قال رئيس حركة "
التوحيد والإصلاح"
المغربية، الدكتور أوس رمّال، إنهم يتابعون الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية الأخيرة في المغرب باهتمام ووعي، خصوصا وأن في صفوفها عددا من الشباب الذين ينتمون إلى نفس الفئة العمرية التي تشارك في هذه التحركات، مستدركا: "غير أن الحركة دأبت على اعتماد أساليب تعبيرية واضحة ومؤطَّرة، من قبيل المهرجانات والبيانات والمسيرات القانونية والوقفات المُعلنة، ملتزمةً في كل ذلك بهويتها المؤسسية وبالقوانين والمساطر (الإجراءات التنظيمية الرسمية) المعمول بها".
وأشار رمّال، في مقابلة خاصة مع "عربي21"، إلى أن "الحركة تؤكد تفهّمها للمطالب الاجتماعية المشروعة التي يعبّر عنها المواطنون، وعلى رأسها تحسين أوضاع الصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية، لكنها في المقابل تُعبّر عن قلقها من الانفلاتات الأمنية أو مظاهر العنف التي قد ترافق بعض الاحتجاجات، لأنها لا تخدم مصلحة البلد ولا مطالب الشباب أنفسهم".
وأوضح أن الاحتجاجات الراهنة "ليست الأولى في تاريخ المغرب، لكنها بلا شك من الأقوى والأوسع من حيث المشاركة والامتداد الجغرافي، وقد أظهرت حجم الاحتقان الاجتماعي وتطلعات فئات واسعة إلى إصلاحات أعمق وأسرع"، مُشدّدا على "المطلوب اليوم هو تغليب الحكمة وضبط النفس من كل الأطراف، حتى لا تُهدر المطالب المشروعة في دوّامة العنف وردّ الفعل".
وتابع رئيس حركة "التوحيد والإصلاح": "مطالب الاحتجاجات ظلّت في عمومها اجتماعية واقتصادية مشروعة، تعكس رغبة في الإصلاح لا في القطيعة، واليوم يبدو أن الوضع يتّجه نحو الهدوء، ونحن في انتظار أن تُستثمر هذه اللحظة في مراجعة السياسات وتحسين شروط العيش والثقة بين الدولة والمجتمع".
وتشهد المدن المغربية منذ نحو أسبوع مظاهرات يقودها الشباب تخللتها أعمال عنف. وعلى الرغم من أن ملك المغرب هو السلطة العليا في البلاد، إلا أن الاحتجاجات تركز بشكل روتيني على الحكومة المكلفة بتنفيذ أجندته كما طالبت باستقالتها.
والخميس الماضي، وجّهت شباب حركة "
جيل زد" المنظم للاحتجاجات في المغرب، وثيقة مطالب مباشرة إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس، تطالبه فيها بالتدخل العاجل لإنقاذ البلاد مما وصفته بـ"الاختناق المؤسساتي، والإخلال بالتزامات الدستور".
وبسؤال رمّال عن كيفية قيام المغرب بدعم القضية الفلسطينية بالشكل المناسب، نوّه إلى أن "أول خطوة عملية هي إحياء تكتّل الاتحاد المغاربي كمنطلق لتنسيق المواقف الإقليمية، وهو ما يتطلّب تحوّلات نوعية في علاقات الجوار وتحررا من الأجندات الخارجية. كما يمكن للمغرب أن يعمل بذكاء مع الدول الإسلامية الصاعدة لبناء تحالفات استراتيجية تُعيد التوازن للمنطقة وتمنح صوت الأمة قوة واحتراما في الساحة الدولية".
وتاليا النص الكامل لمقابلة مع "عربي21":
كيف تقيّمون تطورات الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية الأخيرة في المغرب؟ وهل ما يجري يشبه "ثورة" أو مقدمة لـ"ثورة" أم لا؟
هذه الاحتجاجات ليست الأولى في تاريخ المغرب، لكنها بلا شك من الأقوى والأوسع من حيث المشاركة والامتداد الجغرافي، وقد أظهرت حجم الاحتقان الاجتماعي وتطلعات فئات واسعة إلى إصلاحات أعمق وأسرع. ومع ذلك، فالمغرب يمتلك رصيدا معتبرا من الخبرة في تدبير مثل هذه الأوضاع، وهو ما يساعد على الحفاظ على الاستقرار العام.
