أخرى" تهدف إلى "إزالة تأثير حماس المتطرف الشامل على المجتمع
الغزي". وفي محاكاة لخطاب نتنياهو الأخير في الأمم المتحدة، يؤكد المحررون
لقرائهم أن هناك سوابق لإعادة تأهيل الشعوب المتطرفة بعد الحرب، "فقد نجحت
برامج إزالة التطرف في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية". ومع
ذلك، فإن المحررين، شأنهم شأن مؤلفي تقرير مركز ويلسون، لا يرون أي حاجة لإعادة
تأهيل وتثقيف الإسرائيليين كي لا يرتكبوا إبادات جماعية مستقبلية.
في الفصل الأول
من اتفاقيات أوسلو عام 1993، خضعت منظمة التحرير الفلسطينية لإرادة إسرائيل
وتنازلت عن الغالبية العظمى من الحقوق المعترف بها دوليا للشعب الفلسطيني. أما في
هذا الفصل الأخير من ملحمة أوسلو، فتهدف خطة ترامب إلى تقسيم الفلسطينيين بشكل
أكبر من خلال فصل الناجين من الإبادة الجماعية في غزة رسميا عن بقية الفلسطينيين.
فإذا كانت
اتفاقيات أوسلو قد فصلت فلسطينيي أراضي عام 1967 عن الفلسطينيين الذين هجّرتهم
إسرائيل منذ عام 1948 ويعيشون في المنفى وأولئك الذين يعيشون داخل إسرائيل، فإن
إسرائيل (التي انضم إليها ترامب لاحقا خلال ولايته الأولى) فصلت فلسطينيي القدس
الشرقية عن الباقي. وتدعو خطة ترامب الجديدة إلى الفصل النهائي لـ"الغزيين"
عن الضفة الغربية. في هذه الأثناء، تمضي خطط حكومة نتنياهو في ضم الضفة الغربية،
أو على الأقل 60 في المئة منها التي تشملها ما يسمى بالمنطقة ج، المدرجة في
اتفاقيات أوسلو. وستكون الخطوة الأولى من هذا الضم هي تنفيذ مشروع الاستيطان
الإسرائيلي "إي 1" الذي ينص على أن تسيطر إسرائيل على 36 في المئة من
المنطقة ج. إن تعهد ترامب بعدم السماح بالضم يتناقض مع تأييده في ولايته الأولى
لضم إسرائيل غير القانوني للقدس الشرقية وهضبة الجولان، وتأكيده بأن المستوطنات
الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية لا تتناقض مع القانون الدولي.
وقد سبق خطة
ترامب خطاب نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في جلسة شبه خالية من
الحضور، حيث تعهد بتدمير "أعداء إسرائيل المتوحشين". ووصف رئيسُ الوزراء
الإسرائيلي الإبادةَ الجماعية الإسرائيلية التي قتلت وجرحت ما يزيد عن ربع مليون
فلسطيني حتى الآن بأن "رجالا ونساء شجعانا" من الجيش الإسرائيلي هم من
ارتكبوها. وأصر نتنياهو على ما يلي: "تخيلوا، لمن يقولون إن حماس يجب أن تبقى
وأن تكون جزءا من غزة ما بعد الحرب.. تخيلوا، في وضع ما بعد الحرب العالمية
الثانية، السماح للنازيين المهزومين عام 1945 بإعادة بناء ألمانيا؟ إنه أمر لا
يُصدق. إنه أمر سخيف. لم يحدث ذلك آنذاك، ولن يحدث الآن".
في الواقع، لا
يُعارض الفلسطينيون وأنصارهم تصريح نتنياهو المعقول من حيث المنطق، إلا أنه بالنظر
إلى الإدانة العالمية للإبادة الجماعية الإسرائيلية، فإن إسرائيل هي التي تمثل
النازيين في هذه المعادلة، وليست حماس. وبما أن كلمات نتنياهو قد ألهمت ترامب، فلا
داعي للتخيل؛ فالطرف الذي يرتكب الإبادة الجماعية هو الطرف الذي تريد خطة ترامب
وأنصارها أن يذعِن له الفلسطينيون ليتمكن من السيطرة على حياتهم بعد أن يتم
تجريدهم مما تبقى من أسلحة زهيدة في أيدي المقاومة.
