بات من الشائع
القول إن
غزة أصبحت بمثابة اختبارٍ حاسمٍ للبوصلة
الأخلاقية الجماعية، وأن ما يحدث
ليس مجرد أزمة إنسانية، بل انهيار للضمير العالمي، بعد إعلان الأمم المتحدة الصريح
بما لا يدع مجالا للشك وجود إبادة شعبٍ؛ مشهدية تتكشف بوضوح على أرض الواقع،
فالانحطاط الأخلاقي
الإسرائيلي والتوحش
الغربي وضع مستقبل القانون الدولي والعدالة
والكرامة الإنسانية الأساسية في مهب الريح. لكن المؤكد أن القيم الأخلاقية كانت
نسبية وعديمة الأهمية في تاريخ الصهيونية؛ التي تعد امتدادا للهوية الإبادية
الغربية منذ تشكل الذات الغربية الإمبريالية الاستعمارية، فالاستعمار والإبادة
والوحشية بنية لا حدث، لكن غزة كشفت عن مستوى غير مسبوق من الانحدار الأخلافي في
التاريخ مع وجود طبقة غربية أوليغارشية حاكمة أكثر وحشية واستبدادا وعنفا وعدائية
تجاه شعوب العالم، تفوقت على أسلافها بمعانقة القسوة والوحشية، وفشلت الأجهزة الأيديولوجية
وجهود وسائل الإعلام والنخب الغربية في طمس السجل التاريخي الدموي للغرب.
في السابع من أيار/
مايو 2025، حذّرت لجنة خبراء تابعة للأمم المتحدة من أن العالم يقف عند
"مفترق طرق أخلاقي حاسم" مع اقتراب الدمار في غزة من حدّ إبادة سكانها.
وشدد الخبراء على أن "هذا أحد أبشع وأقسى مظاهر تدمير الحياة والكرامة
الإنسانية"، وأضاف: "بينما تناقش الدول المصطلحات -هل هي إبادة جماعية
أم لا- تواصل إسرائيل تدميرها المتواصل للحياة في غزة، من خلال هجمات برية وجوية
وبحرية، مما يؤدي إلى تهجير السكان الناجين وذبحهم دون عقاب".
تتكشف بوضوح أيديولوجية القيادة الإسرائيلية الإبادية، فهي تُروّج لفكرة أن الفلسطينيين يستحقون الإبادة وأنهم مسؤولون عن تدمير أنفسهم، وهو ما يدل على أيديولوجية إبادة جماعية نموذجية، تُجسّد جميع الإبادات الجماعية في التاريخ، إذ تُفسّر وجود المجموعة الضحية على أنه غير مستحق للحياة، وأن بقاءها تهديدا لا يُطاق، وأن الوحشية ضدها مُبرّرة بطبيعتها، و"مستحبة"
ولا جدال في أن
هذه هي النتيجة الحتمية للانحطاط الأخلاقي للقادة الغربيين، فمنذ اندلاع الحرب
الروسية على أوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، ضج الرأي العام العالمي بتصريحات قادة
غربيين يُعربون عن تعاطفهم مع الشعب الأوكراني، بل ويذرفون الدموع أمام الكاميرات،
لكن هؤلاء القادة أنفسهم تحولوا إلى أجسادٍ زومبية قاسية دون قلب أو روح، افتقرت
إلى أدنى تتعاطف مع الشعب الفلسطيني، بعد انتفاضة المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال
في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حيث توافد القادة الغربيون، واحدا تلو
الآخر، على إسرائيل، وتحدثوا بصوت واحد عن حق المستعمرة في الدفاع عن نفسها،
مانحين بذلك قادة الدولة الاستعمارية اليهودية تفويضا مطلقا لقتل الشعب الفلسطيني
وإبادته.
