أعرب
بنيامين نتنياهو في الأسابيع الأخيرة عن دعمه الصريح لمشروع "
إسرائيل الكبرى"
التي تشمل أراضي عدة دول عربية مجاورة، فضلا عن كامل مساحة
فلسطين التاريخية، استنادا
إلى مزاعم تقول إن العبرانيين القدماء عاشوا فيها وأن "إله اليهود" قد
وعد شعبه المختار بها.
ومشروع
"إسرائيل الكبرى"، بطبيعة الحال، ليس إلا امتدادا لإسرائيل الكبرى القائمة
حاليا، التي تشمل الاستيطان
الاستعماري اليهودي في القدس الشرقية، وهضبة الجولان، والضفة
الغربية، والذي تسعى الحكومة الإسرائيلية، كما هو واضح، إلى استكماله بالسيطرة على
غزة مجددا، والتوسع فيه ليضم منطقة أوسع تشمل دولا عربية مجاورة.
ومع
ذلك، وعلى الرغم من وضوح الطابع الاستعماري الاستيطاني للمشروع الصهيوني منذ
بداياته، فإن مؤيدي إسرائيل كثّفوا، منذ بدء الإبادة الجماعية لفلسطينيي غزة في
تشرين الأول/ أكتوبر 2023، من خطابهم الدفاعي عن جرائم إسرائيل بوصفها "دفاعا
عن النفس"، وليست جزءا من أيديولوجيتها الاستعمارية الاستيطانية، وشنوا حملة دعائية
واسعة النطاق مفادها أن إسرائيل والإسرائيليين هم "ضحايا الفلسطينيين"، وليس
العكس. ولكي يضمنوا نجاح هذا المنطق، اضطروا إلى مواجهة تاريخ الاستعمار الاستيطاني
الصهيوني، الذي يُشكّل أساس القمع الإسرائيلي للفلسطينيين، وذلك عبر إنكاره تماما.
على الرغم من وضوح الطابع الاستعماري الاستيطاني للمشروع الصهيوني منذ بداياته، فإن مؤيدي إسرائيل كثّفوا، منذ بدء الإبادة الجماعية لفلسطينيي غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، من خطابهم الدفاعي عن جرائم إسرائيل بوصفها "دفاعا عن النفس"، وليست جزءا من أيديولوجيتها الاستعمارية الاستيطانية، وشنوا حملة دعائية واسعة النطاق مفادها أن إسرائيل والإسرائيليين هم "ضحايا الفلسطينيين"
فبينما
حرصت الحركة
الصهيونية والنظام الإسرائيلي منذ ثلاثينيات القرن الماضي على تغيير لغتهما،
التي لطالما وُصفت جهودهما بأنها "استعمارية" و"استعمار"، وأسماء
المؤسسات التي أنشآها، والتي شملت "الصندوق الاستعماري اليهودي" و"جمعية
الاستعمار اليهودي في فلسطين".. إلخ، فقد بدأوا يُصرّون منذ ذلك الحين على أن
الفلسطينيين هم المستعمرون الحقيقيون لهذه الأرض "اليهودية" القديمة.
لكن
مع اندلاع الحرب الأخيرة على غزة، تصاعد هذا الهجوم الأيديولوجي دفاعا عن المشروع
الصهيوني. فمثلا، تُصرّ اللجنة اليهودية الأمريكية على استحالة وصف ما ارتكبته
إسرائيل بأنه استعمار استيطاني، بحجة أن الاستعمار الاستيطاني هو عندما
"تحاول قوة إمبريالية استبدال السكان الأصليين لأرض ما بمجتمع جديد من
المستوطنين". وتضيف بأن ما يجري في فلسطين مختلف تماما، إذ "عادت جماعة
قومية إلى وطنها التاريخي لتقرير مصيرها، وليس تنفيذا لأوامر قوة خارجية، وبالمقابل
تدعم إنشاء دولة قومية لجماعة قومية أخرى إلى جانب إنشاء دولتها". والنقطة
الأخيرة تشير إلى قبول الصهاينة بقرار التقسيم لعام 1947.
