كتاب عربي 21

حين يصبح التحذير من إسرائيل خطابا عبثيّا!

"إسرائيل تمثل خطرا على الأمن القومي العربي، واستقلال المنطقة، وخياراتها الحرّة، بنزوعها للهيمنة، وما يبدو في سلوكها من نزوع إمبراطوري واضح"- جيتي
الناس الذين يحذّرون من الخطر الإسرائيلي على العرب أخيرا؛ هم صنفان: الأوّل، هو الصنف المخلص الذي يحاول الاستدلال بأيّ حادثة، كالعدوان الإسرائيلي على قطر، للقول إنّ خطر إسرائيل ليس منحصرا في فلسطين، لكنّ هذا الصنف قد يبالغ من ناحيتين: الأولى؛ في التحذير من عدوان إسرائيلي مباشر على البلاد العربية، والثانية؛ في أنّه قد يعتقد أنّ ثمّة فائدة مرجوّة من التنويه إلى العرب بخطر الهيمنة الإسرائيلية التي تطال الأمن القومي العربي. ولست أدري، إذا كان هذا الصنف المخلص من الناس يشرد قليلا بخياله وهو يقول: "الأمن القومي العربي" ليتأمّل في غرابة هذه العبارة ونفورها عن حقيقة السياسة العربية الراهنة، ولا أدري إذا سمعه أحد الساسة العرب وهو ينطق بهذه العبارة؛ هل ينفجر ضاحكا؟! أمّا الصنف الثاني من الناس الذي يحذر من الخطر الإسرائيلي، فهو ذلك الذي يستغل الموضوع دعائيّا، إمّا للقول: نعم إنّ إسرائيل منفلتة، ولكن انفلاتها لن يصل إلى بلادنا، لعظمة الدولة التي تدير بلادنا، أو قوّة جيشها، أو حكمة ساستها البالغة، وإمّا للقول: نحن الذين تخشانا إسرائيل، ولأنّها تخشانا فإنّها منزعجة من قوّة جيشنا، ومن سياسات دولتنا، ونحن نستعد للحظة الحماقة الإسرائيلية عندما تستهدف بلادنا.

والمؤكد أنّ هناك من هو بالفعل من المواطنين العرب من يصدق هذه الخرافات، ولا يسأل نفسه أبدا إذا كانت دولهم قوية إلى هذه الدرجة، أي الدرجة التي تخشاها إسرائيل، أو الدرجة القادرة على مواجهة إسرائيل، فلماذا هي عاجزة عن وقف إبادة الفلسطينيين؟! أو على الأقل مبادرة إلى خطوات جادّة ذات معنى فوريّ لأجل وقف هذه الإبادة؟! فإمّا أنّها خفيفة الوزن، غير قادرة على شيء، وهو ما ينبغي أن يسائل شرعيتها، وإمّا أنّها بالفعل لا ترى في إسرائيل خطرا إلا على الفلسطينيين الذين لا بأس من إبادتهم.

إذا كانت دولهم قوية إلى هذه الدرجة، أي الدرجة التي تخشاها إسرائيل، أو الدرجة القادرة على مواجهة إسرائيل، فلماذا هي عاجزة عن وقف إبادة الفلسطينيين؟! أو على الأقل مبادرة إلى خطوات جادّة ذات معنى فوريّ لأجل وقف هذه الإبادة؟! فإمّا أنّها خفيفة الوزن، غير قادرة على شيء، وهو ما ينبغي أن يسائل شرعيتها، وإمّا أنّها بالفعل لا ترى في إسرائيل خطرا إلا على الفلسطينيين

