تنشر "عربي21" بالتزامن مع الصفحة
الرسمية للكاتب والباحث المصري جمال سلطان على "فيسبوك" هذه الورقة
الفكرية التي تتناول سيرة واحد من أعظم العلماء المسلمين في القرن العشرين،
الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي، الذي مثّل نموذجًا فريدًا للعالم الزاهد
العامل بصمت، جمع بين عمق البحث الأكاديمي واتساع الأفق الحضاري، وأسهم بعشرات
المؤلفات والتحقيقات التي أصبحت مراجع أساسية في الفكر الإسلامي والفقه السياسي
والسيرة النبوية.
يستعيد سلطان في مقاله ملامح هذه الشخصية
الاستثنائية، التي عاشت بعيدًا عن الأضواء والمناصب، لتخلّد اسمها في وجدان
الباحثين والعلماء عبر إنجازات علمية وتراثية امتدت من السوربون إلى العالم
الإسلامي كله.
نوعيات خاصة
في حياتي قابلت ألوانا من البشر، مواهب
ودررًا، في الفكر والفن والأدب والمعرفة، ولا يكاد يسمع بهم أحد، نوعيات خاصة من
البشر تحب العمل في صمت، وهبت لذلك، وغالبا ما تكون أعمالها من النوع
"التاريخي" الذي يمثل مرجعا للباحثين في مجاله، وهم لا يهتمون بحضور
المنتديات العامة، ويزهدون في المراتب والمناصب والوظائف، ولا يحرصون على التواصل
مع الإعلام ومنابره، ويعكفون طيلة وقتهم على العطاء المخلص الأمين، قد يكون في ذلك
بعض التقصير منهم، لأن التواصل مع
العالم الإنساني مهم للباحث والأديب والعالم،
ولكن الذي لا شك فيه أن التقصير الأكبر هو من جانب الأمة ومؤسساتها ومراكزها
العلمية والبحثية ودوائرها الأكاديمية ، فهي التي يفترض أنها تتابع حركة الفكر،
وهي المؤهلة لأن تكشف عن الذهب ومعادنه بين المفكرين والباحثين، وهي المنوط بها
دعم مثل هؤلاء الأتقياء الأنقياء المترعين عفة ومروءة، لا أن تنتظر أن يأتوها أو
يمدوا إليها أيديهم للعون العلمي أو غيره .
العلامة الفذ والباحث المحقق الكبير الدكتور
محمد حميد الله الحيدر آبادي (ولد في الهند عام 1908)، نموذج شديد الوضوح لتلك
الحالة التي أتحدث عنها، عاش في صمت، ورحل في صمت (توفي في فلوريدا بالولايات
المتحدة عام 2002)، وكأنه من غمار الناس، رغم أنه قمة علمية نادرا ما وصل إليها
أحد في القرن العشرين، فهو العالم الذي يدين له آلاف الباحثين والعلماء العرب
والمسلمين وحتى المستشرقين بالفضل والعرفان، حيث كانت كتبه وترجماته وتحقيقاته هي
المرجع الذي ينير لهم فضاء العلم ويختصر لهم صحاريه ومفازاته، ويكفي أن كتابه الفذ
عن وثائق دولة الرسول صلى الله عليه وسلم "مجموعة الوثائق السياسية للعهد
النبوي والخلافة الراشدة"، وهو بالأساس كان رسالة الدكتوراة التي حصل بها على
الدرجة العلمية من جامعة السوربون، كان هذا البحث الفريد والمدهش ـ وما زال ـ هو
المرجع الأساس الذي يجده القارئ في ختام أي بحث عن الفكر السياسي في الإسلام، على
مدار قرابة خمسين عاما.
