منذ اندلاع
حرب الإبادة ضد
غزة في أكتوبر
2023، تحولت الجامعات الغربية إلى ساحات مواجهة سياسية وقانونية وأخلاقية. لم تعد
القضية مجرد تضامن رمزي مع
الفلسطينيين، بل أصبحت اختبارًا لبنية الحوكمة
الجامعية: كيف توازن بين حرية التعبير، والنظام العام، وضغوط المموّلين؟ الأرقام
والوقائع خلال 2024 و2025 تشير إلى أن الأمر تجاوز الاحتجاجات العابرة، ودخل مرحلة
إعادة صياغة القواعد.
الولايات المتحدة.. بين الاحتواء التفاوضي
والتشدد الأمني
في الولايات المتحدة، كان المشهد أكثر حدة
وتنوعًا، بين مواجهات أمنية مباشرة واتفاقات تفاوضية مبتكرة. شهد ربيع 2024 ذروة
الحراك الطلابي، مع أكثر من 3,000 حالة اعتقال في أكثر من 60 جامعة. جامعات
كولومبيا وتكساس وكاليفورنيا كانت بؤرًا رئيسية، حيث فُضّت مخيمات بالقوة وسط
تغطية إعلامية واسعة. لكن جامعات أخرى، مثل براون ونورث وسترن، اختارت التفاوض بدل
الصدام. ففي براون، أنهى الطلاب اعتصامهم بعد تعهد الإدارة بعرض مقترح الانسحاب من
استثمارات مرتبطة بإسرائيل على التصويت المؤسسي، بينما أبرمت نورث وسترن “اتفاق
ديرينغ ميدو” الذي حدّد قواعد الاحتجاج وفتح ملفات الشفافية الاستثمارية.
ما جرى في جامعات الغرب منذ بداية الحرب على غزة ليس مجرد رد فعل ظرفي، بل إعادة تشكيل للعقد الاجتماعي الأكاديمي، مع انعكاسات عميقة على السياسة الدولية. خلال العامين المقبلين، سيتحدد ما إذا كانت الجامعات ستحتوي السياسة عبر مأسستها وتنظيمها، أم ستدفعها خارج أسوارها عبر الأمن والتشريعات، أو ستجد صيغة هجينة توازن بين الإثنين.
فرنسا.. حسم سريع وصراع على الرمزية
في فرنسا، كانت استجابة الدولة والجامعات
أكثر حزمًا وسرعة، لكن رمزية مواقع الاحتجاج جعلت أثرها السياسي كبيرًا. اعتصامات
السوربون وSciences Po في مايو 2024
انتهت بسرعة بتدخل الشرطة وتوقيف نحو 88 طالبًا، إضافة إلى إخلاء محتجين في 23
مؤسسة تعليمية في يوم واحد. هذا النمط حافظ على انتظام الدراسة، لكنه نقل المعركة
من الحرم الجامعي إلى الساحة السياسية والإعلامية.
ألمانيا.. سقف منخفض لحرية التعبير وتأثير
التجميد
في ألمانيا، تداخل القانون مع الأمن لتقليص
مساحة الاحتجاج إلى الحد الأدنى. في مايو 2024، فضّت الشرطة اعتصام جامعة برلين
الحرة واعتقلت 79 شخصًا خلال ساعات، وفتحت أكثر من 150 تحقيقًا لاحقًا، كما أنهت
اعتصام جامعة هومبولت باحتجاز نحو 130 شخصًا. البيئة القانونية، خاصة تعريفات
معاداة السامية، جعلت الجامعات تميل إلى التدخل الشرطي السريع، ما خلق ما يُمكن
تسميته بـ "تأثير التجميد" على الحرية الأكاديمية، حيث يتجنب الأساتذة
والطلاب الفعاليات خشية المساءلة.
إيطاليا.. من الشارع إلى القرارات المؤسسية
في إيطاليا، انتقل الحراك الطلابي خطوة
أبعد، فحوّل الضغط الميداني إلى قرارات رسمية داخل الجامعات. شهدت مدن جامعية كبرى
مثل تورينو وبولونيا وفلورنسا موجة اعتصامات في النصف الأول من 2024. لكن الأبرز
كان ما حدث في مجلس جامعة تورينو في مارس، حين صوّت على إنهاء اتفاقية بحثية مع
مؤسسات إسرائيلية، وفي يونيو، علّقت جامعة باليرمو برامج إيراسموس مع جامعات
إسرائيلية.