دعونا
نتناول بإيجاز النقطتين الرئيسيتين في هذه الحجة:
أولا: ذريعة "العودة" إلى "أراضيهم
القديمة". وهي حجة استخدمتها معظم القوى الاستعمارية الاستيطانية الأوروبية،
ومنها:
-
الفرنسيون برّروا استعمارهم للجزائر بالقول إنهم "يعودون" إلى أراضي
الإمبراطورية الرومانية التي ورثوها، معتبرين أن العرب الجزائريين هم المستعمرون
الفعليون.
- الإيطاليون ادّعوا الشيء نفسه في ليبيا، باعتبارها جزءا من
"الإمبراطورية الرومانية" القديمة.
- حتى النازيون الألمان زعموا أن غزوهم لأوروبا الشرقية وروسيا الأوروبية
ومشروعهم الاستعماري الاستيطاني هناك كان بمثابة "عودة"، وقيل إن هذه الأراضي
ليست أجنبية، بل على العكس، هي أراضٍ "يعود إليها" الشعب الألماني. وكان
هتلر صريحا في هذا عندما صرّح بأن "أهدافي ليست مُفرطة، فهذه في الأساس جميعها
مناطق استوطنها الألمان سابقا. ويهدف الشعب الألماني إلى النمو في هذه الأراضي".
في الواقع، سعى النازيون أيضا إلى "العودة" إلى أراضي الرايخ الأول أو
"الإمبراطورية الرومانية المقدسة" التي شملت أراضيها روسيا الأوروبية وبولندا
وأوكرانيا وبيلاروسيا ودول البلطيق، من بين دول أخرى.
-
أما الادعاء الصهيوني بأن اليهود الأوروبيين باستعمارهم فلسطين كانوا ببساطة
"يعودون" إلى "وطنهم القديم" فيتوافق تماما مع هذا التاريخ الأوروبي
للاستعمار الاستيطاني.
ثانيا:
أسطورة أن المستعمرين الاستيطانيين لا يؤيدون "إنشاء دولة قومية لجماعة قومية أخرى إلى جانب دولتهم" هي ادعاء مضلل آخر.
في الواقع، أصر النظام الأبيض في جنوب أفريقيا على إنشاء عشرة أوطان (بانتوستانات مستقلة)
للسكان الأصليين السود الذين يشكلون الأغلبية، ومنحهم جنسيات منفصلة عن دولة جنوب أفريقيا
البيضاء، مما أدى إلى تجريد السكان السود من جنسيتهم الأصلية.
وشأنهم
شأن الفرنسيين والإيطاليين والألمان، ادعى الصهاينة أن السكان الأصليين الفلسطينيين
هم المستعمرون الحقيقيون لـ"الوطن القديم" لليهود الأوروبيين، زاعمين أن
الفلسطينيين هم أحفاد العرب المسلمين الذين غزوا بلاد الشام وفلسطين في القرن السابع.
لكن هذا الادعاء يتجاهل حقائق التاريخ:
فالغزو
العربي لم يكن استعمارا استيطانيا، بل كان توسّعا تبشيريا هدفه نشر الإسلام. إذ
ظلّ السكان الأصليون في سوريا وفلسطين، اللتين كانتا تحت الحكم البيزنطي -ومنهم الغساسنة
المسيحيون الناطقون بالعربية- يشكّلون الأغلبية الساحقة لقرون طويلة بعد الفتح
الإسلامي.
وقد
استغرق الأمر ما يقارب خمسة قرون، سواء في فلسطين وسوريا الكبرى أو في مصر (حيث
طال الزمن أكثر)، قبل أن يعتنق معظم السكان، الذين كانوا في الأصل مسيحيين،
الإسلام. ومع ذلك، فقد اعتمدت الأغلبية اللغة العربية وتعرّبت ثقافيا في وقت أبكر
بكثير، بما في ذلك معظم الكنائس المسيحية الأصلية في المناطق المفتوحة.