أمّا أحداث العنف التي رافقت بعض المسيرات فقد فاجأت الجميع؛ إذ لم تكن منتظرة لا من المنظّمين ولا من المتابعين، ولم يصدر عن أي طرف من داخل الحراك ما يوحي بنية "الثورة" أو الدعوة إليها.
والمطالب ظلّت في عمومها اجتماعية واقتصادية مشروعة، تعكس رغبة في الإصلاح لا في القطيعة.
واليوم يبدو أن الوضع يتّجه نحو الهدوء، في انتظار أن تُستثمر هذه اللحظة في مراجعة السياسات وتحسين شروط العيش والثقة بين الدولة والمجتمع.
هل ترون أن هذه الاحتجاجات تعكس أزمة ثقة متنامية بين الشارع والحكومة؟ وما جذور تلك الاحتجاجات برأيكم؟
نعم، يمكن القول إن ما يجري يعكس بوضوح أزمة ثقة متنامية بين المواطنين والحكومة، وهي نتيجة تراكمات لم تُعالج بالجدية المطلوبة؛ فالحكومة - في الغالب - لا تتواصل بما يكفي مع الرأي العام، وحين تفعل يكون خطابها تقنيّا أو متعاليا أو دون مستوى انتظارات الناس، ممّا يزيد الفجوة اتّساعا.
أما جذور هذه الاحتجاجات فترتبط أساسا بالأوضاع الاجتماعية الصعبة، خصوصا لدى فئة الشباب التي تعاني البطالة وضبابية المستقبل. كما أن التدهور المستمر في التعليم العمومي والصحة العمومية، مقابل الارتفاع المهول في كلفة التعليم الخصوصي والعلاج في المصحات الخاصة، زاد من شعور المواطنين باللاعدالة. كل ذلك ولّد احتقانا عاما يحتاج إلى معالجة شجاعة تعيد الثقة وتفتح أفق الأمل أمام الأجيال الصاعدة.
هل ترون ما يجري مجرد موجة عابرة أم بداية وعي سياسي جديد لدى الجيل الرقمي؟
الاعتماد على الوسائط الرقمية في التعبئة والتواصل بين المحتجين ليس ظاهرة جديدة في المغرب؛ فقد سبق أن شهدناها في محطات سابقة، غير أن ما يميز هذه الموجة هو تطورها التقني وسرعة انتشارها واتساع تأثيرها، خاصة في صفوف الجيل الشاب الذي يعيش اليوم داخل فضاء رقمي متكامل.
وسواء اعتبرنا ما يجري مجرد موجة احتجاجية عابرة أو بداية تشكّل وعي سياسي جديد لدى هذا الجيل الرقمي، فإنّ الأمر في كلتا الحالتين يفرض تحديا كبيرا في مجال التأطير الثقافي والسياسي والاجتماعي؛ فبقدر ما تتسع إمكانات التعبير والانفتاح الرقمي، تتضاعف الحاجة إلى توجيه هذا الوعي الناشئ نحو البناء والإصلاح، لا نحو التوتر أو الفوضى.
هل تُعتبر مطالب "جيل زد 212" واقعية ومشروعة في السياق المغربي الحالي أم لا؟ وكيف ترون غياب "الإطار القيادي" لهذا الحراك الاحتجاجي؟
مطالب هذا الجيل، كما عبّر عنها من خلال حراك "جيل زد 212"، مطالب واقعية ومشروعة؛ فهي تتمحور حول قضايا أساسية كالصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية، وهي حقوق أصيلة يكفلها الدستور ويؤكدها الحس الوطني العام. والمغرب، بما يتوفر عليه من خيرات بشرية وطبيعية ومن مؤسسات قائمة، قادر على الاستجابة لهذه المطالب وتحقيق ما هو أكثر، إذا توفرت الإرادة والإدارة الجيدة للموارد.