مع ذلك، فإنّ الخطر الإسرائيلي حقيقي ومباشر وواقع بالفعل على سوريا ولبنان، بمعنى العدوان العسكري الصريح، في صورة الاحتلال، وفي صورة القصف والقتل، وفي صورة المداهمة والاعتقال والتفتيش (وهذه حاصلة في سوريا تحديدا)، ولا ندري لماذا لم يرَ الإخوة العرب، ساسة ومثقفين وإعلاميين، في هذا العدوان المتجدد والذي يأخذ شكل الاحتلال، أيْ أسوأ أنواع العدوان وفق الفهم الحديث للسيادة، ما يستدعي الانتباه إلى الخطر الإسرائيلي، وحشد الدول العربية والإسلامية على الأقل للتضامن مع سوريا ولبنان، لا سيما وأنّ العرب قد حققوا "إنجازهم الأعظم" في تاريخهم الحديث والمعاصر، بإخراج النفوذ الإيراني من سوريا، وإضعافه في لبنان، ولم يعد ثمّة ما يسوّغون به العدوان الإسرائيلي بتحميل مسؤوليته لمن يقاومه أو يقابل عداءه بما يستحقه من العداء! فلا الحكم الجديد في سوريا في وارد مقابلة هذا العداء بما يناسبه من العداء، ولو في حدود الخطاب والدبلوماسية، ولا النخبة الحاكمة الآن في لبنان، ممثلة برئيس الجمهورية ورئيس وزرائها، في حالة ودّ مع المقاومة ومنطقها وخطابها!

ألا ينبغي عدّ الاعتداء على سوريا الجديدة، ولبنان الجديد، اعتداء على العرب المنتصرين؛ المنتصرين على المقاومة مبدأ وممارسة، طالما أنّ هذه المقاومة، بسبب ارتباطها بإيران، وبحسب الدعاية العربية، سبب البلاءات كلها التي أصابت هذه المنطقة (وهذا المنطق مدهش في قلب الأمور، لأنّه ما كان لهذه المقاومة أن توجد لولا وجود إسرائيل، وما كان لإيران أن تستغل الاستعمار الصهيوني، كما يقولون، لولا هذا الاستعمار)؟ فالآن، وإن ظلّت الدعاية العربية تتبنّى ضمنيّا وصراحة الدعاية الإسرائيلية في استباحتها للفلسطينيين في غزّة، فماذا عساها أن تقول في استباحة إسرائيل سوريا ولبنان وإن لم تنتهج الإبادة التي اختارتها حلا مع الفلسطينيين؟! وماذا تفعل الدعاية العربية إزاء تكريس الاستيطان في الضفة الغربية حتى بلغ حدّا يكاد يحجب فيه الهواء عن أنوف الفلسطينيين، والسياسة الفلسطينية الرسمية المتبعة في الضفة الغربية تجاه إسرائيل هي ذاتها السياسة ترغبها الحكومات وتنتهجها؟!

فمن لم يرَ عدوان إسرائيل على واقع جديد يشبهه، أو واقع سعى إليه، عدوانا عليه؛ فلماذا سيرى عدوانها على قطر عدوانا عليه؟! نعم العدوان على قطر محرج للحكومات العربية لأسباب كثيرة، منها أنّها ليست من دول الطوق، وعضو في مجلس التعاون الخليجي، وتربطها بالولايات المتحدة علاقة حليف رئيس خارج النيتو، من بين عشرين دولة تتمتع بهذه العلاقة، وذلك علاوة على ما يفترض أن يكون ضمانة قانونية وعرفية لدور الوساطة الذي تقوم به، ولكن الإحراج لا يعني الانزعاج، فهل حقّا لم يتشف البعض بما أصاب قطر! ولم يقل: لم تكن لتُضرَب لولا وجود قيادات حماس فيها؟! أو هذا مصير من يلعب دورا أكبر من حجمه؟! فلماذا يتوقع صاحب هذا المنطق أن إسرائيل ستستهدفه أو ستكون خطرا عليه؟!

