كتاب عربي 21

إنهم يبحثون عن دين للدولة!

"لا جديد هذا العام سوى هذا الحضور الرسمي لمولد السيد البدوي"- التواصل الاجتماعي
في هذا العام بدا التصوف اختراعا، وبدت الموالد في أول ظهور لها، وذلك لأن النظام دخل على الخط بولاية الشيخ أسامة الأزهري لوزارة الأوقاف، فصرنا أمام سلطة تبحث عن دين!

ولا يمنع هذا أنه منذ وقوع الانقلاب العسكري، وهناك من ينشرون عن الأداء الشعبي في هذه الموالد، فيعرّون حالات بهلوانية في الأساس، وكلٌّ له في ذلك هدف، فهناك منظومة كاملة تصوّر المصريين كما لو أن دينهم أصبح في خطر بتغييب الإخوان، وكأنهم بنو إسرائيل الذين تركهم سيدنا موسى فأضلّهم السامري، وهناك سلفيون يندسون وراء هذه الحالة السياسية في أصلها، فيعملون على تشويه التصوف، عدوهم الأصيل. ومن يقترب من هذه الحالة سيقف على حجم العداء الذي لا يقبل النقاش من جانبهم، لكن السلفية الرسمية بدخول السلطة على الخط اختفت في ظروف غامضة، وللدقة ليست غامضة بالكامل، مع أن القضية عندهم هي كفر وإيمان!

وأذكر أنني فجعت عندما شاركت في ندوة امتدت لأيام في قناة "المستقلة"، وبينما الحديث سياسي خالص، إذا بمداخلة من أحد علماء المملكة العربية السعودية يأخذ الحديث في اتجاه آخر، والقول إن مصر مشكلتها ليست سياسية، ولكن في وجود الأضرحة فيها، وفي وجود من يتبرّكون بها. فأصبت بالذهول لهذا المنعطف الذي أدخلنا فيه، وليس في جعبتنا ما يثري الحديث في مثل هذه القضايا الجدلية منذ قرون، ولم يحسمها أهل الاختصاص. لكن الرجل بدا حريصا على ألا يغادر هذه المسألة، ووجد مداخلات كثيرة تؤوب معه، وكأننا في برنامج "ندوة للرأي" الذي كان يقدمه حلمي البلك!

جرّبت السلطة اتجاهات أخرى ضمن أدوات المعركة مع جماعة الإخوان المسلمين، فكان الحديث عن أن مصر أصلها فرعوني، وبدا الانتشار الواسع لهذه الدعوة، لدرجة أن أحزاب المولاة اختارت كليوباترا رمزا انتخابيا، وهو تعبير عن جهل عميق بتاريخ هذه المرحلة

الحضور الرسمي للمولد

منذ سنوات طويلة وهناك مولد للسيد أحمد البدوي بمدينة طنطا، وهناك موالد تُقام في طول القُطر المصري وعرضه، فلا جديد هذا العام سوى هذا الحضور الرسمي لمولد السيد البدوي، وكأن الدولة لم تعرف التصوف إلا بتصعيد أسامة الأزهري لمنصب وزير الأوقاف، والذي يأخذ النظام في هذه السكة، وقد اصطحب معه المفتي السابق علي جمعة في هذه الزيارة.

ولأنه النظام، فقد كان جانب من الشراسة في الهجوم سببه حالة الاستقطاب السياسي الذي تعيشه مصر من بعد الثورة، وكانت السياسة حاضرة من قبل لكن ليست بهذه الحدّة! فعندما حضرت الجماعات الدينية بقوة في المشهد حتى بداية التسعينات، كان اليسار الذي لا يؤمن بالاصطدام بدين الناس يرى ضرورة العودة لدين المصريين، لمواجهة هذا التدين الوافد من بلاد الحجاز. وهناك أقوال تتردد على أنها مسلّمات حتى تستقر، لأنها لم تجد من يعصف بها.

وكنت في جلسة مع نفر من القوم، عندما رددت عليهم بأن الموالد التي نراها ليست دينا مصريا أصيلا، لكنها وافدة أيضا، وهي ما بقي لنا من الدولة الفاطمية، والتي تُعد استعمارا في ثقافتكم، فبدا ما أقوله كما لو كان فتحا في دراسة التاريخ، وتوقف النقاش!