أما بخصوص غياب القيادة، فالأمر لا يعني بالضرورة انعدامها، بل يعكس شكلا جديدا من التنظيم الرقمي اللامركزي الذي تتبنّاه الأجيال الحديثة؛ فالجهل بالقيادة لا يعني أنها غائبة تماما، بل موزّعة ومتفاعلة في الفضاء الافتراضي، وهذا يطرح تحديا على الفاعلين السياسيين والمدنيين لتجديد أدواتهم في التواصل والتأطير والإنصات لهذا الوعي الجديد.
ما موقف حركة "التوحيد والإصلاح" من الاحتجاجات المتواصلة؟
حركة "التوحيد والإصلاح" تتابع هذه الاحتجاجات باهتمام ووعي، خصوصا وأن في صفوفها عددا من الشباب الذين ينتمون إلى نفس الفئة العمرية التي تشارك في هذه التحركات. غير أن الحركة دأبت على اعتماد أساليبٍ تعبيريةٍ واضحة ومؤطَّرة، من قبيل المهرجانات والبيانات والمسيرات القانونية والوقفات المُعلنة، ملتزمةً في كل ذلك بهويتها المؤسسية وبالقوانين والمساطر المعمول بها.
وفي الوقت نفسه، تؤكد الحركة تفهّمها للمطالب الاجتماعية المشروعة التي يعبّر عنها المواطنون، وعلى رأسها تحسين أوضاع الصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية، لكنها في المقابل تُعبّر عن قلقها من الانفلاتات الأمنية أو مظاهر العنف التي قد ترافق بعض الاحتجاجات، لأنها لا تخدم مصلحة البلد ولا مطالب الشباب أنفسهم.
كيف تقيمون أسلوب تعامل السلطات مع هذه الاحتجاجات؟
في تقديري، تتعامل السلطات مع هذه الاحتجاجات تبعا لما تفرضه طبيعة الميدان وسياق كل مدينة أو منطقة؛ فأسلوب التدخّل يختلف باختلاف الأوضاع ومستوى التوتّر في كلّ موقع. ومع ذلك، يمكن القول إن المقاربة الغالبة تبدو قائمة على محاولة احتواء الشباب واحتواء الوضع بشكل عام، أكثر من الميل إلى التصعيد أو المواجهة. وهو ما يُعدّ في حدّ ذاته مؤشّرا إيجابيا، شريطة أن يُواكَب بخطاب تواصلي صادق، وإجراءات اجتماعية ملموسة تُقنع الشباب بأن صوتهم مسموع ومطالبهم قيد الاستجابة، لا مجرّد احتواء مؤقت.
ما أسباب المواجهات العنيفة وأعمال الشغب التي شابت بعض الاحتجاجات؟ ومَن المسؤول عن ذلك برأيكم؟
لا يمكنني أن أجزم في تحديد المسؤوليات بدقّة؛ فالمعطيات المتوفرة حتى الآن تأتي في الغالب من وسائل التواصل وبعض القنوات الإعلامية وشهادات ميدانية متفرقة، وهو ما لا يسمح برؤية كاملة وموضوعية.
ومع ذلك، يبدو من المتابعة أن العنف في بعض الحالات لم يكن مبرّرا من طرف بعض الشباب، كما أن بعض أعوان السلطة أبدوا في المقابل تسرّعا في التدخل واستخدام القوة. وحين تتقابل الانفعالات من الجانبين، سرعان ما تنفلت الأمور ويتحوّل المشهد إلى فتنة لا بداية واضحة لها ولا نهاية مضمونة. لذلك، المطلوب هو تغليب الحكمة وضبط النفس من كل الأطراف، حتى لا تُهدر المطالب المشروعة في دوّامة العنف وردّ الفعل.