لم يقتصر هجوم
نتنياهو النفسي على منصة الأمم المتحدة، فقد أمر مجرم الحرب قواته أيضا باستخدام
مكبرات الصوت لبث خطابه مباشرة إلى الفلسطينيين، الذين تقوم إسرائيل بذبحهم
وتجويعهم في غزة. وفي حال لم تكن مكبرات الصوت عالية بما يكفي، فقد سيطر
الإسرائيليون أيضا على هواتف الفلسطينيين المحمولة لضمان وصول تهديدات نتنياهو
بمزيد من الإبادة الجماعية وإصراره على تحقيق "نصر شامل" على السكان
العزل في الغالب، ونصفهم من الأطفال، عبر بث مباشر لخطابه لأكثر من مليونين ونصف
مليون شخص.
لقد جمع مراقبو
حقوق الإنسان شهادات من فلسطينيين في غزة حول كيفية استخدام إسرائيل لعامل الصوت
كسلاح في حربها المستمرة خلال هذه الإبادة الجماعية. يصف أحد التقارير أن القوات
الإسرائيلية في غزة كانت "تبث طلقات نارية، وأصوات صراعات مسلحة، وانفجارات،
وتحركات آليات عسكرية، وأحيانا أغاني بالعبرية والعربية، بهدف ترهيب المدنيين نفسيا،
الذين يعيشون في ظلام دامس ليلا، ومنعزلين تماما عن العالم الخارجي". وفي
تكتيكٍ ساديٍّ ومرعبٍ للغاية، قامت طائراتٌ إسرائيليةٌ رباعيةُ المراوح ببثِّ
تسجيلاتٍ لنساءٍ يصرخن وأطفالٍ يستغيثون، كحيلةٍ لجذب الناس إلى العراء كأهداف.
وعندما خرج السكان لمساعدة المستغيثين تم إطلاق النار عليهم من طائراتٍ بدون طيار.
يُعدُّ استخدام
مكبرات الصوت كسلاحٍ ضد السكان الأسرى تقليدا قديما استخدمه الغازون والعنصريون
ضدهم، وربما كان النازيون روادا في استخدام التعذيب الصوتي "للتلاعب النفسي
بالسجناء وترهيبهم وتلقينهم الأيديولوجي".
ففي صيف عام 1933،
خلال مؤتمر حزبهم، أُوقِفَ العملُ عمدا لدى سجناء معسكر اعتقال داخاو النازي،
لإجبارهم على الاستماع إلى بثِّ مؤتمر الحزب النازي في نورمبرغ، بما في ذلك "خطب
نازية مصحوبة بموسيقى صاخبة". شهد والتر هورنونغ، وهو سجين سابق في المعتقل،
قائلا: "عندما انطلقت الأصوات الأولى من مكبرات الصوت، كنا على يقين من أن
الهدوء والسكينة اللذين كنا ننعم بهما عادة في المساء قد اختفيا إلى الأبد". وأضاف
بأن المكبرات كانت تبث "الموسيقى الاستعراضية العسكرية وموسيقى قومية متطرفة
لفاغنر"، إضافة إلى "خطب هتلر التي كانت تُذاع في جميع أنحاء معسكر
الاعتقال التي اضطر السجناء إلى الاستماع إليها "بصعوبة بالغة". وفي تشرين
الثاني/ نوفمبر 1933، أُعيد استخدام نظام مكبرات الصوت خلال الانتخابات
البرلمانية، حيث شغّل ساعات من خطب هتلر وموسيقى المسيرات العسكرية في المعتقلات
النازية.
وفي السنوات
اللاحقة، استمر استخدام مكبرات الصوت لزيادة تحطيم معنويات السجناء، وكما وصف
القادة النازيون هذا التكتيك، "لإعادة تثقيفهم" من خلال غرس قيم الدولة
العنصرية. خلال الحرب العالمية الثانية، "تم بث إعلانات النصر من محطة
الإذاعة الألمانية لكسر المقاومة الداخلية للسجناء". وقد أصبح هذا في النهاية
روتينا، ثم أصبح ممارسة منتظمة في معسكرات الموت النازية، حيث كانت تُبث الموسيقى
الصاخبة والخطب للتغطية على صرخات المعذبين وعمليات القتل.
لكن استخدام
نتنياهو لمكبرات الصوت يتبع أيضا تقليدا صهيونيا عريقا. ففي عام 1948، بينما كانت
المليشيات الصهيونية تنفذ مجازر وتطهيرا عرقيا بحق الفلسطينيين، كان الصهاينة
يستخدمون مكبرات الصوت كأدوات للحرب النفسية، إلى جانب بث الدعاية الإذاعية
الصهيونية باللغة العربية، بما في ذلك نشر المخاوف من الأمراض لإثارة الذعر بين
الفلسطينيين وتشجيعهم على النزوح.