مقارنة عبر الأطلسي.. نمطان مختلفان للشرعية
وحدود السلطة
حين نقارن بين التجربتين الأمريكية
والأوروبية، نكتشف أن الخلاف لا يقتصر على درجة التسامح، بل يمتد إلى فلسفة إدارة
الجامعات نفسها. في الولايات المتحدة، الشرعية تُبنى على حرية التعبير والحوكمة
المالية مع قابلية التفاوض، أما في فرنسا وألمانيا فالشرعية تقوم على حفظ النظام
العام حتى لو قلص ذلك من مساحة الاحتجاج. أما إيطاليا فتمثل حالة وسطية حيث يُسمح
بالضغط الميداني إذا كان يفضي إلى قرارات مؤسسية قابلة للتنفيذ.
هذا التباين قد يؤثر على حركة الطلاب
الدولية نفسها، حيث قد يختار الطلاب الوجهات الأكاديمية بناءً على مساحة الحرية
والقدرة على التأثير في القرارات.
الأحداث الأخيرة ترسم أمام الجامعات ـ في
تقديري ـ أربعة مسارات محتملة، قد يتداخل أكثر من واحد منها في الواقع:
1 ـ التطبيع المؤسسي: قد تختار الجامعات دمج
الاحتجاجات ضمن قنوات رسمية مثل الندوات أو المجالس الطلابية، بحيث يتم التعبير عن
المواقف بشكل منظم وقانوني، مما يقلل احتمالات المواجهة مع السلطات الأمنية.
إذا اتسع النمط الأمريكي القائم على التفاوض والشفافية ليصبح قاعدة عامة، فقد نشهد نشوء "الجامعة كفاعل دولي" يتبنى مواقف استثمارية وأكاديمية مرتبطة بحقوق الإنسان، على غرار تجربة الانسحاب الأكاديمي من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال الثمانينيات..
2 ـ التشدد الأمني: قد تتجه السلطات أو
إدارات الجامعات إلى تشديد المراقبة وفرض قيود أكبر على الأنشطة الطلابية، بحجة
الحفاظ على الأمن والنظام، وهو ما قد يحدّ من حرية التعبير داخل الحرم الجامعي.
3 ـ التدويل البديل: في حال تعثر العلاقات
الأكاديمية مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، قد تبحث الجامعات عن بناء
شراكات مع مؤسسات في آسيا، إفريقيا، أو أمريكا اللاتينية، لتوسيع خياراتها وتخفيف
الاعتماد على الغرب.
4 ـ الإنهاك والركود: مع مرور الوقت، قد
يفتر الحماس ويقل النشاط، لكن البنية التنظيمية للحراك تبقى قائمة، ما يعني أنه
يمكن إعادة تفعيلها بسرعة إذا حدثت أزمة أو قضية جديدة تثير الجدل.
ختاما
ما جرى في جامعات الغرب منذ بداية الحرب على
غزة ليس مجرد رد فعل ظرفي، بل إعادة تشكيل للعقد الاجتماعي الأكاديمي، مع انعكاسات
عميقة على السياسة الدولية. خلال العامين المقبلين، سيتحدد ما إذا كانت الجامعات
ستحتوي السياسة عبر مأسستها وتنظيمها، أم ستدفعها خارج أسوارها عبر الأمن
والتشريعات، أو ستجد صيغة هجينة توازن بين الإثنين.
إذا اتسع النمط الأمريكي القائم على التفاوض
والشفافية ليصبح قاعدة عامة، فقد نشهد نشوء "الجامعة كفاعل دولي" يتبنى
مواقف استثمارية وأكاديمية مرتبطة بحقوق الإنسان، على غرار تجربة الانسحاب
الأكاديمي من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال الثمانينيات..
أما إذا تغلّب النمط الأوروبي المركزي،
القائم على الأمن والرقابة، فقد تتحول الجامعات إلى فضاءات محايدة قسرًا، مما يحدّ
من دورها كمختبر للأفكار.
على المدى الأبعد، قد تفرز هذه المرحلة
جيلًا جديدًا من الأكاديميين والطلاب يرى أن الجامعة ليست فقط مؤسسة للتعليم، بل
منصة تتقاطع فيها المعرفة والموقف الأخلاقي والضغط السياسي، مما يجعلها جزءًا
مباشرًا من النقاشات العالمية الكبرى.