دول المنطقة بنخبها الحاكمة لا تفكر إلا باعتبارين اثنين: الأول: مصلحة النخب الحاكمة، وهي محدودة بالزمان، أي بأعمار الحكام وشبكتهم الزبائنية، ومن كان هذا حاله فهو لن يفكر في مستقبل الأجيال القادمة، ولن يفكر باستكمال التحرر والتخلص من الهيمنة لأنّ هذا مهدد لمصالحه المباشرة والآنية في حدود عمره، ولا سيما أنّ الولايات المتحدة في ظهر إسرائيل حتى النهاية، والثاني: الاعتياد على القواعد المفروضة من قوى الهيمنة

نعم، يعتقد البعض، وهذا من صنف المخلصين، أنّ إسرائيل بلغت حدّا من الانفلات إلى درجة أنّه لن يمنعها شيء عن إحراج حلفائها وأصدقائها في الدول العربية، وهذا صحيح، لكن لو كانت هناك حاجة إسرائيلية لفعل ذلك تتجاوز الهدف الأمني الصرف، لأنّها قادرة على اغتيال قيادات المقاومة بأدوات استخباراتية تحول دون الحرج السياسي الذي يسببه القصف العلني، وهؤلاء القيادات أصلا لا وجود لهم ولا في أيّ بلد عربيّ باستثناء قطر، ومصر كما يقال، وما دامت الحاجة الإسرائيلية منتفية، فهي لن تتحامق بإحراج دول لم تتخذ إجراءات ضدها بعد العدوان على قطر، في حين أنّ إسبانيا اتخذت إجراءات ضدّ إسرائيل بسبب الإبادة على غزّة بما لا يمكن أن يخالط خيال الحكومات العربية المقيمة علاقات علنية مع إسرائيل، وإلا لنظرت إلى الأمر لو فكرت فيه على أنه نكتة تقتل من الضحك! حتى البلاد الخليجية التي لا تقيم علاقات علنية مع إسرائيل، وفتحت أجواءها للطيران الإسرائيلي سنتي 2022 و2023، لم تغلق أجواءها أمام الطيران الإسرائيلي بالرغم من قصف دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي من الجو!

يبقى أنّ إسرائيل تمثل خطرا على الأمن القومي العربي، واستقلال المنطقة، وخياراتها الحرّة، بنزوعها للهيمنة، وما يبدو في سلوكها من نزوع إمبراطوري واضح. وهذا الكلام حق، ولكن بشرط أن تراه الحكومات العربية كذلك، إذ لا يوجد مفهوم للأمن القومي العربي. والدول العربية التي أقدمت على التطبيع التحالفي مع إسرائيل، لم تفعل ذلك إلا لأنّها مؤمنة بحتمية الهيمنة الإسرائيلية، وهي تريد أن تستفيد من هذه الهيمنة، فهي مدركة لها، ولكنها لا ترى فيها بأسا (أي تعرف هذه الهيمنة وتقبلها لأنّها تراها ضامنة لمصالحها)، لأنّ دول المنطقة بنخبها الحاكمة لا تفكر إلا باعتبارين اثنين: الأول: مصلحة النخب الحاكمة، وهي محدودة بالزمان، أي بأعمار الحكام وشبكتهم الزبائنية، ومن كان هذا حاله فهو لن يفكر في مستقبل الأجيال القادمة، ولن يفكر باستكمال التحرر والتخلص من الهيمنة لأنّ هذا مهدد لمصالحه المباشرة والآنية في حدود عمره، ولا سيما أنّ الولايات المتحدة في ظهر إسرائيل حتى النهاية، والثاني: الاعتياد على القواعد المفروضة من قوى الهيمنة، بحيث يبدو لتصوراتهم أن العمل على تغيير موازين القوى حماقة كبرى ومغامرة مدمرة، وهو ما يعني تأبيد البلاد العربية داخل الهيمنة الأمريكية/ الإسرائيلية، ومن ثمّ لا معنى من تحذيرهم من أمر يعرفونه ولا يرون فيه مشكلة!

x.com/sariorabi