بعد عامين من الإبادة الجماعية الإسرائيلية، لم تُفضِ مذبحة إسرائيل إلى مواجهة بين الغرب ودول الجنوب في الأمم المتحدة وفي العديد من المحافل الدولية فحسب، بل إنها مؤخرا وضعت الولايات المتحدة في مواجهة مع حلفائها الأوروبيين الذين يأتمرون بأمرها حول مسرحية الاعتراف بدولة فلسطينية غير قائمة
وقد استخدمت
القوات الصهيونية تكتيكات أخرى، مثل شاحنات مكبرات الصوت، التي وصفها المؤرخ
الإسرائيلي إيلان بابيه على النحو التالي: "كانت تُستخدم في القرى والبلدات
لحث الفلسطينيين على الفرار قبل أن يُقتلوا جميعا، وللتحذير من أن اليهود يستخدمون
الغاز السام والأسلحة النووية، أو لتشغيل "أصوات رعب" مسجلة؛ صراخ
وأنين، وعويل صفارات الإنذار، ورنين أجراس الإنذار بالحرائق". وقد قامت مليشيات
الهاغاناه الصهيونية "بدحرجة البراميل المتفجرة من التلال واستخدمت مكبرات
الصوت لبث أصوات مرعبة لتخويف السكان". وعندما سمم الصهاينة المصادر المائية
في عكا بجراثيم التيفوئيد، مما أدى إلى إصابة الكثير من الفلسطينيين، إضافة إلى
الجنود البريطانيين، دوّت مكبرات الصوت الصهيونية بعبارات: "استسلموا أو
انتحروا. سندمركم حتى آخر رجل"، وهي دعوة لا تختلف عن تلك التي أطلقها
نتنياهو في الأمم المتحدة الأسبوع الماضي وبثها لأهل غزة.
طوال الحرب،
استمرت مليشيات الهاغاناه الصهيونية في استخدام البث باللغة العربية وعربات مكبرات
الصوت، وأعلنت محطة إذاعتهم أن "يوم القيامة قد أتى". وحتى المؤرخ
الإسرائيلي اليميني المناهض للفلسطينيين، بيني موريس، يُقر بأن "قصف قذائف
الهاون، وبثّات وإعلانات الحرب النفسية، والتكتيكات التي استخدمتها سرايا المشاة،
وهي تتقدم من منزل إلى منزل، كانت جميعها مُوجّهة لتحقيق هذا الهدف. كانت أوامر
الكتيبة الثانية والعشرين (كارميلي) هي قتل كل عربي بالغ يُصادفونه، وإشعال جميع
الأهداف التي يُمكن إشعالها بالقنابل الحارقة. أُرسل لكم ملصقات باللغة العربية؛
قوموا بتوزيعها في طريقكم".
خلال عملية طرد
وتهجير الفلسطينيين من مدينتي اللد والرملة في 11 تموز/ يوليو 1948، بقيادة إسحاق
رابين وموشيه ديان، "جُمِع جميع الرجال العرب في سن التجنيد وحُشِروا في سجون
خاصة. ثم جابت عربات إسرائيلية مزودة بمكبرات صوت المدينتين معلنة أنه لن يتم
توفير الطعام والماء، وأن أمام العرب 48 ساعة للخروج إلى شرق الأردن. ثم بدأت
القوات الإسرائيلية بنهب المدينتين".
كما استخدمت
إسرائيل مكبرات الصوت لإرهاب السكان خلال احتلالها عام 1967 لبقية فلسطين. في بيت
لحم، جابت سيارات جيب إسرائيلية المدينة الفلسطينية مُهددة السكان عبر مكبرات
الصوت: "أمامكم ساعتان لمغادرة منازلكم والفرار إلى أريحا أو عمّان، وإلا
ستُقصف منازلكم". وكما يتضح من كل هذه السوابق، فإن إرهاب نتنياهو عبر مكبرات
الصوت للفلسطينيين في معسكر الموت بغزة هو امتداد للتقاليد الصهيونية. كان المرء
ليظن أنه كان على ترامب أن يستخدم مكبرات الصوت في غزة لإعلان إنذاره النهائي
وخطاباته التهديدية المُوجّهة إلى السكان المُستضعفين.