إلى أي حد ساهمت دعوات الحركات الشبابية إلى السلمية في ضبط مسار التظاهرات الأخيرة؟
شعار "سلمية، سلمية" من أوائل الشعارات التي ترفع كل يوم في هذه الاحتجاجات، وهو ما يعكس وعيا أوليا لدى الشباب بأهمية تفادي العنف والحفاظ على الطابع الحضاري لتحركاتهم. غير أن الشعارات وحدها لا تكفي لضبط المسار؛ إذ يبقى الرهان الحقيقي على التأطير والتوعية المستمرة حتى تتحول الدعوات إلى سلوك منضبط ومسؤول، لكن فجائية اندلاع هذه الموجة لم تُتح للهيئات المدنية والسياسية الوقت الكافي لمواكبتها أو تأطيرها بالشكل المطلوب، وهو ما يفسّر بعض الارتباك والانزلاقات التي وقعت في عدد من المناطق. لذلك، تظل الحاجة ملحّة إلى استعادة أدوار الوساطة والتأطير حتى لا يبقى الشارع ساحة مفتوحة بلا بوصلة.
هل لديكم مبادرات أو مقترحات عملية لاحتواء التوتر وتخفيف حدة الأزمة؟
يبدو من خلال التجربة أن الشباب المنخرط والمؤطّر داخل المؤسسات والجمعيات والهيئات المدنية المواطِنة يميل بطبيعته إلى الحوار والتعبير السلمي عن الرأي، وهذا دليل على أهمية التأطير ودوره في الوقاية من التوترات. ونحن من جهتنا؛ نعتبر أن المبادرة الأساسية اليوم تكمن في توسيع جهود تأطير الشباب بمختلف فئاته العمرية، وتوفير فضاءات آمنة ومفتوحة للتواصل المباشر معهم، تُشجّع على النقاش المسؤول وتُشيع قيم السلوك المدني والمواطنة الإيجابية؛ فاحتواء الأزمة لا يتمّ بالمقاربة الأمنية وحدها، بل بالحوار، وبإعادة بناء الجسور بين الأجيال والمؤسسات.
برأيكم، ما هي الإصلاحات السياسية والاجتماعية الأكثر إلحاحا اليوم في المغرب؟
أعتقد أن الإصلاح الأشد إلحاحا اليوم هو الاستثمار الجاد والواعي في الإنسان المغربي، وبالأخص في فئة الشباب، باعتبارهم الثروة الحقيقية للوطن، وهذا يقتضي انتقالا من ثقافة الإلهاء والتخدير الممنهج ـ تحت شعارات الانفتاح الفني أو الرياضي ـ إلى بناء وعي ثقافي أصيل يُخرّج الشاب المواطن المسؤول والمبادر.
وكل ما يخدم الشباب ويحسّن أوضاعهم في التعليم والتشغيل والحياة الكريمة يجب أن يكون في صدارة الأولويات الوطنية؛ فتمكين الشباب وإشراكهم في القرار والسياسات العمومية هو مفتاح التنمية والاستقرار معا، وهو ما ينبغي أن تتجه نحوه كل الإصلاحات السياسية والاجتماعية المقبلة.
كيف يمكن للحكومة أن تترجم إعلانها عن "التجاوب المسؤول والإيجابي" مع المطالب إلى خطوات عملية ملموسة تعزز الثقة بين الدولة والشباب؟
إذا كانت الحكومة تعلن استعدادها للتجاوب المسؤول والإيجابي مع المطالب الاجتماعية، فإن المطلوب هو الانتقال من لغة النوايا إلى الفعل الملموس عبر إطلاق خطة استعجالية حقيقية ومتكاملة تُعهد إلى فريق من الخبراء الوطنيين المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والتفاني في خدمة الوطن، يعمل بجدٍّ ودون انقطاع من أجل معالجة جذور الأزمة لا مظاهرها فقط.
كما ينبغي التحرر من منطق "حكومة رجال الأعمال" التي تُقاس إنجازاتها بمؤشرات الأسواق والأرباح، لا بمستوى العدل والكرامة في معيشة الناس. لقد آن الأوان لتحويل بوصلة الدولة نحو المشاريع التي تعود بالنفع المباشر على الشباب في التشغيل والتعليم والصحة والسكن، وتأجيل المشاريع الضخمة التي لا يشعر المواطن بثمارها إلا بعد عقود؛ فالثقة لا تُستعاد بالكلمات، بل بالنتائج التي يلمسها الناس في حياتهم اليومية.