كانت حرب الإبادة
التي شنتها المستعمرة الاستيطانية اليهودية على الفلسطينيين، نتيجة منطقية للشيك
المفتوح الذي منحه الغرب لإسرائيل لذبح الفلسطينيين، وهو ما مكن قوة الاحتلال من
ارتكاب ثلاثة انتهاكات جسيمة للقانون الدولي: قتل وتشويه الأطفال، ومهاجمة المدارس
والمستشفيات، ومنع وصول المساعدات الإنسانية إلى الأطفال. وتُعد هذه الجرائم من
بين الانتهاكات الستة الجسيمة لحقوق الإنسان التي حددها وأدانها القرار 1261، الذي
اعتمده مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 1999. انتهكت إسرائيل جميع أحكام
القانون الدولي المتعلقة بالنزاعات المسلحة، بما في ذلك المادة الأولى من اتفاقية
جنيف لعام 1864، واتفاقية لاهاي لعام 1907، واتفاقية جنيف لعام 1949، بالإضافة إلى
قرار الجمعية العامة رقم 2675 (1970)، الذي ينص بوضوح على أنه "لا ينبغي أن
تكون منطقة المستشفيات أو الملجأ المماثل هدفا للعمليات العسكرية".
بحلول 9 تموز/ يوليو
2025، ووفقا للأمم المتحدة، فإن من بين سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة،
قُتل ما لا يقل عن 57,680 شخصا (حوالي 70 في المئة منهم نساء وأطفال) على يد الجيش
الإسرائيلي، وذلك وفقا لشهادات الميلاد والوفاة، بالإضافة إلى ما يُقدر بنحو
12,000 شخص آخرين في عداد المفقودين ويُفترض أنهم دُفنوا تحت الأنقاض. كما جُرح ما
لا يقل عن 125,000 شخص آخرين. ووفقا للأمم المتحدة، دمّر قصف الجيش الإسرائيلي
الجوي والبري معظم المباني والمرافق السكنية والتجارية والحكومية والتعليمية
والطبية والغذائية في جميع أنحاء غزة. وقد شرّد الجيش الإسرائيلي 90 في المئة من
سكان غزة قسرا، ثلاث أو أربع مرات أو أكثر، إما بسبب تدمير منازلهم أو بسبب أوامر
الإخلاء المفاجئة التي وجهتهم إلى ما يُسمى "مناطق آمنة" بعيدا عن هجوم
وشيك.
في سياق استكمال
حرب الإبادة منع جيش الاحتلال الإسرائيلي جميع شحنات المواد الغذائية الأساسية
والأدوية والوقود والمياه إلى غزة من 2 آذار/ مارس إلى 19 أيار/ مايو 2025، مما
أدى إلى كارثة إنسانية. حتى بعد رفع الحصار جزئيا، لم يُسمح بدخول سوى أقل من 20
في المئة من الشاحنات الـ600 المطلوبة يوميا، وبمجرد دخولها، أعاقت قيود جيش الاحتلال
الإسرائيلي الإضافية وانعدام الأمن في المستودعات توزيع المساعدات. وبحلول نهاية أيار/
مايو، ومع اقتراب المجاعة الجماعية وارتفاع عدد الوفيات، تجاهلت إسرائيل -بدعم من
الولايات المتحدة - شبكة المساعدات الأممية القائمة في غزة، وفرضت منظمة إغاثة
جديدة تُسمى مؤسسة غزة الإنسانية، وهي منظمة إجرامية ساهمت في حرب الإبادة، حيث
أُطلق النار على العشرات من طالبي المساعدة، ولم يُوزع سوى الحد الأدنى من
المساعدات، وتوج الاحتلال الإسرائيلي جرائمه بدعم وبتسليح عصابات فلسطينية إجرامية.
يصف خبراء الأمم
المتحدة الأساليب الإسرائيلية بأنها تعكس "أنماطا موثقة من سلوك الإبادة
الجماعية"، مشيرين إلى النزوح الجماعي للمدنيين، وتدمير البنية التحتية
الأساسية، واستخدام الغذاء والدواء كسلاح. إذ تُعرّف اتفاقية الأمم المتحدة
للإبادة الجماعية هذه الجريمة بأنها أفعال تُرتكب "بقصد التدمير الكلي أو
الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية". وتشمل هذه الجريمة القتل
والتسبب في ظروف تهدد الحياة، وقد ذهب جوزيب بوريل، الممثل السابق للسياسة
الخارجية في الاتحاد الأوروبي والرئيس السابق للبرلمان الأوروبي، إلى أبعد من ذلك،
واصفا أفعال إسرائيل بأنها "أكبر عملية تطهير عرقي منذ الحرب العالمية
الثانية". وأدان رد الفعل الأوروبي الفاتر، ووصفه بأنه مُمَكِّنٌ فعال.
