كتاب عربي 21

مصر ترجع إلى الخلف.. ليتها ترجع!

"ستتمنى مخلصا أن ترجع مصر إلى الخلف"- الأناضول
عندما اطلعت على قائمة المعيّنين بمجلس الشيوخ المصري، فلم أجد على النار هدى، رجعت إلى القرار الأول الذي صدر في عهد السادات بالمعينين، فأدركت أنه لا يجوز القول إن مصر ترجع إلى الخلف، فليتها ترجع!

فقد ضمت قائمة المعيّنين حينها قمما في مجالاتهم، من الشيخ الشعراوي، للشيخ الباقوري، ومن أنيس منصور لإبراهيم سعدة، ومن توفيق الحكيم إلى صبري أبو المجد، ومن سليمان الطماوي إلى عاطف صدقي، ومن عبد الرحمن الشرقاوي إلى أمينة السعيد، ومن صفية المهندس إلى همت مصطفى. وحتى على مستوى الفنانين، لم يكن المعيّنون في مستوى ياسر جلال، فقد كان من تم اختياره هو الفنان القدير محمود المليجي. فانظر إلى قائمة المعيّنين زمان وقائمتهم الآن، وسوف يرتد البصر إليك خاسئا وهو حسير!

الهدف من التعيين هو اختيار الكفاءات في المجالات المختلفة التي لم تفرزها الانتخابات، لذلك كان النص على أن ثلث الأعضاء بالتعيين، وكان النظام في السابق حريصا على أن يضم قمما فكرية بجانب الآخرين، أما الآن فقد رأينا الآخرين ولم نشاهد القمم، وحتى إذا عقدت المقارنة بين هؤلاء الآخرين هنا وهناك، ستتمنى مخلصا أن ترجع مصر إلى الخلف!

الهدف من التعيين هو اختيار الكفاءات في المجالات المختلفة التي لم تفرزها الانتخابات، لذلك كان النص على أن ثلث الأعضاء بالتعيين، وكان النظام في السابق حريصا على أن يضم قمما فكرية بجانب الآخرين، أما الآن فقد رأينا الآخرين ولم نشاهد القمم

"مجلس العيلة":

لم يكن مجلس الشورى فألا حسنا على الرئيس السادات، فقد تم اغتياله بعد عام من إقراره، ووصفه بأنه سيكون "مجلس العيلة". وكان السادات مغرما بالمصطلحات الريفية، فلا تعرف ما إذا كان منحازا لفكرة الدولة الحديثة، أم إلى منطق القبيلة، لذا كان يصف نفسه بأنه "كبير العائلة المصرية"، وعندما وجد في الشاب عبد المنعم أبو الفتوح تجاوزا أثناء الحوار، اعتبر ذلك تطاولا في حق "كبير العيلة" لا يليق، ومن ثم كان المجلس الجديد هو "مجلس العيلة"، وأصدر قانونا حمل عنوان حماية الجبهة الداخلية من العيب.

وقد رأى البعض أن السبب في استحداث هذه "الغرفة التشريعية الثانية" هو مسايرة للغرب، لكن الحقيقة أن مصر عرفت ذلك قبل ثورة يوليو 1952، وإن بدت الغرفة الجديدة بلا اختصاص تشريعي جاد، فتنظر ما يعرضه عليها رئيس الجمهورية من مشروعات القوانين، بجانب القوانين المكملة للدستور، لكن الهدف الأساسي منه، بجانب كونه "لمة العائلة"، كان له هدف آخر في بطن الشارع!

فقد كانت محاولة للبحث عن ممثل لمالك المؤسسات الصحفية القومية يليق بالمرحلة، ومنذ تأميم الصحافة في سنة 1960 بادعاء أن ملكيتها انتقلت من ملّاكها إلى الشعب، فقد كانت الإشكالية: من يمثل هذا الشعب؟ فوقع الاختيار على التنظيم السياسي الوحيد، وهو الاتحاد القومي، الذي تحول بعد ذلك إلى الاتحاد الاشتراكي!

