كتاب عربي 21

حلفاء إسرائيل مذعورون بشأن مصيرها

"الجماعات اليهودية المعادية للصهيونية وغيرها من الجماعات اليهودية اليسارية أدانت منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 واحتجت على الإبادة الجماعية"- جيتي
دبّ الذعر فجأة في أوصال مؤيدي إسرائيل حول العالم. فالأنظمة الاستعمارية الغربية، بما فيها المستعمرات الاستيطانية البيضاء في أستراليا وكندا ونيوزيلندا، باتت تشعر بقلق بالغ إزاء مصير آخر مستعمرة استيطانية أوروبية في آسيا، حتى المنظمات اليهودية البريطانية والأمريكية المؤيدة لإسرائيل انضمت إلى هذه الجوقة الجديدة من القلقين.

وفي حين دأب مؤيدو إسرائيل الغربيون على الدفاع المطلق عن جرائم إسرائيل المستمرة قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ومن بعده، باغتهم اليوم نوع من "صحوة الضمير" الأخلاقية تجاه المرحلة الأحدث من الإبادة الجماعية، إذ لم يقتصر الأمر على استمرار القصف الإسرائيلي وإشعال محرقة في غزة، بل تعداه إلى تجويع متعمد للناجين.

وعلى النقيض من الجماعات اليهودية المعادية للصهيونية وغيرها من الجماعات اليهودية اليسارية التي أدانت منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 واحتجت على الإبادة الجماعية الإسرائيلية، حافظت معظم المنظمات اليهودية البريطانية والأمريكية الرئيسة المؤيدة لإسرائيل على موقفها الداعم للجرائم الإسرائيلية. لكن تحولا لافتا طرأ خلال الأسبوعين الأخيرين، ظهر على شكل تصريحات متزامنة، تبدو ظاهريا منسقة، تعرب فجأة عن قلق إزاء المجاعة في غزة.

ينبغي الحذر من التعامل مع هذه المشاعر بوصفها إجماعا عالميا؛ إذ أظهر استطلاع رأي أخير بأن 79 في المئة من اليهود الإسرائيليين يقولون إنهم "غير منزعجين" أو "غير منزعجين على الإطلاق" من تقارير المجاعة ومعاناة الفلسطينيين في غزة

في 27 تموز/ يوليو، أصدرت "اللجنة اليهودية الأمريكية" المؤيدة لإسرائيل بيانا يدعم "حرب إسرائيل المبررة للقضاء على التهديد الذي تشكله حماس وتأمين إطلاق سراح الرهائن المتبقين"، لكنها أعربت عن "حزنها الشديد للخسائر الفادحة التي أوقعتها هذه الحرب في صفوف المدنيين الفلسطينيين"، وزعمت أنها "قلقة للغاية إزاء تفاقم أزمة انعدام الأمن الغذائي في غزة". كما رحبت اللجنة "بإعلان إسرائيل عن سلسلة من الإجراءات الإضافية المهمة لزيادة تدفق وتوزيع المساعدات في غزة"، وحثت "إسرائيل ومؤسسة غزة الإنسانية والأمم المتحدة وجميع الأطراف المسؤولة على المشاركة في توزيع المساعدات وعلى زيادة التعاون والتنسيق لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين الفلسطينيين في غزة".

لم يقتصر هذا القلق المتأخر على الفلسطينيين على اللجنة اليهودية الأمريكية. ففي الأسبوع ذاته، أعربت الجمعية الحاخامية في نيويورك، التي تمثل الطائفة اليهودية المحافظة، عن قلقها المتزايد "إزاء تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة"، مطالبة "باتخاذ إجراءات عاجلة لتخفيف معاناة المدنيين وضمان إيصال المساعدات". ودعت الجمعية إلى "مستقبل قائم على العدالة والكرامة والسلامة لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين"، ودعت إسرائيل إلى "بذل كل ما في وسعها لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين". واستنادا إلى التعاليم اليهودية، أكدت المجموعة أن "التقاليد اليهودية تدعونا إلى ضمان توفير الغذاء والماء والإمدادات الطبية كأولوية قصوى".

