خطة
ترامب قُدّمت لترفض؛ كان ذلك رأي الكثيرين في تقييم "خطة
السلام" التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال مؤتمر صحافي مع رئيس
وزراء الاحتلال بنيامين
نتنياهو. فالخطة التي تبدي عناية خاصة باستعادة الأسرى
"الإسرائيليين" كافة، أحياء وجثامين، كخطوة أولى وضرورية، تسعى في
بنودها السياسية لتصفية القضية الفلسطينية وإنهاء المقاومة وتجريمها، ولا تقدم أي
تعهدات حقيقية أو ضمانات فعلية لمنع التهجير وإقامة الدولة الفلسطينية.
في ظروف عادية أو حتى شبه عادية، لم تكن حركة
حماس والفصائل الفلسطينية
لتقبل مجرد استلام مقترح من هذا النوع، فضلا عن نقاشه ثم إبداء الرأي فيه. لكن
عوامل ثلاثة رئيسة دفعتها لاستلام الخطة ونقاشها والرد عليها، وهي الأوضاع
الإنسانية المأساوية للمدنيين في قطاع
غزة والرغبة الملحّة في إنهائها، وتهديدات
ترامب في حال عدم الموافقة بإعطاء الضوء الأخضر لنتنياهو لاستكمال احتلال كامل
قطاع غزة واستمرار الإبادة (وكأن الموقف الأمريكي كان مختلفا في السابق)، والخذلان
العربي والإسلامي غير المسبوق، والذي تجاوز مربع الفشل في إسناد الفلسطينيين نحو
الضغط المباشر أو غير المباشر عليهم؛ بإعلان دعم خطة ترامب في بيان مشترك للدول
العربية والإسلامية السبع التي كانت اجتمعت مع ترامب وعُرضت عليها الخطة في نسختها
الأولى قبل تعديلها بعد الحوار -وليس التفاوض- مع نتنياهو.
كان رد حماس الذي أتى بعد التشاور مع الفصائل الفلسطينية جيدا وذكيا في صياغته، حيث أكد استعداد الحركة للأبعاد الميدانية في الخطة، أي وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وانسحاب جيش الاحتلال ودخول المساعدات، متجنبا إبداء الرأي في المسار السياسي الذي يتطلب وفق البيان "نقاشا وطنيا" ورأيا فلسطينيا جامعا
في الحقيقة، وبسبب إكراهات الواقع الميداني والسياسي الداخلي والخارجي، لم
تُرد حركة حماس أن تظهر أمام أهل غزة وكأنها ترفض خطة تتضمن ولو ظاهريا إمكانية
وقف الإبادة، ولم تشأ أن تظهر أمام العالم كطرف معرقل للاتفاق بعد أن تحصن ترامب
بمواقف الدول العربية والإسلامية المشار لها ليقول إن كل العالم -أمريكا
و"إسرائيل" والعالم العربي والإسلامي والغرب- يؤيد "خطة
السلام"، واضعا حركة حماس في مربع الاتهام بالرفض والإفشال.
في ظل هذه التوازنات والضغوط غير المسبوقة، كان رد حماس الذي أتى بعد
التشاور مع الفصائل الفلسطينية جيدا وذكيا في صياغته، حيث أكد استعداد الحركة
للأبعاد الميدانية في الخطة، أي وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وانسحاب جيش
الاحتلال ودخول المساعدات، متجنبا إبداء الرأي في المسار السياسي الذي يتطلب وفق
البيان "نقاشا وطنيا" ورأيا فلسطينيا جامعا وبالتالي ترحيله.
بهذا المعنى، أختلفُ بشدة مع القول بأن حماس "وافقت" على الخطة
الأمريكية والذي يعني قبول كامل البنود والخطة كما هي، وإنما هي "تفاعلت معها
بإيجابية" من الزاوية التي سلف ذكرها.
احتفاءُ ترامب بردِّ حماس وعدُّه موافقة منها على "خطة السلام"،
ثم دعوته نتنياهو لوقف إطلاق النار لتهيئة الظروف المطلوبة للتبادل، ثم تثمين
الدول السبع لرد حماس، كل ذلك أثار التوجسات لكنه أيضا أشاع جوا من التفاؤل
بإمكانية توقف الحرب أخيرا. ورغم كل ذلك، ومع رغبتنا العارمة في توقف حرب الإبادة، إلا أن خطة ترامب قد
لا تؤدي لذلك.