بيد أن السادات وقد قرر الانتقال للتعددية السياسية المعطلة بانقلاب 1952، كان لا بد من بديل شكلي يمارس المُلكية على هذه المؤسسات الحكومية خروجا من زمن الحزب الواحد، فكانت فكرة مجلس الشورى، وفي النهاية هو برلمان شبه منتخب من الناحية الرسمية، وحتى قيام الثورة لم تكن الأحزاب تهتم به لعدم جدواه، ولأن دوائره شاسعة، فدائرة مجلس الشورى كانت في حدود دائرتين أو ثلاث لمجلس الشعب، وكانت المنافسة بين الحزب الوطني والمستقلين، الذين هم في كثير من الأحيان ينتمون إليه، ليتم تمثيل من يوافق من الأحزاب بمقعد أو مقعدين، وذات تشكيل تم تمثيل حزب الأحرار بثلاثة من قياداته!

حالة حزب الوفد:

بيد أن هناك أحزابا بجانب عدم اكتراثها بالمجلس، فإنها كانت ترفض التعيين الرئاسي فيه، مثل حزب الوفد، إلا في حالة فهمي ناشد عضو الهيئة العليا بالحزب، المعين في كل الدورات إلى وفاته، وكان الحزب لا يجد غضاضة في ذلك، ولا يرى قبوله التعيين خروجا على الالتزام الحزبي، لأن اختياره يتم لكونه مسيحيا!

ولا ندري كيف بدا لرئيس تحرير الوفد جمال بدوي أن عدم اختيار معينين من الوفد هو امتناع رئاسي عن ذلك، وكان بدوي قد اقترب من الرئيس، وراق لمبارك حملته على ما سُمّي وقتئذ بالصحافة الصفراء، وكانت السلطة تسعى لاحتواء الوفد، ولم يكن هذا متاحا في عهد مصطفى شردي رئيس التحرير الراحل!

سأل بدوي الرئيس لماذا لم يُعيّن أحدا من الوفد في مجلس الشورى؟ وكان المتابعون للمشهد السياسي يعلمون أن المشكلة ليست في الرئيس مبارك، الذي عرض عليه أن يأتي بموافقة الباشا (رئيس الحزب فؤاد سراج الدين)، وحلاوة الموافقة، سيكون هو (أي جمال بدوي) على رأس المعيّنين!

بيد أنه تعرض للتبكيت عندما عرض الأمر على الباشا، الذي استنكر عليه أن يتكلم في موضوع لم يتم تفويضه للكلام فيه، فلما عاد بدوي بخُفَّيْ حُنين للرئيس أخبره أن عرض تعيينه قائم، لكن الباشا لن يُبقيه في الوفد، ومن ثم اختار له أن يكون مستشارا لرئيس مجلس إدارة أخبار اليوم!

وكانت معلومة التعيين قد وصلتني فكتبتها، وسئل عنها جمال بدوي فسلم بصحتها، وكنت عند كتابتها أعرف ماذا أفعل، فمبارك لديه حساسية مفرطة إذا توقعه أحد، أو تسرب خبر بتعيين أو عزل، وفي الصباح المقرر لصدور التعيينات، وقف جمال بدوي أمام المحررين وقال: "إن الله أحل الطلاق وحرّم الربا"، وأرسل استقالته لرئيس الحزب، وانصرف إلى مكتبه الجديد في أخبار اليوم، وبعد منتصف اليوم صدر القرار الرئاسي بالتعيينات، ولم يكن بدوي من بين المعيّنين، وبعد قليل استغنوا عنه في أخبار اليوم!

تجار مخدرات:

وأذكر في هذا الوقت أنني تلقيت اتصالا هاتفيا من الدكتور عبد العظيم رمضان، لم يكن هو الاتصال الأول، فقد كان -وهو المنتمي للنظام- من أكثر الناس احتراما، وأفضل من معارضين كثيرين. وتحدثنا في الشرق وفي الغرب إلى أن وصلنا إلى استقالة جمال بدوي من الوفد، وكان قريبا منه، لكنه أخبرني أنه لم يسأله إلى الآن لعدم رضاه عن تصرفه، فهل هناك عاقل يفرط في رئاسة تحرير جريدة "الوفد"، مهما كان الثمن؟! فأجبته بأن الثمن هو عضوية مجلس الشورى!