تتكشف بوضوح
أيديولوجية القيادة الإسرائيلية الإبادية، فهي تُروّج لفكرة أن الفلسطينيين
يستحقون الإبادة وأنهم مسؤولون عن تدمير أنفسهم، وهو ما يدل على أيديولوجية إبادة
جماعية نموذجية، تُجسّد جميع الإبادات الجماعية في التاريخ، إذ تُفسّر وجود
المجموعة الضحية على أنه غير مستحق للحياة، وأن بقاءها تهديدا لا يُطاق، وأن الوحشية
ضدها مُبرّرة بطبيعتها، و"مستحبة"، حيث تُجبر المجموعة على الاختفاء
كوسيلة لاستعادة النظام الطبيعي للأمور كما كان ينبغي أن تكون عليه دائما. ففي
نهاية المطاف، أعلن وزراء إسرائيليون بارزون أنه "لا وجود لشعب فلسطيني".
والإعلان عن عدم وجود شعب يُعادل تماما طرح مُبررات إبادته، وقد بدأ الخبراء
الإسرائيليون، بما في ذلك علماء مختصون بالهولوكوست مثل عومر بارتوف، وراز سيغال،
وعومر شاتز، في دق ناقوس الخطر، وحذر المؤرخ الشهير بارتوف من أن عبء الذنب فيما
يتصل بغزة ربما لا يقع على عاتق زعماء اليوم، بل على عاتق الإسرائيليين في الغد.
إن الانحطاط
الأخلاقي الصهيوني والتوحش الغربي بعد طوفان الأقصى، يشير إلى حالة من الخوف
والذعر الوجودي أصابت الكينونة الصهيونية والغربية، التي تملّكتها مشاعر الخشية من
فقدان سيطرتها وإزاحة هيمنتها العالمية في ظل تحولات جيوسياسية عميقة في بنية
النظام العالمي الذي هيمن فيه الغرب، وهو ما جعل من المسألة الأخلاقية نسبية
وجانبية. فمع شيوع الخوف الشديد والقلق الوجودي في إسرائيل عقب عملية طوفان الأقصى،
تحطمت أسطورة الاستقرار والأمان الصهيونية، القائمة على الإيمان بجيش الدفاع
الإسرائيلي وقدرته على حصر الصراع مع الفلسطينيين في عمليات دورية في غزة والضفة
الغربية، مع خسائر محدودة، فبعد السابع من أكتوبر، بدأ يشعر الإسرائيليون بمستوى
جديد من الضعف وانعدام الأمن، والشك في بقاء المشروع الصهيوني، وقد أصبح من الشائع
في إسرائيل اعتبار الأخلاق والأمن متعارضين، وهو ما نجده في السلوك الغربي الرسمي،
الذي أصبح يركز الآن على الدفاع عن إسرائيل ودعم إعادة تأهيلها، وعلى مكافحة
معاداة السامية ونزع الشرعية عنها.
اعتبار الأخلاق والأمن متعارضين هي المعادلة التي شكلت بنية المشروع الغربي الإمبريالي وقاعدته المتقدمة المستعمرة اليهودية في الشرق الأوسط، اليوم، ففي زمن الخوف لا مجال لإثارة المخاوف الأخلاقية والدخول في تأسيس خطاب أخلاقي حول سياسات إسرائيل ومستقبل الصهيونية
إن اعتبار
الأخلاق والأمن متعارضين هي المعادلة التي شكلت بنية المشروع الغربي الإمبريالي
وقاعدته المتقدمة المستعمرة اليهودية في الشرق الأوسط، اليوم، ففي زمن الخوف لا مجال
لإثارة المخاوف الأخلاقية والدخول في تأسيس خطاب أخلاقي حول سياسات إسرائيل
ومستقبل الصهيونية. فحقيقة أن حوالي 70 في المائة من اليهود الإسرائيليين يؤيدون
النقل "الطوعي" المستوحى من ترامب لمليونين من سكان غزة إلى مكان غير
محدد، هي شهادة عميقة على هذا الغياب للخطاب الأخلاقي وحضور القلق الوجودي، فالخوف
المُستجدّ ترافق بإعادة تقييم للأولويات الفردية والجماعية.
فاليهود الذين
بذلوا جهودا كبيرة في المستويات العليا من هرم ماسلو للاحتياجات، بحثا عن المعنى
وتحقيق الذات الأخلاقية والثقافية والاقتصادية، يجدون أنفسهم اليوم ينحدرون في
أدنى مستوى من هرم ماسلو، مُركزين على احتياجاتهم الأساسية، ألا وهي الأمن والأمان.