إلى جانب الدكتوراه التي حصل عليها في فرنسا بكتابه "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة"، فقد حصل على دكتوراة أخرى في السيرة النبوية من ألمانيا وموضوعها "العلاقات الدولية في الإسلام"، كما حصل على دكتوراة ثالثة في الفلسفة أيضا من فرنسا، كما قام محمد حميد الله بتقديم أدق وأرقى ترجمة للقرآن الكريم إلى الفرنسية، وهي اللغة التي كان يتقنها إلى جانب الألمانية والإنجليزية، بالإضافة إلى الأوردية ـ لغته الأم ـ والعربية والتركية والفارسية
وكان أول من نبهني إليه وحدثني عنه المفكر الكبير الدكتور
محمد عمارة رحمه الله، وظل "حميد الله" يضيف إلى كتابه كل فترة ما يتوصل
إليه من جديد من تلك الوثائق لتظهر في الطبعات الجديدة، وتشمل المكاتبات
"الرسمية" من الرسول إلى عماله وولاته وقادة جيوشه، ورسائله إلى الأمصار
المختلفة، وكتبه إلى المقوقس وإلى كسرى، ونص معاهداته مع القبائل ومع اليهود في
المدينة، ونصوص اتفاقياته مع قريش في الحديبية وغيرها، ونصوص العهود التي كتبها مع
حكام زمنه، ومنها كتابه إلى النجاشي، عدد الوثائق "الرسمية" وصل إلى 373
وثيقة، واللطيف أنه حصل على صور ضوئية من أصول بعض هذه الرسائل والكتابات مختومة
بالخاتم النبوي أو خاتم خلفائه، وهي "آثار" نادرة ما زالت محفوظة في
متاحف ومكتبات أوربية، مع الأسف استولى عليها مستشرقون، وصور المؤلف بعضها بإذن
منهم، وتشمل الوثائق القرارات والرسائل والعهود والتكاليف التي صدرت عن أبي بكر
وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين، وقد ترجم كتابه إلى عشرات اللغات، كما
طبع في العربية أكثر من عشر طبعات حتى الآن، على حد علمي، إن لم تكن هناك طبعات
مستحدثة.
إلى جانب الدكتوراه التي حصل عليها في فرنسا
بكتابه "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة"، فقد
حصل على دكتوراة أخرى في السيرة النبوية من ألمانيا وموضوعها "العلاقات
الدولية في الإسلام"، كما حصل على دكتوراة ثالثة في الفلسفة أيضا من فرنسا،
كما قام محمد حميد الله بتقديم أدق وأرقى ترجمة للقرآن الكريم إلى الفرنسية، وهي
اللغة التي كان يتقنها إلى جانب الألمانية والإنجليزية، بالإضافة إلى الأوردية ـ
لغته الأم ـ والعربية والتركية والفارسية، فقد كان يتقن هذه اللغات السبع كأحد أبنائها،
وأنجز ترجمات للقرآن الكريم إلى العديد من اللغات ، ووضع مؤلفا ضخما عن السيرة
النبوية بالفرنسية والعشرات من المؤلفات والمقالات التي تمت ترجمتها إلى العديد من
اللغات، بلغت حوالي 175 كتابا، كما قام بتحقيق عدد من كتب التراث مثل "أنساب
الأشراف" للبلاذري، وكتاب "السير الكبير" لمحمد بن الحسن الشيباني،
كما عمل معه بعض المستشرقين الكبار على تحقيق نصوص عديدة من عيون التراث الإسلامي،
لأنهم كانوا يثقون في علمه ويعرفون قدره، كما ينسب إليه أنه كان سببا في هداية
آلاف الأوربيين إلى الإسلام وخاصة في فرنسا، حيث تردد أنه أسلم على يديه هناك قرابة
40 ألف فرنسي من بينهم المفكر الشهير "موريس بوكاي" صاحب كتاب
"التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث"، وكتاب محمد
حميد الله "التعريف بالإسلام" تمت ترجمته إلى 23 لغة عالمية، فقد كان
لجهوده في الدعوة والتعريف بالإسلام بركة كبيرة.
عاش محمد حميد الله منذ خروجه من بلاده
" حيدر آباد " أكثر من نصف قرن في باريس، ليكون قريبا من كنوز التراث
الإسلامي ومخطوطاته التي تم تهريبها إلى مكتبات ومؤسسات أوروبية، وقد استقر في غرفة
صغيرة متواضعة في باريس، لم يغيرها طيلة حياته، كان عازبا لم يتزوج، يعيش حياة
الكفاف والزهد، وحده بين الكتب والمراجع والمجلات المتخصصة، ولم يكن في مسكنه لا
تليفون ولا راديو ولا تليفزيون، ولا يسافر إلا بحثا عن مخطوطة أو حضور مؤتمر علمي
دعي إليه، حتى وهنت صحته فأصرت عليه حفيدة شقيقته المقيمة في الولايات المتحدة أن
ينتقل إليها لتقوم على خدمته ولأن إقامته وحيدا في هذه السن خطرة، فوافق بعد
إصرارها وانتقل إلى هناك حيث توفي رحمه الله بعد معاناة شديدة مع أمراض الشيخوخة
في 17 ديسمبر عام 2002 عن عمر ناهز التسعين عاما، رحل في صمت كما عاش في صمت.
تم تكريمه في
باكستان، ومنحوه جائزة مالية
كبرى فاعتذر عن قبولها وقرر منحها لأحد المعاهد العلمية في إسلام آباد، كما رشحوه
لنيل جائزة الملك فيصل العالمية أيضا، فاعتذر وقال : أنا لم أكتب ما كتبت إلا لله،
فلا تحرموني من جائزته، يرحمه الله.