كما
أن الهجرة العربية إلى هذه الأراضي كانت محدودة للغاية؛ إذ لم ينتقل سوى عدد قليل جدا
من العرب إلى بلاد الشام، واستقر بضعة آلاف منهم فقط في المدن الكبرى. وعندما شنّ
الصهاينة الأوائل -أي الفرنجة- الحروب الصليبية على فلسطين في القرن الحادي عشر،
كان معظم سكان البلاد من الأهالي الأصليين من المسيحيين الناطقين بالعربية، مع
وجود أقلية من المسلمين الناطقين بالعربية. حتى أن مؤسسَي الاستعمار الصهيوني نفسيهما،
ديفيد بن غوريون وإسحاق بن تسفي، أكّدا في كتاب شاركا في تأليفه عام 1919 بأن
غالبية الفلسطينيين هم، في الواقع، أحفاد العبرانيين القدماء الذين اعتنقوا
المسيحية ثم الإسلام لاحقا.
لقد
أخطأت القوى الاستعمارية الأوروبية ذات النزعة العرقية في تصنيف العروبة كفئة عرقية
لا كهوية لغوية وثقافية، ومن ثمّ سعت إلى تقسيم العرب على أسس عرقيّة، مدّعية أن المصريين
والعراقيين وسكان شمال أفريقيا والموارنة، وغيرهم، ليسوا عربا في الأصل، بل شعوبٌ "غزاها
العرب"، ثم تعربت لاحقا. ومع ذلك، فإن الخطاب القومي العربي لا يعارض هذه
الحقيقة، بل يُقرّ بأن غالبية سكان المنطقة هم بالفعل من شعوب تعرّبت عبر الزمن،
لكنه يصرّ في المقابل على أن العروبة ليست انتماء عرقيا بقدر ما هي هوية لغوية
وثقافية يتحدد جوهرها في اللغة العربية بوصفها اللغة الأم لشعوب المنطقة.
ومن
الحجج الصهيونية الشائعة أيضا القول بأن بريطانيا لم تكن "الوطن الأم" للمستوطنين
الصهاينة، إذ لم يكن المستوطنون في غالبيتهم مواطنين بريطانيين، بل جاءوا من دول أوروبية
متفرقة. غير أن هذه الحجة لا تصمد أيضا عند المقارنة التاريخية، إذ كان الاستعمار الاستيطاني
لفلسطين في الواقع نموذجيا للمستعمرات الاستيطانية الأوروبية الأخرى، حتى وإن كانت
الرعاية البريطانية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني ليهود أوروبيين، بمن فيهم بريطانيون،
ولم تكن لمستوطنين بريطانيين حصريا، تجعله يبدو فريدا.
فقد
رعى البريطانيون استعمار أيرلندا من قِبل مستوطنين من البريطانيين والألمان والفرنسيين
البروتستانت، مع أن معظم هؤلاء كانوا أسكتلنديين وإنجليز. كما رعى الهولنديون استعمار
جنوب أفريقيا على أيدي مستوطنين من الهولنديين والفرنسيين البروتستانت، مع احتفاظ
الهولنديين بالهيمنة العددية والسياسية؛ كما رعى الفرنسيون استعمار شمال أفريقيا ليس
فقط من قِبل المواطنين الفرنسيين، بل أيضا من قِبل الإسبان والإيطاليين والسويسريين
والمالطيين والروس، حتى مع بقاء المستوطنين الرئيسيين من الفرنسيين. ولم يكن الأمر
مختلفا في الاستعمار الاستيطاني الروسي القيصري للأراضي العثمانية التي احتلتها
قيصرة روسيا كاترين العظيمة في أواخر القرن الثامن عشر، فقد شجعت العديد من الجنسيات
غير الروسية، بما في ذلك اليهود البولنديين، بالإضافة إلى البلغار والإيطاليين والألمان
واليونانيين، وغيرهم الكثير، على الاستيطان في الأراضي العثمانية التي استولت
عليها. وبعد أكثر من قرن على تأسيسها، كانت مستعمرة أوديسا الاستيطانية الروسية عام
1897 مثالا على هذا التنوع الاستيطاني، حيث ضمت أغلبية من اليهود واليونانيين والأوكرانيين
والبولنديين والألمان، بينما كانت نسبة الروس أقل من 49 في المئة.