في المقام الأول ينبغي الإشارة إلى المبالغات التي حصلت في تقييم مدى ذكاء
رد حماس وسحبه على معنى التأثير على ترامب، وبالتالي الضغط على نتنياهو وحشره في
الزاوية. والحقيقة أن الاتفاق خرج في الأصل من رحم محادثات نتنياهو نفسه مع كوشنر
وفريقه، وتضمن الشروط الرئيسة التي كان يعلنها نتنياهو تحت عنوان "استسلام
حماس"، رغم أنه قد يكون اضطر لقبول بعض المواد التفصيلية التي لا يرغبها. كما
أن ترامب، ورغم شخصيته النرجسية المتعطشة للمديح وتسجيل الإنجاز، ليس بالضرورة
ساذجا ولا يفتقد لتصويب المؤسسات الأمريكية لسلوكه وقراراته عند المفاصل المهمة.
كان رد حماس ذكيا بالتأكيد، لكن في إطار منطق الإكراه والاضطرار الذي سبقت الإشارة
له، ورغبة في تجنب أزمة كبيرة وترحيلها ما أمكن.
يمكن القول إن أولوية ترامب -وبالتبعية نتنياهو- الآن هي استعادة الأسرى
لدى المقاومة الفلسطينية، بحيث تتراجع الضغوط على نتنياهو المتهم بعدم الاكتراث
بمصيرهم، وتسحب أهم ورقة تفاوضية في يد حماس، ويشغل العالم بالحديث عن مسار وقف
إطلاق النار بدل مراكمة الضغوط على "إسرائيل". وبالتأكيد أن ترامب أكثر
حرصا اليوم من نتنياهو على عامل الوقت، إذ تفيده سرعة التنفيذ في تسجيل الأمر في
خانة الإنجاز (كان تبجّح أمام الأمم المتحدة بأنه أوقف سبع حروب في سبعة أشهر)
وتعزيز فرصه في نيل جائزة نوبل للسلام التي يتلهف لها.
وعليه، فمنطق الإدارة الأمريكية ومعها حكومة الاحتلال قد يكون الاكتفاء من
حماس بهذا الرد مرحليا واستعادة الأسرى الآن، وبعد ذلك لكل حادث حديث.
لقد نجحت حماس في التملص من شدة الضغوط الممارسة عليها، والتي جزء كبير
منها مفتعل بالمناسبة، وبالتالي مررت الأزمة ورحّلتها مؤقتا. وهي في ذلك تعوّل على
استمرار المسار واحتمال نجاحه في وقف إطلاق النار، وهو الأولوية الأولى والقصوى
لها، ثم المناورة والرهان على رغبة ترامب في الإنجاز وربما صعوبة العودة للحرب مرة
أخرى واستمرار الضغوط على نتنياهو، وغيرها من العوامل المساعدة، ومع ذلك تبقي يدها
على الزناد إذا ما فرض عليها استمرار الحرب وتستمر في مواجهة مسار التصفية.
بيد أنه من المهم الإشارة إلى أن الشق السياسي في خطة ترامب لم يُترك تماما
ونهائيا. لقد مثّل الأسرى حتى اللحظة إحدى أهم ذرائع استمرار حرب الإبادة وليس
سببها الرئيس أو دافعها الوحيد، ولذلك ومع سحب هذه الذريعة سيعتمد الاحتلال على
ذرائع أخرى، وقد بدأ فعلا بالترويج لاستمرار قوة حماس وحكمها لغزة وبقاء سلاحها
بيدها، مع التعهد باستمرار الحرب حتى إنهاء كل ذلك، على لسان نتنياهو وغيره من
قادة الاحتلال.
والمشكلة الرئيسة منذ بداية المسار أن ترامب هنا هو الخصم والحكم، فهو شريك
الاحتلال في حرب الإبادة والعدوان على المنطقة، وهو صاحب الخطة، وهو من سيقيّم
أداء الأطراف إزاءها ويحكم عليهم. ولذلك لم يكن مستغربا أنه شكر نتنياهو على
"وقفه إطلاق النار لإتاحة المجال لتبادل الأسرى" في اليوم الذي نفذت فيه
قوات الاحتلال عشرات الغارات على مراكز إيواء النازحين وقتلت عشرات الشهداء.