وانضمت إلى هذه الجماعات "حركة الإصلاح" في أمريكا الشمالية، وهي أكبر طائفة يهودية في الولايات المتحدة، والتي عارضت الصهيونية بشدة حتى أربعينيات القرن الماضي. وأصدرت هي الأخرى بيانا في 27 تموز/ يوليو جاء فيه: "لم يُقرّب تصعيد الضغط العسكري ولا تقييد المساعدات الإنسانية إسرائيل من إبرام صفقة أسرى أو إنهاء الحرب". وأضافت أن "إسرائيل يجب ألا تضحي بمكانتها الأخلاقية.. إن تجويع المدنيين في غزة لن يجلب لإسرائيل "النصر الكامل" على حماس الذي تسعى إليه، ولا يمكن تبريره بالقيم اليهودية أو القانون الإنساني".

وبعد بضعة أيام، أكدت رسالة وقّعها أكثر من ألف حاخام من مختلف الطوائف حول العالم "باسم السمعة الأخلاقية ليس فقط لإسرائيل، بل لليهودية نفسها، اليهودية التي نكرّس حياتنا لها"؛ أنه "لا يمكننا التغاضي عن عمليات القتل الجماعي للمدنيين، بمن فيهم عدد كبير من النساء والأطفال وكبار السن، أو استخدام التجويع كسلاح حرب".

لم ينحصر هذا القلق في المنظمات الأمريكية، ففي 29 تموز/ يوليو دعت أكبر منظمة يهودية في المملكة المتحدة، وهي "مجلس المندوبين"، إلى "زيادة سريعة ومتواصلة وغير مقيدة في المساعدات من خلال جميع القنوات المتاحة" لفلسطينيي غزة. ويأتي ذلك بعد شهر فقط من قيامها بمعاقبة أعضائها الذين انتقدوا جرائم إسرائيل في غزة.

كما دعت مجموعة تضم 31 شخصية إسرائيلية بارزة المجتمع الدولي أيضا إلى فرض "عقوبات قاسية" على إسرائيل بسبب جريمتها المتمثلة في تجويع الفلسطينيين. وقد فعلوا ذلك في الأسبوع نفسه الذي قررت فيه منظمتان إسرائيليتان لحقوق الإنسان، هما "بتسيلم" و"أطباء من أجل حقوق الإنسان في إسرائيل"، الانضمام إلى بقية المنظمات العالمية في إصدار تقارير في 28 تموز/ يوليو تُصنّف ما ترتكبه إسرائيل على أنه "إبادة جماعية". ويُقال إن دونالد ترامب نفسه صرخ في وجه نتنياهو خلال مكالمة هاتفية أُجريت مؤخرا طالبا منه التوقف عن إنكار المجاعة.

ومع ذلك، ينبغي الحذر من التعامل مع هذه المشاعر بوصفها إجماعا عالميا؛ إذ أظهر استطلاع رأي أخير بأن 79 في المئة من اليهود الإسرائيليين يقولون إنهم "غير منزعجين" أو "غير منزعجين على الإطلاق" من تقارير المجاعة ومعاناة الفلسطينيين في غزة.

وقد اعترضت معظم الأنظمة الغربية على السياسات الإسرائيلية الأخيرة، لا سيما خطة إسرائيل المعلنة لإعادة احتلال غزة. حتى محررو صحيفة الغارديان البريطانية المؤيدة لإسرائيل باتوا في حالة متقدمة من الذعر، ما دفعهم إلى توجيه تحذيرات صارمة لإسرائيل مؤكدين أن هذه الإجراءات "لا تضمن نصرا عسكريا، بل تُصعّد القتال مع حماس دون أي سبيل لإنهائه". وقد انضم إلى موقف الصحيفة عدد من أبرز حلفاء إسرائيل الغربيين، بمن فيهم بريطانيا وألمانيا وفرنسا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا وغيرها، في رفض إعادة الاحتلال، رغم إعلان بنيامين نتنياهو أن هدفه يقتصر على "تحرير غزة من حماس وتمكين حكومة سلمية هناك". وقد حظرت الحكومة الألمانية المؤيدة لإسرائيل للغاية، والتي دعمت جميع الإجراءات الإسرائيلية منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر، مبيعات الأسلحة الجديدة إلى دولة الإبادة الجماعية والتي يمكن استخدامها في محرقة غزة المستمرة.

يتزامن ذلك مع أحدث كمين وخدعة غربية، تتمثل بالاعتراف الشهر المقبل بدولة فلسطينية وهمية، في محاولة يائسة لإنقاذ المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية وحمايتها من نفسها، وللتغطية على الدعم الغربي العلني والنشط للإبادة الجماعية. أما الأنظمة العربية الديكتاتورية التي يرعاها الغرب والتي لم تتردد في دعم الإبادة الجماعية الإسرائيلية، فما انفكت تواصل دعمها لهذه السياسات، ماديا وسياسيا.