على صعيد آخر، كيف تابعتم اعتراض إسرائيل لـ "أسطول الصمود العالمي" الذي كان متجها إلى غزة؟
تابعنا اعتراض "أسطول الصمود العالمي" بعناية وقلق شديدين، خصوصا وأن البعثة كانت تضمّ إخوةً وأخوات مغاربة من بينهم الرئيس السابق لحركتنا، وقد كنا نتوقّع احتمال هذا الاعتراض، ومع ذلك كنا نأمل ألاّ يتكرّر. والقضية لم تنتهِ عند هذا الحدّ؛ الجهود الدولية والمتضامنون مستمرّون، ومن المتوقع أن تتابع الجولات القادمة من الأسطول محاولاتها حتى كسر الحصار عن أهل غزة.
ما الرسالة التي ترون أن هذه القرصنة الإسرائيلية تبعث بها إلى الرأي العام العالمي؟
هذه القرصنة ترسل رسالة واضحة ومؤسفة: أن الكيان الصّهيوني يتصرف على أساس من الإفلات من العقاب ويضع نفسه – عمليا - فوق القوانين والمواثيق والهيئات الدولية، ويتعامل مع المبادرات المدنية والدولية بمنطق القوة والاحتقار. كما أنه يبيّن أن المشاركين من جنسيات مختلفة في مثل هذه المبادرات قد يكونون عرضة للانتهاك ما دامت حكومات بعض دولهم عاجزة أو متواطئة عن التصدي لممارساته.
إضافةً إلى ذلك، توضح الحادثة أن مواقف قوى كبرى، وعلى رأسها الإدارة الأميركية، تظل وحدها العامل المؤثر في حسابات تل أبيب.
ومن ثمّ، فإن القراءة الصحيحة لهذه القرصنة يجب أن تقود إلى مطالب عملية: مساءلة دولية، حماية للمشاركين في المبادرات الإنسانية، وتفعيل ضغوط دبلوماسية وقانونية لردع الانتهاكات وضمان احترام القوانين الدولية.
هل تعتقدون أن هناك صمتا عربيا وإسلاميا تجاه الاعتداء الإسرائيلي على نشطاء الأسطول وجرائم الاحتلال في غزة؟
ولِمَ الاعتقاد، والواقع يشهد بذلك يوما بعد يوم؟؛ فالصمت العربي والإسلامي تجاه الاعتداء على نشطاء "أسطول الصمود" وجرائم الاحتلال في غزة بات حقيقة مؤلمة لا يمكن إنكارها. لقد فقدت الدول العربية والإسلامية هيبتها منذ تخلّت عن وحدتها وفرّطت في تعاونها وتضامنها؛ فأصبحت طُعما سهلا وقصعةً مغريةً لكل الطامعين في خيراتها والمستصغرين لمكانتها.
إن هذا الصمت المريب يعكس عجزا سياسيا وتراجعا أخلاقيا عميقا، ويُشجّع الكيان الصهيوني على مزيد من التمادي في عدوانه، لأنه يدرك أن ردود الفعل الرسمية لن تتجاوز بيانات التنديد، وما لم تستعد الأمة وحدتها وكرامتها، فستظل سيادتها منقوصة وقضاياها عرضة للمساومة والاستخفاف.
ما الدور الذي يمكن أن يلعبه المغرب، شعبيا ورسميا، في دعم مثل هذه المبادرات الإنسانية لكسر الحصار عن غزة؟
الشعب المغربي كانت له ولا يزال له مبادرات تضامنية مستمرة: نزول إلى الشوارع، مسيرات وفعاليات، وحملات واسعة للتضامن مع غزة سجلت خلال الفترة الماضية بكثافة. أما على المستوى الرسمي، فالموقف المغربي تقليديا يحاول الموازنة بين الاعتبارات القيمية والضغوط الجيوسياسية؛ وعليه فإن دور الدولة ينبغي أن يركّز على حماية المواطنين والمنظمات المشاركة في مثل هذه المبادرات، وعلى تسهيل قنوات الإغاثة الإنسانية، والمناورة الدبلوماسية لرفع الضغط الدولي عن المدنيين.