وحدثني عبد العظيم رمضان عن العضوية بخفة، وأنه عضو في المجلس، وهي عضوية لا قيمة لها بجانب رئاسة التحرير، ولم أجد ما أقوله: ربما من أجل الحصانة. ليرد الرجل علي: وهل نحن تجار مخدرات نحتاج للحصانة؟!

وكنت أدرك أن الأمور لا تُناقش هكذا، فليست كل تطلعات كثيرين يمكن أن تكون منطقية لدى غيرهم، ولهذا قيل: "والناس فيما يعشقون مذاهب!".

محنة الوفد:
السبب في وجود مجلس الشورى بعد تغيير اسمه لمجلس الشيوخ، وما هي ميزانيته في بلد حالته الاقتصادية لا ترضي عدوّا ولا حبيبا، إلا أن تكون العضوية تعيينا وانتخابا (إن صح ذلك) هي مكافأة نهاية الخدمة لأصحاب القسمة والنصيب بعد انتزاع الاختصاص الأصيل من المجلس

الوفد الحالي ليس هو وفد فؤاد باشا، ولهذا من الطبيعي أن تهدر تقاليده، ويقبل رئيسه بالتعيين في مجلس الشورى، ويفخر بأنه لم يكن يعلم، فحتى لم يعملوا حسابه أنه يمكن أن يفكر، أو يعرض الأمر على الهيئة العليا للنقاش والقرار. وعندما تنظر للفرق الهائل بين القيمة التاريخية لفؤاد سراج الدين، وبين النهاية المأساوية لعبد السند يمامة، يمكن أن تستوعب أن يكون بديل محمود المليجي في التعيينات الحالية هو ياسر جلال، وأن يكون بديل جلال الشرقاوي أحمد مراد، وأن يكون البديل للشيخ أحمد حسن الباقوري هو شوقي علام، وأن من يحل محل الشيخ الشعراوي هو أحمد ترك، وأن يكون المقابل لتوفيق الحكيم وأنيس منصور وإبراهيم سعدة هو محمد شبانة ومحمود مسلم!

وهذا يقودنا إلى السبب في وجود مجلس الشورى بعد تغيير اسمه لمجلس الشيوخ، وما هي ميزانيته في بلد حالته الاقتصادية لا ترضي عدوّا ولا حبيبا، إلا أن تكون العضوية تعيينا وانتخابا (إن صح ذلك) هي مكافأة نهاية الخدمة لأصحاب القسمة والنصيب بعد انتزاع الاختصاص الأصيل من المجلس وهو ممارسة الملكية على المؤسسات الصحفية القومية، وقد أصبحت لذلك هيئة خاصة، هي "الهيئة الوطنية للصحافة".

وهي اختراعات منذ الاتحاد القومي، في حين أن المعلوم أن الملكية يمارسها الرئيس، ومذكرات الصحفيين القدامى تؤكد على هذا المعنى، فضلا عن مراقبتنا الدقيقة للأمر. فهل استشار السادات الاتحاد الاشتراكي عندما عزل هيكل وعيّن أحمد بهاء الدين لرئاسة الأهرام؟ وهل أخذ رأيه عندما قرر في جمع من الصحفيين أنه اختار إبراهيم سعدة رئيسا لتحرير أخبار اليوم؟ وهل فعل ذلك عبد الناصر؟ وهل فعله من بعدهما مبارك، الذي كان أكثرهم حرصا على استكمال الشكل في هذا الاختيار، لكن بالتمرير من مجلس الشورى، فتعيين قيادات الصحف القومية من أعمال السيادة!

ولا بأس، فلم يعد الأمر بيد مجلس الشورى/الشيوخ، فما لزوم عودته بعد أن أُلغي، مع هذه الاختيارات البائسة، وهذه القامات المنخفضة، إلا إذا كان الحرص على أن نسكب الدمع الهتون على الماضي!

ويا أيها الماضي دعني أقبل رأسك.

x.com/selimazouz1