في زمنٍ يتباهى فيه العالم بادعاء الدفاع عن القيم
الإنسانية، يطلّ علينا مشهد
غزة كمرآة مكسورة، تعكس عجز الضمير الإنساني وتفضح زيف
الشعارات. مليونان من البشر محاصرون، محكومون بالموت البطيء، والجريمة ترتكب على
مرأى ومسمع من العالم بأسره. ليس الأمر مجرد صراع مسلح أو "نزاع حدودي"
كما يحلو للبعض تبسيطه، بل هو مشروع إبادة منظّم، تُدار فصوله بدم بارد وتواطؤ
صامت من عواصم القرار الكبرى.
في هذه المأساة، لم يكن السلاح وحده هو أداة القتل، بل
الجوع والعطش والمرض، إذ أغلقت
إسرائيل أبواب الحياة على غزة، وقطعت عنها الماء
والدواء والغذاء لشهور متواصلة. العالم، الذي يتحرك ليلا ونهارا حين يهدد الخطر
بعض مصالحه، يكتفي اليوم بمشاهدة مأساة غزة من خلف شاشات الأخبار، وكأنها فيلمٌ
طويل الأمد لا يعنيه سوى نهايته التجارية. أما إسرائيل، فقد أتقنت توظيف هذا الصمت
الدولي لصالحها، مضيفة إلى حصارها العسكري حصارا إعلاميا، باغتيال الصحفيين واحدا
تلو الآخر، في رسالة واضحة: "لن يُسمع من غزة إلا صوتنا نحن".
المشروع واضح: تصفية القضية الفلسطينية، لا كعنوان سياسي فقط، بل كوجود بشري وجغرافي وثقافي. ما يحدث في غزة اليوم هو الفصل الأول في خطة أشمل
وما جرى مع فريق قناة الجزيرة مثال صارخ على ذلك، حين
استُهدفت خيمتهم في قصف مباشر، لا ليُقتل الأفراد فقط، بل ليُقتل الخبر قبل أن
يولد، وتُمحى الصورة قبل أن تصل إلى العيون. هذه ليست مجرد أفعال حرب عابرة، بل هي
هندسة ممنهجة لطمس الذاكرة الجمعية للعالم عن غزة، كي يختفي الجرح من الخريطة ومن
الحكايات.
لكن الجريمة لم تتوقف عند قصف الصحفيين، فقد امتدت لتطال
أبسط مظاهر النجاة. لم تعد طوابير توزيع الغذاء رمزا للأمل، بل تحولت إلى كمائن
موت، حيث تُستهدف الحشود العزل وهم يحملون أمل الحصول على رغيف خبز أو علبة حليب.
إسرائيل، التي تحاول تسويق نفسها كمنظّم "إنساني" لتوزيع المساعدات،
حولت هذه الطوابير إلى ساحات إعدام جماعي، في واحدة من أبشع صور استغلال حاجة
الإنسان كسلاح لإخضاعه أو تصفيته.
وراء هذه الأفعال، يختبئ مشروع أكبر وأعمق من مجرد ردٍّ
عسكري على خصم سياسي. المشروع واضح: تصفية القضية الفلسطينية، لا كعنوان سياسي
فقط، بل كوجود بشري وجغرافي وثقافي. ما يحدث في غزة اليوم هو الفصل الأول في خطة
أشمل لتهجير السكان، ثم ابتلاع الأرض، ودمجها في جسد الدولة العبرية.
لم يعد هذا تحليلا نظريا أو استنتاجا متشائما، بل أصبح
واقعا مؤكدا من خلال التصريحات العلنية لقادة إسرائيل أنفسهم. وزير المالية
بتسلئيل سموتريتش لم يكتفِ بالتصريح بأن الضفة الغربية "جزء من إسرائيل بوعد
إلهي"، بل دعا صراحة إلى ضمها وإنهاء فكرة تقسيم إسرائيل للأبد. إننا أمام
عقلية لا ترى في اتفاقيات السلام سوى هدنة مؤقتة، وفي خرائط الأمم المتحدة مجرد
خطوط باهتة قابلة للمحو متى حانت الفرصة.
هذا التصعيد اللفظي والسياسي يجد صداه في سلوكيات
الاحتلال على الأرض، من بناء المستوطنات بوتيرة محمومة في الضفة، إلى تضييق الخناق
على القدس، مرورا بمحاولات تغيير الواقع الديمغرافي بالقوة. ما يُراد اليوم هو
تثبيت معادلة مفادها لا مكان للفلسطينيين إلا في كتب التاريخ، ولا حدود لإسرائيل
إلا حدود طموحها العسكري.