ونأمل، من ناحية أخرى، أن تتراجع آليات التطبيع التي تقيد حرية التحرك الدبلوماسي والشعبي، وأن تُتاح مساحة أوسع للمواقف الوطنية المستقلة الداعمة للعدالة والإنسانية؛ وتضمن الحماية الإنسانية والدبلوماسية من أجل سلامة المتضامنين ودعم كسر الحصار بطرق قانونية وإنسانية.
كيف تقيّمون مبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة لإنهاء الحرب في غزة؟
مبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المعلَنة لإنهاء الحرب في غزة ليست في الحقيقة مبادرة سلام، بل هي مبادرة القاهر المفروضة على المقهور؛ إذ تنطلق من منطق القوة والإملاء لا من منطلق العدالة والإنصاف.
إنها مبادرة من نَسِيَ أن الله قاهر فوق عباده، وأن مَن يتغافل عن سنن التاريخ والعدالة لا يكتب له النجاح مهما بلغ نفوذه، وهي مبادرة أنانية ونرجسية، تنظر إلى المأساة الفلسطينية بعين الحساب المادي والمصلحة الانتخابية، لا بعين الإنسان والضمير. إنها لا تعبأ بما جرى من إبادة وتشريد، بل تتعامل مع الدم الفلسطيني كرقم في معادلة المصالح الأمريكية والإسرائيلية، ومن ثمّ فهي لا تمثل حلّا، بل استمرارا للظلم في ثوبٍ جديد.
هل ترون أن تلك المبادرة تعكس إرادة لإنهاء العدوان أم أنها مجرد محاولة لفرض شروط الاحتلال على المقاومة الفلسطينية؟
لا يمكن قراءة هذه المبادرة بمعزل عن سياقها السياسي والجيواستراتيجي؛ فقد صيغت في غالبيتها حول محاور تتلاقى مع شروط تل أبيب (وقف القتال مؤقتا، وتبادل للأسرى، وتفكيك قدرات مسلحة، وآليات إشراف دولي مرحلي.....)، وقد لقيت قبولا جزئيا من بعض الأطراف وعلى رأسها استجابة محدودة من حركة حماس لجزء من المقترح.
بناءً على ذلك، يصعب قراءة المبادرة على أنّها "نية صادقة" لإنهاء المعاناة ما لم تصحبها ضمانات حقيقية لوقف دائم للعدوان، وضمانات لعدم تهجير الفلسطينيين، ومسار واضح للسيادة والحقوق المشروعة. في غياب مثل هذه الضمانات تتحوّل أي صيغة تفاهم إلى آلية لفرض شروط الاحتلال على المقاومة وإلغاء حقوق الشعب الفلسطيني.
لهذا، أعتبر أن المقصد النهائي لدى من صاغ المبادرة لن يُقاس بالكلام وحده، بل بآثار التنفيذ على الأرض: هل يحفظ وجود الشعب الفلسطيني على أرضه وحقوقه أم يسهم في تهجيره وتوسيع هيمنة المشروع الصهيوني والأمريكي في المنطقة؟، وأن مقاومة وبقاء الفلسطينيين يُمثّل الحاجز الأهم أمام تحقيق أهداف المحتل الغاصب.
ما هي المخاطر التي ترونها في القبول بمثل هذه المبادرات إذا لم تُبنَ على الحقوق الفلسطينية المشروعة؟
قبول أي مبادرة لا تُبنى على الحقوق الفلسطينية والضمانات الدولية ينطوي على مخاطر جسيمة.
أولا، يُعزّز إفلاتَ الجناة من المساءلة ويكرّس استكبار الكيان في التعامل كقوة فوق القانون.
ثانيا، قد يسهم في تهجير واسع وفقدانٍ دائمٍ لحقوق أصحاب الأرض، بما يقرّب سيناريوهات التهجير القسري التي تحذّر منها تقارير حقوقية أممية.