بعد عامين من
الإبادة الجماعية الإسرائيلية، لم تُفضِ مذبحة إسرائيل إلى مواجهة بين الغرب ودول
الجنوب في الأمم المتحدة وفي العديد من المحافل الدولية فحسب، بل إنها مؤخرا وضعت
الولايات المتحدة في مواجهة مع حلفائها الأوروبيين الذين يأتمرون بأمرها حول
مسرحية الاعتراف بدولة فلسطينية غير قائمة. تعود مواجهة القوى الاستعمارية الغربية
مع دول الجنوب بشأن فلسطين إلى عام 1947، خلال التصويت على تقسيم فلسطين بين
المستعمرين الصهاينة والسكان الأصليين الفلسطينيين، وبشكل أكثر في عهد ما بعد
الاستعمار وصعود منظمة التحرير الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي.
خلال ذلك العقد،
اعترفت الأمم المتحدة بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، واعترفت بمنظمة
التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد له، وأدانت الصهيونية في تشرين الثاني/ نوفمبر
1975، في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379، باعتبارها "شكلا من
أشكال العنصرية والتمييز العنصري". وقد تظاهر سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة
آنذاك، حاييم هرتسوغ (الذي أمر بهدم منازل الفلسطينيين في حي المغاربة بالقدس
الشرقية قبل ذلك بتسع سنوات، في عام 1967) بالرعب قائلا: "كان هتلر سيشعر
وكأنه في وطنه بينكم"، مضيفا أن الأمم المتحدة قد أصبحت "مركزا عالميا
لمعاداة السامية". وهذه عبارة يرددها الدبلوماسيون الإسرائيليون بشكل روتيني
في الأمم المتحدة، تماما كما فعل نتنياهو الأسبوع الماضي عندما وصف الأمم المتحدة
بأنها "دارة الظلام" و"مستنقع المرارة المعادية للسامية".
وفي خطوة
استعراضية اشتهر بها الدبلوماسيون الإسرائيليون في الأمم المتحدة، مزّق هرتسوغ
قرار "الصهيونية عنصرية" إلى نصفين، وهو استعراض أشاد به السفير
الأمريكي آنذاك دانيال باتريك موينيهان (الذي اتُهم هو نفسه بالعنصرية ضد السود
بسبب تقرير عنصري سيئ السمعة كتبه عام 1965 عن "العائلة الزنجية"). وردا
على ذلك، أعادت إسرائيل تسمية جميع الشوارع والطرق في البلاد التي كانت تُسمى سابقا
"شارع الأمم المتحدة" إلى "طرق وشوارع الصهيونية".
وُلد هرتسوغ في
أيرلندا، وأصبح رئيسا لإسرائيل عام 1983. واليوم، يشغل ابنه، إسحاق هرتسوغ، منصب
رئيس إسرائيل. ووفاء لإرث والده، أبلغ الرئيس هرتسوغ الابن العالم بخطط إسرائيل
للإبادة الجماعية، عندما أعلن أن "هناك أمة بأكملها مسؤولة"، وأضاف: "ليس
صحيحا هذا الخطاب حول عدم معرفة المدنيين أو تورطهم. إنه غير صحيح على
الإطلاق". وقد أعلن هرتسوغ أيضا أن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل
ضد الشعب الفلسطيني "ليست بين إسرائيل وحماس فحسب، بل هي حربٌ تهدف، بكل صدق،
إلى إنقاذ الحضارة الغربية، والحفاظ على قيمها".
خطة ترامب
الأخيرة، التي تُواصل اتباع التقليد الأمريكي في حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في
تقرير المصير، مُصممةٌ لإلغاء الإدانة العالمية المتواصلة للإبادة الجماعية التي
ترتكبها إسرائيل. فانطلاقا من لوائح الاتهام التي وجهتها المحكمة الجنائية الدولية
لقادة إسرائيليين بارتكاب جرائم حرب، وتحقيق محكمة العدل الدولية الذي أشار بالفعل
إلى أن إسرائيل على الأغلب ترتكب إبادة جماعية، إلى الإعلان المتأخر الأخير لمكتب
حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بأن إسرائيل بالفعل ترتكب إبادة جماعية في غزة،
فضلا عن منظمات حقوق الإنسان الغربية مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش
وجماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية مثل "بتسيلم"، التي اتهمت كلها إسرائيل
بارتكاب إبادة جماعية، يأمل ترامب في محو هذه الإدانات والغضب العام الذي لا يمكن
إيقافه في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، بما في ذلك تواطؤ حكومات المتظاهرين
في الإبادة الجماعية، من خلال مكافأة إسرائيل واصطفاف عملاء الأنظمة العربية
للولايات المتحدة للقيام بنفس الشيء.