أما المعايير الأخلاقية والمخاوف المتعلقة بكيفية شنّ الحرب في غزة، أو توزيع
المساعدات الإنسانية، أو مستقبل غزة والضفة الغربية، فقد أصبحت الآن من الدرجة
الثانية في أحسن الأحوال، ويُنظر إليها على أنها ترف لا مكان له.
يمكن فهم
الانحطاط الأخلاقي الإسرائيلي والتوحش الغربي من عدسة التحولات العميقة في بنية
النظام الدولي وخوف الغرب من فقدان هيمنته مع صعود قوة عالمية تهدد مكانته، ويشكل
ضعف المستعمرة اليهودية والشك في بقائها أحد أهم مؤشرات زوال هيمنة الغرب. فمع
التضحية بالأخلاق لمصلحة الأمن حققت المستعمرة اليهودية نجاحات تكتيكية وضمنت
هزيمة استراتيجية، فالضرر الذي لحق بسمعة إسرائيل سوف يحولها إلى دولة منبوذة، وهو
ما سيتفاقم على المدى الطويل بسبب التحولات الديموغرافية والجيوسياسية. فعلى مدى
العقود القادمة، سيتحول النفوذ الجيوسياسي بشكل جوهري نحو دول ذات حكومات و/أو
شعوب لديها نظرة سلبية تجاه المستعمرة الإسرائيلية. وفي الغرب، يزداد تعاطف
الأجيال الشابة مع الفلسطينيين بشكل متزايد.
اعتمدت المستعمرة
اليهودية في فلسطين في وجودها وبقائها على الإمبريالية الغربية كقاعدة متقدمة، وللتخلص
من عقدة الذنب التاريخية، وقد هيمن حلفاء إسرائيل على الساحة الجيوسياسية على مدى
العقود القليلة الماضية، لكن هذا الوضع بدأ يتغير، وثمة شك لدى الخبراء ببقاء
إسرائيل دون الدعم الغربي، ومع التحولات العالمية العميقة يتنامى خوف وذعر
الإسرائيليين، إذ تتنبأ التوقعات الحالية بقوة بتحول في هيمنة الاقتصاد العالمي من
مجموعة السبع إلى دول ومجموعات أخرى، بما في ذلك "الدول السبع الناشئة"
(البرازيل والصين والهند وإندونيسيا والمكسيك وروسيا وتركيا). ووفقا لشركة برايس
ووتر هاوس كوبرز، بحلول عام 2050، ستحتل الصين والهند مرتبة أعلى من الولايات
المتحدة كأكبر اقتصادين في العالم (مقاسا بالناتج المحلي الإجمالي عند تعادل القوة
الشرائية). وستقفز إندونيسيا من المركز الثامن إلى المركز الرابع، وتركيا من
المركز الرابع عشر إلى المركز الحادي عشر، وستتقدم المملكة العربية السعودية
مركزين إلى المركز الثالث عشر. وستدخل نيجيريا ومصر وباكستان المراكز العشرين
الأولى، بينما ستنسحب إيطاليا وإسبانيا وكندا وأستراليا، وستتراجع كل دولة غربية
أو حليفة في التصنيف.
المشكلة طويلة
الأمد بالنسبة لإسرائيل وحلفائها هي أنه على الرغم من أن البيانات القابلة
للمقارنة حول المواقف العالمية تجاه إسرائيل أو الفلسطينيين قديمة، فمن المرجح أن
يكون عدد متزايد من الدول والشعوب أقل تعاطفا مع إسرائيل في النظام الاقتصادي
المستقبلي، وقد أشارت آخر مقارنة واسعة النطاق أجراها مركز بيو للأبحاث في عام
2013 إلى أن 41 في المئة من المستجيبين في الصين لديهم رأي غير مُواتٍ، و25 في
المئة لديهم رأي غير مواتٍ للغاية تجاه إسرائيل، وهو ما نجده في معظم الدول
الشرقية، وتتفاقم "مشكلة العلاقات العامة" لإسرائيل في الغرب بسبب وجود
أعداد كبيرة من الشباب الذين يحملون رأيا سلبيا عن الدولة أو دورها في الصراع.
