تذكّر
في هذه الأيام أنك رددت أن
قطر موّلت
سد النهضة، وهو اتهام تردد في الإعلام
المصري، فانطلى على العامة، وأنت منهم!
إثيوبيا
افتتحت السد رسميا، وتبخّر الاتهام بأن قطر مولت السد، ليس لأن مصالحة عقدت بين
القاهرة والدوحة، ولكن لأن المعلومة لم تكن صحيحة. وقد ساعد في انتشارها أن قطر لم
تنفها، ربما لأن الأمر كان سيكلفها بيانا رسميا يصدر يوميا يرد على أكاذيب كثيرة
تنتجها ماكينة إعلامية لا تخرج إلا خَبَثا!
كانوا
يرون افتتاح السد بعيدا، وكنا نراه تحصيل حاصل، وأنه مسألة وقت. وكان البعض كلما
تعطل البناء لعيب فني، أرجعوا النصر إلى أنفسهم، وساعد هذا التوقف في إصدار
تصريحات رسمية توحي بأن بيننا وبين السد أمدا طويلا. وكانت كلها تصريحات تطمئن
الناس، إلى أن وقع الافتتاح، والذي قلت إنه يحتاج إلى عملية كبيرة لصرف الأنظار
عنه، واقترحتُ الإفراج عن خمسة آلاف معتقل مرة واحدة، لكن جرى
العدوان الإسرائيلي
على قطر، مستهدفا اجتماعا لقادة حركة حماس، كان سيناقش مقترحات للرئيس الأمريكي
لوقف الحرب، فشغل الناس به. قطر مرة أخرى!
كانت كلها تصريحات تطمئن الناس، إلى أن وقع الافتتاح، والذي قلت إنه يحتاج إلى عملية كبيرة لصرف الأنظار عنه، واقترحتُ الإفراج عن خمسة آلاف معتقل مرة واحدة، لكن جرى العدوان الإسرائيلي على قطر، مستهدفا اجتماعا لقادة حركة حماس، كان سيناقش مقترحات للرئيس الأمريكي لوقف الحرب، فشغل الناس به. قطر مرة أخرى!
وليس
هذا مخططا له، ولكنها المصادفة، فالعلاقات المصرية الإسرائيلية تشهد فتورا لم
تشهده ربما منذ توقيع معاهدة السلام، لأن نتنياهو وبمساعدة الرئيس الأمريكي، يريد
من الحليف المصري القبول بما لا يمكن القبول به، وهو التهجير!
والنظام
المصري محظوظ، لأن هذا العدوان صرف الأنظار عن الحدث الجلل الذي وقع ببناء سد
النهضة. ولم يعد أحد الآن يقول إن قطر تمول بناء السد، ولا يكفي الصمت، ولكن لا بد
من الاعتذار على ترديد هذه الأكاذيب.
وكان
القوم جاهزين بتحميل ثورة يناير وزر بناء السد، مع أن بناءه فكرة قديمة، ولم يتجدد
بعد ثورة يناير، ولكن في السنوات الأخيرة من عهد مبارك. وأيامها قال وزير الري نصر
الدين علام إنه مطمئن للأمر، وأرجع مبعث ذلك إلى الاهتمام الخاص الذي يوليه الرئيس
مبارك بالموضوع، ولم تكن لديه إجابة أخرى!
لكننا
كنا في حالة اطمئنان كامل لذلك، حتى وإن كنا لم نطلع على التفاصيل، وحتى لو كانت
القاهرة أغلقت مكتبا للمعارضة الإثيوبية في القاهرة، وأعطت ظهرها في عهد مبارك
لأفريقيا، وجاءت محاولة اغتياله في أديس أبابا لتعمق الفجوة بينه وبين القارة السمراء!
بيد
أن قناعتنا أن مصر تستطيع، إن لم يكن من خلال المواجهة الخشنة للجيش، فمن خلال
الأداء الاستخباراتي!