ثالثا، يغذي ابتزازا دبلوماسيا وسياسيا للدول العربية والإسلامية، ويحوّل مواقفها إلى رهان على المصالح بدل موقف مبني على الكرامة والحقوق.
رابعا، يضعف ثقة الشعوب في المجتمع الدولي ويهين قواعد القانونِ الدولي والالتزامات الإنسانية ما لم تُرفق المبادرات بضمانات حقيقية للحقوق والمساءلة.
ولذلك؛ فإن أي حل مستدام لا بد أن يكون مبنيا على الحقوق، حمايةً لوجود الفلسطينيين، ومساءلةً للمسؤولين عن الانتهاكات، وإشراكا حقيقيا للشعب الفلسطيني في صياغة مستقبله.
ما هو الموقف الذي ينبغي على الحركات الإسلامية والإصلاحية في العالم العربي اتخاذه تجاه هذه المبادرة؟
أولا: ينبغي أن تبدأ الحركات الإسلامية والإصلاحية بنبذ الخلافات بينها، والتوافق على مخطط استراتيجي طويل الأمد يضع وحدتها في خدمة قضية الأمة المركزية بدل التمزق الداخلي.
ثانيا: ذلك المخطط يجب أن يضع أفقا عمليا لتعميم الوعي بين النشء والشباب، عبر برامج تربوية وثقافية متواصلة تُحافظ على القضية متوهّجة في قلوب الأجيال القادمة، وتُحوّل العاطفة إلى فهم سياسي مدني مبني على الحقوق والكرامة.
ثالثا: توسيع دائرة التفاعل والتعاون مع كلّ أطياف الأمة - مدنيين وسياسيين ومؤسسات المجتمع المدني - لأنّ وحدة الصفّ تتشكّل من بناء تحالفات واسعة قادرة على الحشد السياسي والقانوني والدبلوماسي.
رابعا: ينبغي السعي إلى التصالح العقلاني مع الحكومات حيث أمكن؛ لا مهادنة للمبادئ، لكنّ تحفيزا للحكومات على إدراك مصلحة شعوبها ورفع الغطاء عن سياسات تخدم مصالح الغير على حساب كرامة الأمة. وفي الوقت نفسه، يجب الحفاظ على استقلالية الحراك الشعبي والضغط المدني كقوة ضابطة ومسؤولة.
خامسا: على المدى العملي، لا بدّ من تنسيق استراتيجي في مجالات العمل الإعلامي المركّز، والحملات الدبلوماسية القانونية، وبرامج التربية السياسية للشباب، وشبكات حماية للمتضامنين والمنظمات العاملة ميدانيا، كل ذلك ضمن وحدة رؤية مدنية مسؤولة.
كيف يمكن للمغرب، بموقعه السياسي والدبلوماسي، أن يسهم في صياغة موقف عربي وإسلامي أكثر قوة لدعم المقاومة الفلسطينية؟
المغرب بلد عريق ومستقرّ، يتمتع بحضور سياسي ودبلوماسي معتبر وعلاقات دولية متوازنة، ما يجعله قادرا؛ من حيث الإمكان على الإسهام في بلورة موقف عربي وإسلامي أكثر قوة لدعم القضية الفلسطينية والمقاومة، لكن الواقع العربي الراهن؛ بكل أسف؛ يقيّد هذه الإمكانات، فمعظم الدول العربية والإسلامية أصبحت رهينة للقرارات والديون والضغوط الدولية، مما أضعف قدرتها على اتخاذ مواقف مستقلة وشجاعة.
أول خطوة عملية هي إحياء تكتّل الاتحاد المغاربي كمنطلق لتنسيق المواقف الإقليمية، وهو ما يتطلّب تحوّلات نوعية في علاقات الجوار وتحررا من الأجندات الخارجية. كما يمكن للمغرب أن يعمل بذكاء مع الدول الإسلامية الصاعدة لبناء تحالفات استراتيجية تُعيد التوازن للمنطقة وتمنح صوت الأمة قوة واحتراما في الساحة الدولية.