في الولايات
المتحدة، أشار استطلاع رأي أجراه مركز بيو في آذار/ مارس 2023 إلى أن 56 في المئة
من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما، و47 في المئة الذين تتراوح
أعمارهم بين 30 و39 عاما؛ لديهم وجهة نظر سلبية تجاه إسرائيل، على عكس الآراء
الأكثر إيجابية للأجيال الأكبر سنا. ويتكرر هذا الاتجاه في استطلاعات أخرى في
أوروبا، يميل أقل من نصف المشاركين إلى التعاطف مع جانب واحد في الصراع، ولكن
باستثناء ألمانيا المنقسمة على نطاق واسع، فإنهم يتعاطفون أكثر مع الفلسطينيين.
وفي جميع أنحاء أوروبا، يكون الشباب أكثر تعاطفا مع الفلسطينيين من كبار السن. في
استطلاع أجري عام 2023، رأى 36 في المئة من الكنديين الذين تتراوح أعمارهم بين 18
و34 عاما و31 في المئة ممن تتراوح أعمارهم بين 35 و44 عاما أن إسرائيل "دولة
ذات فصل عنصري مشابه لنظام الفصل العنصري".
في ظل تواطؤ
الغرب مع الإبادة الجماعية التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني، يشير كثيرون إلى انحطاط
الغرب وإفلاسه الأخلاقي، فبعد غزة فقد الغرب شرعيته في تصوير نفسه باعتباره حصن
القيم العالمية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والمساواة والعدالة، وقد
تنامت الأصوات التي تشكك أصلا في وجود أخلاق غربية، فلطالما ساد العنف والنسبية
الأخلاقية واللامبالاة بمعاناة وإبادة من يُعتبرون أدنى منزلة أو غير بشريين بما
يكفي، فالوجه الحقيقي للغرب، أو القوة الدافعة وراء انتصاره على بقية العالم، هو
مزيج من القسوة والدموية والهمجية والوحشية، وهو ما يتجلى في الحروب الصليبية،
والعبودية عبر الأطلسي، والاستعباد الاستعماري لأفريقيا وآسيا.
ولعل الكارثة
الأخلاقية تتجسد في النخب السياسية والفكرية العربية والاسلامية ما بعد
الاستعمارية، التي صدّقت السردية الغربية المنمقة عن ذاتها وأهملت سياساتها
وأفعالها. فمعظم الأدبيات المستخدمة في نظامنا المدرسي ما بعد كولينيالي مشبعة
بالآراء الغربية، التي تصور الغرب كمهد للحضارة، وعقدة النقص التي غرسها الاستعمار
وعقود من الاغتراب الثقافي صورت الإسلام كنقيض للحضارة وتجسيدا للتخلف والاستبداد
والكراهية والعنف. فالمشكلة التي واجهتها بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا على مدى
القرن الماضي هي أن نخبها كانت تميل إلى الإعجاب بالغرب، أو اعتبار الشعارات
الغربية الفارغة حول العدالة لجميع الشعوب، والاحترام المتبادل، والتعايش السلمي،
والتسامح الديني، والمساواة بين جميع الناس بغض النظر عن العقيدة، أو لون البشرة،
أو الأصل القومي، أمرا مسلما به.
إن الاستلاب
الفكري والعمى الأخلافي الذي أصاب النخب السياسية والفكرية العربية والإسلامية،
منع من إدراك الذات الغربية الإبادية والتشكيك في الطريقة التي صوّر بها الغرب
نفسه مقارنة بالحضارات الأخرى، فعقدة الاستعمار خلفت كينونات مستلبة كفرت بذاتها
وتراثها وتاريخها، وآمنت بغيرها دون مساءلة، ولم تميز بين الادعاءات والسلوكيات. فعبء
الرجل الأبيض والمهمة الحضارية هي مداخل الاستعمار والاستعباد، بإضفاء سمة أخلافية
نبيلة على مهمة رذيلة، فلم يكن الغرب يوما مهد العدالة، أو المساواة الاجتماعية،
أو الديمقراطية، أو الحريات، وهي القيم التي غزت الولايات المتحدة من خلالها دول
وأطاحت بحكومات غير موالية وخاضعة.