ولم
يكن الحديث عن الرغبة الإثيوبية في بناء السد بعد ثورة يناير منبتّ الصلة بما
قبلها، والأمر كذلك عقب انتخاب الرئيس محمد مرسي. لكن القاهرة لم تقفز في الهواء
إلا في سنة 2015 بتوقيع اتفاق المبادئ، وهو الذي أعطى شرعية لبناء السد، ومع ذلك
لم تشارك قطر في تمويل بنائه!
والاتفاق
هو موافقة مصر كتابة على البناء، لكن تم ترك الأمر منفردا لإثيوبيا، التي تلاعبت
بالجانبين المصري والسوداني. وفي كل جلسة مفاوضات كان وزير الخارجية سامح شكري
يخرج من الاجتماع فيفتعل مشكلة لوجود ميكروفون قناة الجزيرة، ويمتنع لهذا عن
الحديث عمّا دار في الجلسة، وفي المساء والسهرة يصبح الموقف من الميكروفون هو
الموضوع الأثير.. أيضا قطر!
كان
المفروض أن يتم الاتفاق مع مكتب استشاري يتابع عملية البناء ويحدد المواصفات
المطلوبة، لكن هذا لم يحدث؛ لأنه شرط يحول دون تنفيذه. هنا النص الجريمة في
الاتفاق؛ أن كل خطوة لا بد لها من موافقة الأطراف الثلاثة مجتمعين. وإذا كان اتفاق
المبادئ نص على عدم الإضرار بمصالح دولتي المصب (مصر والسودان)، فلا نص على الحصة
التاريخية، ولا عقوبة في حال تحقق الضرر، وليس من حق المتضرر اللجوء للقضاء
الدولي!
والآن
يهدد الجانب المصري باللجوء للتحكيم الدولي، ويؤسفني أنه يواصل نفس الأداء،
فالتصريحات للاستهلاك المحلي. فخطوة كهذه لم ينص عليها الاتفاق، وإذا كان يمكن
تجاوزه والاحتكام إلى القانون الدولي، فإن نصوصه يقيدها اتفاق المبادئ، فإذا وضع
آليات في حال الخلاف، فإن اللجوء لأي طرف آخر لا يصح إلا بموافقة الأطراف الثلاثة!
ومن
عجب أن يستغل هؤلاء الذين يعتبرون قطر موضوعهم؛ العدوان الإسرائيلي على الدوحة،
فيتحدثون عن الدولة الكبيرة والصغيرة. فلا يمكن وقوع مثل هذا العدوان على مصر، مع
أن مصر في مواجهة تحدٍ كبير أيضا، لعله أكبر من المحاولة الإسرائيلية باغتيال قادة
حركة حماس، وهي إن مست السيادة القطرية، إلا أنها فشلت في تحقيق أهدافها!
رمية بغير رام:
لقد
اعتبر هؤلاء العدوان الإسرائيلي رمية بغير رام، وكأنهم حلفاء نتنياهو. فإذا لم
يستطيعوا العزف على نغمة قطر التي مولت سد النهضة، فها هو العدوان مع افتتاح السد
يجعلهم يواصلون هدفهم. فقطر دولة صغيرة ومصر أولى بحركة حماس، كما أنها أولى
بالمفاوضات. وبدا بعض المصريين من الكتّاب كما لو كانوا يبتزون نتنياهو بأنه لا
يستطيع العدوان على مصر، وكأن الدول العربية كلها جرى اختزالها في دولتين: مصر
وقطر، لعقد المقارنة بينهما. يُنظر في هذا الصدد إلى ما كتبه الكاتب السعودي داود
الشريان، والكاتب البحريني عادل مرزوق!
الشريان
كتب: إذا اعتدى نتنياهو على مصر فسوف يفتح على إسرائيل أبواب الخطر الوجودي.
ومرزوق كتب: إذا أرادت قطر حماية دورها كوسيط فعليها ترك ملف الوساطة لمصر، فهي
الدولة الوحيدة التي لا تجرؤ إسرائيل على العبث معها! فلماذا مصر التي تعقد معها
المقارنة، وليس غيرها من الدول العربية؟!