لكن ما الذي أوصل الأمور إلى هذا الحد؟ وما الذي جعل هذه المواقف "الإنسانية" تطفو فجأة على السطح؟

 يكمن الجواب في تراكم اعترافات مقرري الأمم المتحدة المستقلين ومنظمات حقوق الإنسان -بما فيها التقارير الإسرائيلية المتأخرة- التي وصفت ما يجري في غزة بأنه إبادة جماعية، الأمر الذي عرقل تماما محاولات الحكومات الغربية ووسائل إعلامها الكبرى لتبرير الجرائم أو إنكارها أو التقليل من حجم الدمار والقتل خلال الأشهر الماضية. وإلى جانب ذلك، كشف الفشل الذريع لإسرائيل في حسم الحرب ضد حماس، فضلا عن عجزها في مواجهة إيران، عن محدودية قدراتها العسكرية التي تبرز فعاليتها أساسا في قتل المدنيين، دون أن تنجح في إخضاعهم. هذا الواقع أصبح مصدر قلق أمني عميق للحكومات الغربية، التي لولا دعمها اليومي -العسكري والاستخباراتي والمالي والدبلوماسي- منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر، لما تمكنت إسرائيل من مواصلة الإبادة الجماعية أو حتى الدفاع عن نفسها أمام من اعتدت عليهم بلا انقطاع لعقود.

تكشف استطلاعات الرأي في مختلف أنحاء العالم الغربي أن غالبية الناس، من اليمين إلى اليسار، تدين الفظائع الإسرائيلية. وحتى في الولايات المتحدة نفسها، لم يعد الرفض حكرا على اليسار، بل امتد ليشمل قطاعات من اليمين المؤيد لترامب، التي باتت هي الأخرى تعارض الدعم الأمريكي المستمر للمستعمرة الاستيطانية

إنّ إصرار الحكومة الإسرائيلية، المدعومة من غالبية الناخبين اليهود الإسرائيليين، على المضي قُدُما في سياساتها الإبادية دون هوادة، بات يشكّل خطرا حقيقيا على مكانة البلاد في الرأي العام الغربي، وهو ما زاد الطين بلّة بالنسبة إلى داعميها في الغرب. فباستثناء الولايات المتحدة، الراعية الأساسية لإسرائيل و"الوطن الأم" لمستعمرتها، يتضح بشكل متزايد أن حلفاءها الغربيين لم يعودوا مستعدين للمضي في دعم إبادة الفلسطينيين وتجويعهم وإعادة احتلال غزة بالقدر الذي تطمح إليه إسرائيل.

فهل هم بصدد التخلي عن سفينة تغرق؟

يبدو أننا بتنا قريبين من مصير شبيه بمصير المستوطنين الفرنسيين في نهاية حرب تحرير الجزائر أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، إذ سئم الفرنسيون من العنف الوحشي الذي مارسه المستوطنون الفرنسيون ضد الجزائريين وحتى داخل فرنسا نفسها، في محاولة يائسة للحفاظ على مستعمرتهم الاستيطانية. ولعلنا نرى اليوم مشهدا متكررا في الحالة الإسرائيلية. إذ تكشف استطلاعات الرأي في مختلف أنحاء العالم الغربي أن غالبية الناس، من اليمين إلى اليسار، تدين الفظائع الإسرائيلية. وحتى في الولايات المتحدة نفسها، لم يعد الرفض حكرا على اليسار، بل امتد ليشمل قطاعات من اليمين المؤيد لترامب، التي باتت هي الأخرى تعارض الدعم الأمريكي المستمر للمستعمرة الاستيطانية.

إن انكشاف السياسات الإسرائيلية الإبادية للرأي العام العالمي صار سيفا مسلطا على رقاب مؤيدي إسرائيل الغربيين المتشبثين بها، وأضحى مصدر قلق حقيقي لديهم من أن إسرائيل، بهذه السياسات المنفلتة، قد تواجه مصيرا مشابها لمصير الجزائر الفرنسية. وما يزيد وطأة هذا القلق هو تحذير نتنياهو نفسه، الذي لم يفتر منذ عقد من الزمن عن التعبير عن خشيته من أن إسرائيل قد لا تتمكن من الصمود لتبلغ عيد ميلادها المئة، مما يمنح هذه المخاوف مصداقية كبيرة ويشي بأن إسرائيل تسير بخطى متسارعة نحو نهايتها المحتومة.