إن بعضا من الذين يعادون التصوف الآن يتجاهلون أن رموزا دينية مصرية كانت تنتمي إليه، ولعلهم نسوا أن شيخ الأزهر التقي الورع عبد الحليم محمود كان قطبا صوفيا كبيرا، وأن الشيخ الشعراوي كان صوفيا أيضا، ولم تكن هناك مشكلة، ليس فقط لأن النظام لم يفرض نمط تدين قياداته على الناس، فهذا لم يكن موضوعه، فالعهد الذي عُيّن فيه الشعراوي وزيرا للأوقاف هو نفسه الذي عُيّن فيه عبد العزيز كامل وزيرا في الوزارة ذاتها، وهو لا يشارك المتصوفة إيمانهم، لأن الدولة التي رفعت شعارات دينية كان لديها من السياسة ما يشغلها عن هذه الانحيازات!

بل إن الشيخ الشعراوي نفسه سبق له أن عمل في المملكة العربية السعودية أيام توهّج المذهب الوهابي، ولم يرَ القوم غضاضة في تصوفه، وحتى وإن كان هناك من يقول إن الشيخ الشعراوي تصوّف على كِبَر، فإنه على الأقل لم يكن على خط السلفية الوهابية في أي مرحلة من حياته. لكن يحكم الدول ما يحكم الاتجاهات الكبيرة من عدم إقامة الولاء والبراء على قواعد الاختلاف المذهبي!

مسؤولون في حضرة التصوف

ومع ذلك، لم نجد من المتصوفين الرسميين أو الأزهريين من هم جزء من التصوف الشعبي. وقد كان الشيخ الشعراوي لفترة طويلة يسكن في شقة ببناية تطل على مسجد الإمام الحسين، ويفصلها عنه شارع صغير يكون في المُولد مكدسا بآلاف البشر، ولم يُذكر أنه نزل إليهم ليشارك الدراويش الدروشة، أو يتمايل في حلقات الذكر، والأمر نفسه يسري على شيخ الأزهر عبد الحليم محمود أو أي وزير آخر!

إنني أعلم أن كثيرا من المسؤولين في مصر قد يذهبون لشيوخ للطرق معروفين بأسمائهم ويسألونهم الاستمرار في وظائفهم، مثل صالح أبو خليل في الشرقية. وقد درست الحالة عن بعد، وعلمت أن الرجل الذي كان يحتشد عنده كثير من الساسة الرسميين مثل رئيس مجلس الشعب فتحي سرور، والفنانين الكبار، كان يقوم بما يُسمّى لدى المصريين "بتلبيس طواقي"، فيُوصي فتحي سرور على هذا الوزير مثلا، ثم يطلق همهمات للوزير بأن مصلحته قُضيت، بما يوحي أنها تمت باتصالاته بالأولياء وغير ذلك! لكن ليس في كل مرة تسلم الجرة، ففي يوم كان عنده أحد المحافظين يطلب الاستمرار في وظيفته، وهناك حركة محافظين يُتحدث عنها، فبشّره، وفي اليوم التالي عُزل هذا المحافظ!

بيد أن هذا يندرج ضمن الحياة الأخرى لهؤلاء السياسيين التي لا يظهرونها علنا، ولا يمارسونها طقوسا، ولا يُفصحون عن هذه التحركات، وهو أمر يعرفه المنتسبون للطرق الصوفية، فالرجل البسيط الذي يتمايل في الموالد بملابس متواضعة، قد تجده في الصباح التالي في كامل زينته على منصة القضاء، وقد يحكم بالهوى، وهي حالة فصل بين التصوف والعمل، أو التدين في عمومه!

التدين الرسمي للدولة

فلما جرى تنصيب أسامة الأزهري وزيرا للأوقاف ابتدع؛ ربما لشعوره بأن النظام بحاجة إلى تدين مريح يجابه به الإخوان المسلمين، ويمثل التدين الرسمي للدولة المصرية. وكان الاحتفاء بمولد السيد البدوي من جانب الأبواق الإعلامية للنظام تأكيدا على هذا المعنى.

وقد صار التوجه الجديد يمثله أسامة الأزهري وشيخه علي جمعة، مع أن شيخ الأزهر هو أكثر رسوخا في المجال منهما، لكن الشيخ لن يتجه إلى حيث توظيف التصوف سياسيا باعتباره دينا جديدا.

وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فقد كان علي جمعة مفتيا للديار المصرية، ولم يخطُ هذه الخطوة للربط بين الدولة والموالد وأعمال الدروشة، لكنه "الفكر الجديد" الذي يمثله أسامة الأزهري الذي يخلط بين المولد والوزارة، وبين طقوس الحضرة والأداء الرسمي للدولة، وهو لا يأتي بما لم يأت به الأوائل إلا بموافقة أهل الحكم، وإدخال الغش والتدليس عليهم، من أجل المصالح المرسلة لكل الأطراف، وليثبت أهميته للنظام فلا يُخلى سبيله!