في
ضوء هذه السوابق التاريخية، لا يمكن اعتبار الرعاية البريطانية للمستعمرين الصهاينة،
وبعضهم بريطانيون، حالة استثنائية بقدر ما هي نسخة مبالغ فيها من السياسات
الاستيطانية التي مورست في أماكن أخرى.
ثمّة
من يظنّون أنفسهم أذكياء ومحنّكين حين يزعمون أنّ الصهيونية كانت أكثر تعقيدا
و"تفردا" من سائر مشاريع الاستعمار الاستيطاني، لأنها -بحسب زعمهم- سعت
إلى تحقيق ما يسمّى بـ"حق تقرير المصير" و"التحرّر الوطني"
لليهود، مثلها مثل الشعوب المستعمَرة التي ناضلت ضد الهيمنة الأجنبية. لكن هذا الادعاء لا يصمد أمام الحقائق التاريخية؛ إذ ليس في
التجربة الصهيونية ما يميّزها عن غيرها من المشاريع الاستيطانية البيضاء حول
العالم.
ما يثير الجدل حقّا هو الأسطورة الأكثر شيوعا، وهي الادعاء بأن اليهود المعاصرين هم الأحفاد المباشرون والوحيدون للعبرانيين القدماء. وقد رُوِّج لهذا الادعاء في سياقات دينية وسياسية متشابكة؛ إذ أسهمت الكنيسة الكاثوليكية في ترسيخه من خلال ربط اليهود الأوروبيين بالعبرانيين القدماء، ووسمهم بـ"قتلة المسيح"، في إطار العداء التاريخي لليهود داخل أوروبا
فالمستوطنون
البيض في أمريكا الشمالية خاضوا حربا ضد بريطانيا طلبا لـ"الاستقلال"،
ثم أسّسوا على أنقاض السكان الأصليين كيانهم الجديد. وكذلك فعل المستوطنون الإسبان
فيما يُعرف اليوم بـأمريكا اللاتينية حين تمرّدوا على إسبانيا نفسها، بينما كانوا
في الأصل نتاجا لمشروعها الاستعماري.
وفي
جنوب أفريقيا، خاض المستوطنون الهولنديون حروبا ضد البريطانيين بهدف تحقيق ما
أسموه "الاستقلال" وضمان سيادتهم على الأرض التي استولوا عليها من
السكان الأصليين، وهو ذات المنطق الذي استند إليه الصهاينة لاحقا؛ حيث هاجم بعض
الصهاينة بعد عام 1945، البريطانيين أنفسهم لتحقيق "استقلال" مستعمرتهم
الاستيطانية الصهيونية في فلسطين.
والأمر
لم يتوقف هنا؛ فالمستوطنون الفرنسيون في الجزائر حاولوا الانقلاب على فرنسا للحفاظ
على سيادتهم على مستعمرتهم الاستيطانية، في تكرار مألوف للسيناريو نفسه. وكذلك فعل
المستوطنون البريطانيون البيض في روديسيا، الذين تمرّدوا على بريطانيا للحفاظ على
حكم الأقلية البيضاء.