إن
حديثا ينتشر على المواقع، يؤكد أن مصر عرضت استضافة حركة حماس، دون ذكر مصدر بعينه،
وأحيانا يتم اللجوء إلى الصحافة الأجنبية لتأكيد هذا الادعاء. ومع أن مواقع مصرية
تنشر ذلك، إلا أن أحدا لم يبحث عبر مصادره في القاهرة عن صحة هذا الخبر!
وقديما
قيل: إذا كان المتحدث مجنونا فليكن المستمع عاقلا. فعريضة الاتهامات لحماس من جانب
مصر زاخرة بالجرائم، وليس أدناها أنها خطفت جنودا مصريين، وفتحت السجون، وشاركت في
فوضى يناير، واقتحمت الحدود، وتم توجيه الاتهام للرئيس مرسي وغيره بالتخابر مع
الحركة. وإذا كانت القاهرة قد قبلت بعد طوفان الأقصى، وقبل ذلك، القيام بدور
الوساطة، فلأن هذا كان كفيلا بتعويمها. وفي الحملة الانتخابية للرئيس بايدن قال
إنه لن يعطي الرئيس المصري شيكا على بياض، ولن يتواصل معه إلا إذا أحرز تقدما في
ملف حقوق الإنسان، فجاء العدوان على غزة ليلغي هذا الوعد الانتخابي!
منهم من استغلوا العدوان لممارسة أسلوبهم في تحقير قطر، ظنا منهم أنهم ينتصرون لمصر، ومنهم من يفعل لأنه لا يسعده أن تكون الدوحة جزءا من جملة مفيدة في العالم، وليسوا مع مصر، وودّوا لو تعرضت مصر لنفس العدوان
لماذا
لم يصدر من القاهرة إعلان رسمي عن الاستعداد لتوفير الإقامة في مصر لقيادات حركة
حماس التي تقيم بالدوحة، لإسباغ الحماية عليهم، وترك الأمر لخيالات أطراف في
الداخل ودعاية في الخارج، لا أعتقد أنها تستهدف الانتصار لمصر؟!
ويبدو
الأمر استمرارا لمرحلة القطيعة، ومصر الرسمية الآن في أزمة حقيقية مع إسرائيل، ولم
يكن موقفها من العدوان على قطر أقل حدة من موقف الدوحة نفسها. فلماذا ينفخون في
الكير، ويتمنون لقاء العدو، لقاء مصر له، وليس هم؟ لأنهم سيستمرون في عملية
التنظير عبر صفحات التواصل، بما يؤهلهم ليكونوا الامتداد الطبيعي لجنرالات
المقاهي!
وهؤلاء
ليسوا سواء، فكل منهم له في مدح النبي غرام. فمنهم من استغلوا العدوان لممارسة
أسلوبهم في تحقير قطر، ظنا منهم أنهم ينتصرون لمصر، ومنهم من يفعل لأنه لا يسعده
أن تكون الدوحة جزءا من جملة مفيدة في العالم، وليسوا مع مصر، وودّوا لو تعرضت مصر
لنفس العدوان!
لقد
قالوا إن قطر تقوم بأدوار أكبر منها، حسدا من عند أنفسهم وليس خوفا عليها، وكأنها
لأول مرة تقوم بدور الوساطة، وهي التي قامت بها في ملفات عدة، من لبنان، إلى
السودان، بجانب وساطات إنسانية في سوريا، وغزة، وأوكرانيا، بل ليست المرة الأولى
التي تقوم فيها بوساطة على مستوى الصراع بين المقاومة والجانب الإسرائيلي!
اللافت
هنا أنهم اكتشفوا بهذا العدوان أن قطر لا توجد فيها سفارة إسرائيلية، وأنها ليست
عميلة لإسرائيل، وأن وساطتها لصالح المقاومة، فليست وسيطا محايدا على مسافة واحدة
من الطرفين؛ تماما كما اكتشفوا أن قطر لم تمول بناء سد النهضة. لكنهم مع ذلك لا
يعتذرون، ويندفعون في مسارات أخرى لتحقيق ذات الغرض! وكأنهم ثور في ساقية!
إنها
لا تعمى الأبصار..!
x.com/selimazouz1