لقد جرّبت السلطة اتجاهات أخرى ضمن أدوات المعركة مع جماعة الإخوان المسلمين، فكان الحديث عن أن مصر أصلها فرعوني، وبدا الانتشار الواسع لهذه الدعوة، لدرجة أن أحزاب المولاة اختارت كليوباترا رمزا انتخابيا، وهو تعبير عن جهل عميق بتاريخ هذه المرحلة، فقد كانت المذكورة مقدونية، وليست مصرية، وكانت سيئة الذكر بكل ما يحمله ذلك من دلالة!

وهذا اتجاه لم يؤوّب معه سوى مجموعة من اللجان الإلكترونية وبعض الإعلاميين الجهلاء، فقد استقر في الوجدان أنه لا بد من دين يتم توظيفه، ولا بد من اتجاه ديني منافس، فكان التصوف!

الإخوان والتصوف
الأنظمة ترى في التصوف الأمان، أي أنه نوع من التدين الآمن الذي لا يزاحم في السياسة، ولا يحلم بالحكم، ولا يشارك في الثورة. وهذه خيارات معقولة، لكن الحاصل الآن هو النظر إليه باعتباره بديلا يقوي مركز السلطة وشعبيتها في الشارع، ولو فكر القوم وقدّروا لوقفوا على أنهم اشتروا الترام

والغباء السياسي أن الإخوان ليسوا في مشكلة مع التصوف، وقد كان حسن البنا عضوا في طريقة صوفية، وفي تعريفه الواسع لجماعته قال إنها جماعة سلفية وطريقة صوفية. ولا تجد في الخطاب الرسمي للإخوان بيانا أو كتابا يحمل على التصوف وطقوسه، سواء الفلسفي منه أو الشعبي المرتبط بالموالد والحضرات. فماذا باع الأزهر وتابعه علي جمعة للنظام؟!

إن الأنظمة ترى في التصوف الأمان، أي أنه نوع من التدين الآمن الذي لا يزاحم في السياسة، ولا يحلم بالحكم، ولا يشارك في الثورة. وهذه خيارات معقولة، لكن الحاصل الآن هو النظر إليه باعتباره بديلا يقوي مركز السلطة وشعبيتها في الشارع، ولو فكر القوم وقدّروا لوقفوا على أنهم اشتروا الترام!

في آخر انتخابات لمبارك، وأول انتخابات للسيسي، تصادف أنني كنت ضيفا على قناة "الجزيرة" للتعليق على خبر إعلان مشيخة الطرق الصوفية أن خمسة عشر مليون صوفي مرسمين في الطرق المختلفة؛ قرروا بالإجماع مساندة المرشح الرئاسي.. هكذا لم يزيدوا نفرا رغم مرور قرابة الأربعة عشر عاما!

وقلت لو صح الرقم، فإن هذا العدد الكبير سينتهي من الحضرة والمولد وينام، ليستيقظ بعد إغلاق الصناديق وانتهاء المواعيد الرسمية ليوم الاقتراع!

وبعد الثورة، فإن من مارس السياسة منهم كان وحيدا، وهو علاء أبو العزايم، شيخ الطريقة العزمية، والرجل كان يعيش في إحدى الدول الأوروبية، وعاد ليرث والده في المنصب بحسب تقاليد المشيخة، ولم يكن شخصا مقنعا للأتباع، فضلا عن أن تربيته في الخارج لم تجعل منه درويشا يعمل حساب الأجهزة الأمنية، فاصطدم بها ذات مرة، ولهذا انقسمت طريقته.

وكان يريد حضورا للصوفية في المشهد السياسي أسوة بالسلفيين، فعندما شارك السلفيون فيما عُرف بجمعة الشريعة والشرعية، دعا الخمسة عشر مليونا لجمعة تُظهر قوة الطرق الصوفية، فكانت الصورة مضحكة لبؤسها، وشرّ البلية ما يضحك، فقد كان شخصا وحيدا في الميدان يرفع لافتة خضراء خاصة بالموالد كما لو كانت بالونا، ويظهر من بعيد وهو يلف في الميدان بملابسه المزركشة، وإن الله يحب المحسنين.

فحتى في لحظة التحدي والتنافس، لم يكترث الصوفية بشيء، ولم يعدلوا عن توجههم بعد الثورة فيمارسوا السياسة ويثبتوا حضورا فيها!

إن أسامة الأزهري باع للنظام سمكا في ماء!

x.com/selimazouz1