قالت حماس نعم لوقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، والانسحاب الإسرائيلي، وإدخال الغذاء والمؤن، وللجنة من الإداريين الفلسطينيين التكنوقراط لإدارة غزة بعد الإبادة الجماعية. كما وافقت على تسليم أسلحتها، ولكن فقط لحكومة فلسطينية مستقبلية في دولة فلسطينية مستقلة. لكن ما أصرت عليه، خلافا لمطالب ترامب، هو أن مستقبل غزة، وكيف ومن سيديرها من الفلسطينيين، لا الأجانب، متروك للشعب الفلسطيني
طالبت دعوة
الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو لتحرير الفلسطينيين الأسبوع الماضي بـ"جيش
قوي من الدول التي لا تقبل الإبادة الجماعية". ووفقا لذلك، أضاف بيترو:
"أدعو دول العالم وشعوبها، قبل كل شيء، كجزء لا يتجزأ من الإنسانية، إلى جمع
السلاح والجيوش. يجب أن نحرر فلسطين. أدعو جيوش آسيا، والشعوب الصقلبية العظيمة التي
هزمت هتلر ببطولة عظيمة، وجيوش بوليفار في أمريكا اللاتينية". وبدلا من
الانضمام إلى جيش التحرير هذا لوقف الإبادة الجماعية، تصطف الأنظمة العربية
العميلة، بما فيها السلطة الفلسطينية، وراء خطة ترامب لتعميق معاناة الفلسطينيين.
إن تأييد الدول
الأوروبية والعربية نفسها، التي حرضت وشجعت الإبادة الجماعية الإسرائيلية،
للاعتراف بدولة فلسطينية وهمية في الأسابيع الماضية، يُظهر أن اعترافها هو دعم
لإسرائيل وحقها في أن تكون وتظل دولة يهودية عنصرية قائمة على تفوق العرق اليهودي،
وهو ما أيدوه جميعا باعترافهم بالدولة الفلسطينية غير الموجودة. وكما كتبتُ هنا مؤخرا، يُعدّ هذا اعترافا بالسلطة الفلسطينية غير
المنتخبة المتعاونة في قمع الفلسطينيين. إن تأييد كل هؤلاء لخطة ترامب يضيف ببساطة
عصابة أخرى من المليارديرات تحت ستار "السلطة الانتقالية الدولية في
غزة"، التي ستشرف على القمع الوحشي الإسرائيلي وقمع السلطة الفلسطينية
المستقبلي لتدمير ما تبقى من حياة وسبل عيش الفلسطينيين.
قررت حماس أن
تلعب اللعبة الأمريكية بذكاء، فمنذ أن ادعى الأمريكيون تقديم صفقات لوقف إطلاق
النار وتبادل الأسرى في أيار/ مايو 2024، استجابت حماس دائما بشكل إيجابي، ولكن مع
إضافة تعديلات، بينما رفضتها إسرائيل جميعها. هذه المرة أيضا، قالت حماس نعم لوقف
إطلاق النار، وتبادل الأسرى، والانسحاب الإسرائيلي، وإدخال الغذاء والمؤن، وللجنة
من الإداريين الفلسطينيين التكنوقراط لإدارة غزة بعد الإبادة الجماعية. كما وافقت
على تسليم أسلحتها، ولكن فقط لحكومة فلسطينية مستقبلية في دولة فلسطينية مستقلة.
لكن ما أصرت عليه، خلافا لمطالب ترامب، هو أن مستقبل غزة، وكيف ومن سيديرها من
الفلسطينيين، لا الأجانب، متروك للشعب الفلسطيني، وأنها لا تستطيع التفاوض نيابة
عنه. لقد أفسد ردها غير المتوقع خطط إسرائيل، ويبدو أن ترامب قد قبل ردها حتى
الآن، لكن تهديداته لا تزال سارية، ويمكنه التراجع ورفض قبول حماس كما فعل في كانون
الثاني/ يناير الماضي.
يجب على أولئك
الذين يدعمون حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي
والإبادة الجماعية ألا يتراجعوا في معارضتهم لتهديدات ترامب وإسرائيل وإنذاراتهما
النهائية، والتي تهدف إلى إطالة أمد معاناة الفلسطينيين في المستقبل المنظور، وينبغي
عليهم بدلا من ذلك دعم دعوة الرئيس بيترو لتحرير فلسطين والفلسطينيين، فهذه هي
الوصفة الوحيدة للسلام الدائم.