في حقيقة الأمر
لا يقرأ العرب والمسلمون في مدارسهم الجانب المظلم والخفي للتنوير الأوروبي، فالمفكرون
البارزون، الذين يُنظر إليهم على نطاق واسع على أنهم ركائز التنوير الأوروبي، كانوا
في الواقع من منظري ومرتكبي العنصرية، وكراهية الأجانب، وكراهية الإسلام، ومعاداة
السامية، وكراهية النساء. فعلى سبيل المثال، خذ حالة فولتير، وهو الفيلسوف الفرنسي
الذي يحظى باحترام كبير حول العالم، وخاصة في الدول الإسلامية والعربية، باعتباره
تجسيدا للمثقفين الذين كرسوا حياتهم للدفاع عن مبادئ المساواة والعدالة والتسامح
والحرية والإنسانية النبيلة، لكن خلف هذه الصورة المثالية لفولتير يكمن جانبٌ أكثر
قتامة، فقد كان من أبرز دعاة سيادة البيض، التي ارتكزت على نزع الصفة الإنسانية عن
غير الأوروبيين وتبرير شيطنة الثقافات الأخرى أو إخضاعها. وفي مسرحيته "تعصب
محمد" الصادرة عام 1743، وصف فولتير النبي محمد بأنه "وحش"،
و"دجال"، و"همجي"، و"عربي وقح"، و"قاطع
طرق"، و"خائن"، و"مخادع"، و"قاسٍ"،
و"أكثر الطغاة إجراما". وفي كتابه الصادر عام 1756 بعنوان "مقال في
الأخلاق وروح الأمم"، وصف فولتير، الذي كان أيضا معاديا للسامية، اليهود
بأنهم أغبياء، وهمجيون، وجشعون، ومؤمنون بالخرافات، وحاقدون. وهكذا، خلق في
كتاباته تسلسلا هرميا بين الأعراق، يترأسه الرجل الأوروبي الأبيض. وكتب في مقالة شهيرة:
"لا يُسمَح إلا للأعمى بالشك في أن البيض والزنوج والمهقين والهوتنتوت
والصينيين والأمريكيين أعراق مختلفة تماما".
أما الفيلسوف الفرنسي
مونتسكيو فقد كان مدافعا عن العبودية، واعتبر الأفارقة السود أقل إنسانية من
الأوروبيين، وفي كتابه "روح القوانين" الصادر عام 1748، قال مونتسكيو:
"لا يمكننا أن نتخيل أن الله، وهو كائن حكيم للغاية، وضع روحا، وخاصة روحا
طيبة، في جسد أسود بالكامل". واعتقد مونتسكيو أن الإسلام عدوٌّ وجوديٌّ
لأوروبا وأنه العدو اللدود للمسيحية، وهو ما كان يتماشى مع الرأي والموقف الأوروبي
السائد تجاه الإسلام آنذاك. وفي كتاباته عن قسوة الإسلام المزعومة، وصف النبي محمد
صلى الله عليه وسلم وصفا قاطعا بأنه أمير حرب ومُحتال، ووصف هذا بأنه طغيانٌ
متأصلٌ في الإسلام. وقد ازدهرت العنصرية وكراهية الإسلام ومعاداة السامية في
أوروبا منذ الإطار النظري الذي وضعه مونتسكيو وفولتير وغيرهما ضد غير الأوروبيين،
وخاصة المسلمين.
الانهيار الأخلاقي
للغرب ليس انحرافا عن التنوير والليبرالية، بل هو في صميم بنيته وتكوينه. ولا عجب
في ذلك، فالدول الغربية التي تدّعي اتباع مبادئ وقيم التنوير، ساندت إسرائيل بدعم ثابت،
وهي دولة لها تاريخ موثق في انتهاك القانون الدولي والإنساني. ويستند التزام الغرب
المعلن بالسلام والاستقرار والتعايش الدولي إلى قناعةٍ راسخة بأن تحقيق السلام
العالمي لا يمكن، ولا ينبغي أن يكون على حساب الحفاظ على النظام العالمي الأوروبي
المركزي، الذي تأسس قبل أكثر من قرن، ولذلك فإن كل من يتحدّى هذا النظام العالمي
سيُواجه حتما غضب الغرب ويكشف وجهه الحقيقي، فالفلسفة الغربية متجذرة في لعبة
صفرية ضمنية، حيث يُفترض أن يسيطر الرجل الأبيض على العالم. لذا، فإن العالم
الوحيد المقبول والصالح للعيش هو عالم يمكن فيه تحقيق ازدهار الغرب وتطوره على
حساب الشعوب الأخرى.