أمّا
الحجّة الأخيرة، والأشدّ تأثيرا على الشعوب المسيحية الأوروبية والأمريكية،
فهي الادعاء بأن أصول اليهود الأوروبيين المزعومة تعود إلى أرض الفلسطينيين استنادا
إلى الروايات التوراتية، وبشكل أكثر إثارة للجدل مؤخرا، استنادا لروابط "جينية"
مزعومة. هذه "الروابط التاريخية والتوراتية المزعومة بالأرض" هي في الواقع
جوهر الادعاء الصهيوني في مطالبتهم بوطن الفلسطينيين، وتشمل التأكيد الأساسي على أن
"الشعب اليهودي" عاش في فلسطين قبل ألفي عام وكان ساكنها الوحيد والحصري.
ولكن
بعض من عاشوا في فلسطين قبل ألفي عام كانوا العبرانيين وليسوا "الشعب اليهودي"
(والأخير مفهوم نشأ في وقت متأخر)، ولم يعش العبرانيون هناك بمفردهم قط. في الواقع،
تُخبرنا الرواية التوراتية اليهودية، كما وردت في سفر يشوع، أن العبرانيين لم يكونوا
من سكان فلسطين الأصليين، بل استولوا على أرض كنعان من الكنعانيين واحتلوها، مُدّعين
أن إلههم قد "وعدهم" بها. حتى إبراهيم، الذي يُقدَّم في الرواية
التوراتية بوصفه أبا العبرانيين وصاحب العهد مع الإله، لم يكن من فلسطين أصلا؛ بل
جاء من أور، في جنوب العراق الحديث. أي أنّ الرواية التوراتية نفسها تكشف أن
فلسطين لم تكن "الوطن الأصلي" للعبرانيين.
لكن
ما يثير الجدل حقّا هو الأسطورة الأكثر شيوعا، وهي الادعاء بأن اليهود المعاصرين
هم الأحفاد المباشرون والوحيدون للعبرانيين القدماء. وقد
رُوِّج لهذا الادعاء في سياقات دينية وسياسية متشابكة؛ إذ أسهمت الكنيسة
الكاثوليكية في ترسيخه من خلال ربط اليهود الأوروبيين بالعبرانيين القدماء، ووسمهم
بـ"قتلة المسيح"، في إطار العداء التاريخي لليهود داخل
أوروبا.
كما
تبنّت حركة الإصلاح البروتستانتي هذا الربط من زاوية مختلفة، إذ رأت في طرد اليهود
الأوروبيين إلى فلسطين وسيلة لتسريع ما اعتقدته بأنه "المجيء الثاني للمسيح". ولم يبدأ الأوروبيون، وخصوصا المسيحيين منهم، في النظر
إلى اليهود على أنهم "أمة" أجنبية
متميزة إلا مع نهاية القرن الثامن عشر.
إن
اعتقاد كثير من اليهود المتدينين تاريخيا بأنهم جاءوا أصلا من فلسطين يشبه إلى حد
بعيد فرضية زعم مسلمين من الهند، أو الصين، أو إندونيسيا، أو نيجيريا، أو ماليزيا،
بأنهم قدموا جميعا من شبه الجزيرة العربية لمجرد أنها كانت مهد دينهم. ولو اتبعنا
هذا المنطق، لكان من حق هؤلاء الادعاء بوجود "حق تاريخي لا يقبل الجدل"
لهم في مكة وسائر الجزيرة العربية، ولأصبح بإمكانهم المطالبة بوجود
"مستمر" هناك لمجرد أن قلة من حجاجهم عبر القرون استقروا في مكة أو
المدينة، أو لأن بعض المهاجرين العرب المسلمين انتقلوا فعلا إلى تلك الأقاليم في
فترات مختلفة من التاريخ.