كما أن الموقف العربي والإسلامي قد ساهم مع الأسف، من حيث قصد أم لم يقصد،
في إلقاء طوق النجاة لنتنياهو وتخفيف الضغوط عليه، بل وتركيز الضغوط على حماس
والجانب الفلسطيني، ما دفع نتنياهو ليفتخر بكل صلف بأن خطة ترامب "عزلت حماس
وقلبت الطاولة عليها"، بينما كان هو المعزول قبل ذلك. ولذلك، تقع على هذه
الدول تحديدا، السعودية والإمارات وقطر ومصر وتركيا والباكستان وإندونيسيا، قبل
غيرها مسؤولية تاريخية لإسناد الموقف الفلسطيني وموازنة البنود الكارثية في خطة
ترامب وإفراغها من مضمونها، ليس فقط دعما لفلسطين، ولكن أيضا حماية لدولهم
والمنطقة من الاستباحة الكاملة من قبل الكيان.
قد تتراجع المأساة الإنسانية لأهلنا في قطاع غزة بشكل مؤقت أو دائم، وهذا أملنا ودعاؤنا، وهو هدف سامٍ لا ينبغي التقليل من شأنه، لكن مساعي تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء المقاومة ستستمر، وهو ما يتماشى مع نهج الاحتلال
سيعيد نتنياهو طرح المسار السياسي الذي يشمل صراحة وضمنا تجريم المقاومة
وسحب سلاحها والوصاية الدولية على غزة وفصلها عن الضفة ووأد فكرة الدولة
الفلسطينية وتسهيل التهجير، وهو يملك -وفق خطة ترامب- تقييم أي خطوة مطلوبة منه،
وخصوصا الانسحاب وفق معيار "انتفاء تهديد الإرهاب"، الذي هو بداهة مصطلح
فضفاض يمكن استخدامه ذريعة لتأبيد الوجود العسكري للاحتلال في القطاع.
ولأن ترامب متقلب ولا يمكن الوثوق بموقفه، قد تستمر الحرب -لا قدر الله-
بأي ذريعة كانت، بشكلها الحالي أو بأشكال وصور مختلفة بغطاء أمريكي، والنموذج
اللبناني ماثل أمام الجميع، حيث لم يلتزم الكيان باتفاق وقف إطلاق النار واستمر في
انتهاكه حتى اليوم، بينما توجه أسهم الاتهام والتشكيك والضغط من الولايات المتحدة
وغيرها على حزب الله.
قد تتراجع المأساة الإنسانية لأهلنا في قطاع غزة بشكل مؤقت أو دائم، وهذا
أملنا ودعاؤنا، وهو هدف سامٍ لا ينبغي التقليل من شأنه، لكن مساعي تصفية القضية
الفلسطينية وإنهاء المقاومة ستستمر، وهو ما يتماشى مع نهج الاحتلال في المفاوضات
بأخذ ما يستطيعه ثم رفع سقف المطالب بعد التنصل من الاتفاقات السابقة، ودائما
بغطاء ودعم أمريكيين.
وهنا، مرة أخرى، ثمة مسؤولية تاريخية تقع على كاهل النظام الرسمي العربي
والإسلامي وخصوصا دوله الوازنة والنافذة، وقد بدأت تلوح بعض الإشارات على مواقف
أكثر إيجابية منها مثل الحديث عن "لجنة فلسطينية لإدارة غزة" بما يتناقض
مع فكرة الوصاية الدولية برئاسة طوني بلير، وبعض التصريحات التي أحالت فكرة
"السلاح" للحوار الفلسطيني الداخلي، وغير ذلك.
وبالتالي، نرجو أن يكون تغير الموقف العربي والإسلامي في إطار صحوة نسبية
ولو متأخرة لتعديل الموقف وموازنة الضغوط وتقليل الخسائر، وليس ضمن سيناريو
المساهمة في استدراج المقاومة خطوة خطوة من حيث قصدوا أم لم يقصدوا، وهو ما ستوضحه
تطورات الأسابيع والشهور المقبلة.
x.com/saidelhaj