أصبح من الشائع في إسرائيل اعتبار الأخلاق والأمن متعارضين، وهو ما عززه السلوك الغربي الرسمي، الذي أصبح يركز الآن على الدفاع عن إسرائيل ودعم إعادة تأهيلها ومساندتها في حرب الإبادة
لطالما كان الغرب
متوحشا عنيفا، ولم يشهد التاريخ وجود طبقة حاكمة أكثر وحشية واستبدادا وعنفا
وعدائية تجاه شعوب العالم من الطبقة الحاكمة الغربية، لكنها بلغت اليوم مستوى من
الانحدار لا سابق له، فسياسات الطبقة الأوليغارشية الحاكمة في الغرب شريرة وعديمة
الضمير، أثرت، ولا تزال، على حساب عامة الناس في الغرب ذاته، فقد تم التلاعب بوعي الكثيرين
في الغرب لدعم سياسات وإجراءات لا تخدم إلا مصالح الأثرياء. علاوة على ذلك، خُدع
الناس في الغرب ليعتقدوا أن لهم الحق في ممارسة حقوقهم الأساسية في ظل حكومة
ديمقراطية. لكن في الواقع، ما يتمتع به هؤلاء الناس هو مجموعة من الصلاحيات
الممنوحة لهم من الطبقات الحاكمة.
لا أحد اليوم في
الغرب يُجسّد الارتباك الأخلاقي والنسبية في عصرنا أفضل من الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب، فهذه الشخصية النرجسية الانتهازية، المبتذلة، والمسيئة، والفاسدة، تعبر عن
جوهر التفوقية العرقية وحق تقرير البيض، وهو متماثل مع نظيره رئيس حكومة الاحتلال
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؛ المطلوب لمحكمة الجنايات الدولية كمجرم حرب والمحاكم
المحلية بسبب الفساد واللصوصية والرشوة، فقد تواطأ كلاهما على الإبادة والتطهير
العرقي، وبلغ الانحدار الأخلاقي حد السوريالية، فمع كل هذه الجرائم، يعتقد ترامب
أنه يستحق جائزة نوبل للسلام، ويدعمه نتنياهو في الحصول على الجائزة. وكما أصبحت الأخلاق
مسألة قانونية في المجتمع الإسرائيلي، فإن الانهيار الأخلاقي الأمريكي يحسده
ترامب، ففي قضية جيفري إبستين، غضّ كثيرٌ من الأمريكيين الطرف عن انحرافات دونالد
ترامب الأخلاقية، وأظهروا أن هويتهم الاجتماعية والسياسية تطغى على الضمير
الإنساني.
خلاصة القول أن
الانحطاط الأخلاقي الإسرائيلي متأصل في الشخصية الصهيونية، وهو نتاج كينونة تعيش
حالة من الخوف والقلق الوجودي الدائم، فعملية طوفان الأقصى حطمت أسطورة الاستقرار
والأمان الصهيونية، القائمة على الإيمان بجيش الاحتلال الإسرائيلي وقدرته على حصر
الصراع مع الفلسطينيين في عمليات دورية في غزة والضفة الغربية مع خسائر محدودة، فقد
تنامى القلق الإسرائيلي بشعور خانق من الضعف وانعدام الأمن، والشك في مستقبل
المشروع الصهيوني، وأصبح من الشائع في إسرائيل اعتبار الأخلاق والأمن متعارضين،
وهو ما عززه السلوك الغربي الرسمي، الذي أصبح يركز الآن على الدفاع عن إسرائيل
ودعم إعادة تأهيلها ومساندتها في حرب الإبادة، وهو ما يشير إلى وحشية الغرب
المتأصلة، وتعطشه للدماء، وإفلاسه الأخلاقي، والذي تتنامى وحشيته وانحداره الأخلاقي
مع التحولات العالمية والتغيرات الجيوسياسية التي تهدد مكانته المهيمنة، وعلى
العرب والمسلمين التخلص من عقدة النقص والعودة إلى الذات، وإدراك أن عملية طوفان
الأقصى كشفت زيف الغرب وهشاشة الصهيونية، وكانت حدثا مؤسسا لما يأتي من الزمن.
x.com/hasanabuhanya