لطالما استندت الصهيونية إلى هذه الحجج الواهية التي لا تصمد أمام أدنى تدقيق عقلاني. لقد فنّد الفلسطينيون جميع هذه الحجج على مدى قرن وربع قرن وأثبتوا بطلانها، لكن عقلانية جهودهم ونتائجها العلمية لم تحظ قط بقبول رعاة إسرائيل الإمبرياليين. فما جعل خطاب الصهيونية الزائف مقنعا في الغرب هو التزام المسيحيين الأوروبيين بمزاعم دينية مقتبسة من "الكتاب المقدس"
غير
أن الصهاينة يرفضون مثل هذه المقارنات رفضا قاطعا، ويصرّون على أن مزاعمهم تستند
إلى فرضية أخرى لا تقل خيالية، وهي الادعاء بأن الإسلام والمسيحية كانتا ديانتين
تبشيريتين، بينما اليهودية لم تكن كذلك. لكنّ هذا الادعاء سقط أمام الدليل العلمي القاطع،
إذ أثبتت دراسات تاريخ الأديان والوثائق الموثوقة أن اليهودية مارست نشاطا تبشيريا
واسعا، وأن اعتناقها جماعيا ظلّ قائما في مجتمعات عديدة حتى القرن التاسع الميلادي
على الأقل.
حتى
لو افترضنا جدلا إمكانية إثبات وجود "صلة" تاريخية، أو حتى جغرافية، بين
يهود أوروبا وفلسطين، وأنهم ليسوا من نسل أوروبي ممن اعتنقوا اليهودية، فإن تحويل الصهيونية
لهذه "الصلة" إلى "حق" في استعمار فلسطين ليس له أساس أخلاقي،
ناهيك عن قانوني. لو قام الأمريكيون والأستراليون والنيوزيلنديون والجنوب أفريقيون
البيض بتحويل "صلتهم" التاريخية الفعلية بأوروبا، فلن يمنحهم ذلك "الحق"
في استعمار الأوطان التي انبثق منها أسلافهم الحقيقيون، لا الوهميون. علاوة على ذلك،
فإن كون ما يُعرف الآن ببريطانيا كانت في يوم من الأيام جزءا من الإمبراطورية الرومانية
لا يمنح الإيطاليين المعاصرين الحق في المطالبة بها اليوم.
إن
استيلاء الصهيونية على تاريخ العبرانيين الفلسطينيين باعتبارهم أسلاف اليهود الأوروبيين
هو عمل مُدبّر لقطع صلة الشعب الفلسطيني بأصوله العبرية. ففي حين يستطيع جيرانهم المصريون
والأردنيون واللبنانيون والعراقيون سرد تاريخ وطني يمتد إلى الفراعنة والأنباط والفينيقيين
والبابليين دون أي جدال، فلا يمكن للفلسطينيين الادعاء بأي حق وطني في ماضي فلسطين،
إذ قرر مستعمرون يهود أوروبيون غرباء الاستيلاء على هذا الماضي واستبعاد الفلسطينيين
الأصليين منه. وهكذا، بينما قد يدّعي الفلسطينيون أن الكنعانيين هم أجدادهم، وهو أمر
مثير للجدل عند الصهاينة ورعاتهم، يُحظر عليهم الادعاء بأن العبرانيين الفلسطينيين
القدماء هم أيضا أجدادهم.
لطالما
استندت الصهيونية إلى هذه الحجج الواهية التي لا تصمد أمام أدنى تدقيق عقلاني. لقد
فنّد الفلسطينيون جميع هذه الحجج على مدى قرن وربع قرن وأثبتوا بطلانها، لكن عقلانية
جهودهم ونتائجها العلمية لم تحظ قط بقبول رعاة إسرائيل الإمبرياليين. فما جعل خطاب
الصهيونية الزائف مقنعا في الغرب هو التزام المسيحيين الأوروبيين بمزاعم دينية
مقتبسة من "الكتاب المقدس" أعيد صياغتها، ومعايير عنصرية بررت ليس فقط الاستعمار
الاستيطاني الصهيوني، بل أيضا الغزو الأوروبي للأمريكيتين وسائر أنحاء العالم، كما
بررت استعباد الأفارقة واستمرار الهيمنة الغربية على العالم. فحقيقة الأمر هي أنه
لا توجد حجة واحدة طرحتها الصهيونية أو استندت إليها تختلف عن تلك التي طرحها المستعمرون
الأوروبيون الآخرون لتبرير مشاريعهم الاستيطانية.