إن تصريحات بنيامين نتنياهو حول "إسرائيل
الكبرى" ليست زلة لسان أو خطابا دعائيا لجمهور اليمين المتطرف، بل هي ترجمة
صريحة لرؤية استراتيجية متجذرة في العقل السياسي الصهيوني. حين يتحدث عن السيطرة
على أجزاء من مصر ولبنان وسوريا والسعودية والأردن، فهو لا يرسم حلما مستحيلا، بل
يعلن برنامج عمل طويل الأمد، يبدأ بتفريغ غزة من سكانها، ويمر بضم الضفة الغربية،
ثم يتوسع ليبتلع ما يمكن ابتلاعه من الأرض
العربية تحت ذرائع أمنية وتاريخية مزعومة.
الخطر هنا ليس في مجرد طموح إسرائيل، بل في البيئة
الإقليمية والدولية التي تمنحها الغطاء. الغرب، الذي يرفع لواء الديمقراطية وحقوق
الإنسان حين تخدم مصالحه، يتواطأ بصمته أو بدعمه المباشر حين يتعلق الأمر بإسرائيل.
لم يكن فرض الحصار على غزة ممكنا لسنوات، ولا ارتكاب هذه المجازر العلنية، لولا
وجود هذا التواطؤ الذي يخلط بين الدعم العسكري والغطاء السياسي، ويُسكت أي صوت
دولي جاد للمحاسبة.
والأدهى أن هذا التواطؤ الغربي يتغذى على حالة الضعف
العربي، حيث أضحت كثير من الأنظمة العربية تتعامل مع العدوان الإسرائيلي باعتباره
شأنا "محليا" يخص الفلسطينيين وحدهم، أو ورقة تفاوضية على طاولة
العلاقات مع واشنطن. هذه العقلية، التي تضع المصالح الضيقة فوق المصلحة القومية،
هي ما يفتح الباب واسعا أمام استكمال المشروع الصهيوني بلا رادع حقيقي.
التاريخ سيذكر أن غزة كانت مرآة كشفت وجوه الجميع: من تواطأ بالصمت، ومن تاجر بالقضية، ومن حاول جاهدا أن يقف في وجه آلة الإبادة. لكن التاريخ وحده لا يوقف الجريمة، بل الإرادة السياسية والتحرك العملي هما ما يمكن أن يغير مسار الأحداث
إن قراءة ما يحدث في غزة بمعزل عن التاريخ القريب
والبعيد هو خطأ استراتيجي. فالمجازر ليست مجرد رد فعل على صواريخ أو مواجهات، بل
هي استمرار لمنهج بدأ منذ النكبة عام 1948، منهج قائم على التهجير القسري، مصادرة
الأرض، محو الهوية، ثم إعادة صياغة الواقع السياسي بما يتوافق مع الرؤية
الإسرائيلية. الفارق الوحيد اليوم هو أن التكنولوجيا العسكرية، والدعم الدولي،
والانقسام العربي، جعلت هذا المشروع أكثر جرأة وعلنية.
وإذا لم يدرك العالم العربي أن غزة اليوم هي خط الدفاع
الأول عن أمنه القومي، فإن الغد قد يحمل له مشاهد أكثر قسوة، لكن على أرضه هذه
المرة. الاحتلال الذي يتطلع إلى ضم الضفة الغربية كاملة، ويعبّر قادته عن أحقيتهم
في أراضٍ داخل دول عربية، لا يرى حدودا لطموحاته سوى ما يقف في وجهه بالقوة. وكل
تراجع عربي أمام هذه السياسات ليس سوى دعوة مفتوحة للمزيد من التوسع.
إن اللحظة التي نعيشها ليست مجرد امتحان لأخلاق العالم،
بل اختبار لوعي العرب وقدرتهم على إعادة تعريف أمنهم القومي. غزة ليست مجرد مدينة
محاصرة، بل هي جبهة سياسية وأخلاقية، هزيمتها تعني أن كل مدينة عربية ستصبح عرضة
لنفس السيناريو، وإن اختلفت الوسائل. الصمت العربي هنا ليس حيادا، بل هو إقرار
ضمني بشرعية ما يجري، وفتح الباب أمام تكراره.
إن التاريخ سيذكر أن غزة كانت مرآة كشفت وجوه الجميع: من
تواطأ بالصمت، ومن تاجر بالقضية، ومن حاول جاهدا أن يقف في وجه آلة الإبادة. لكن
التاريخ وحده لا يوقف الجريمة، بل الإرادة السياسية والتحرك العملي هما ما يمكن أن
يغير مسار الأحداث. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج العرب إلى إدراك أن معركة
غزة ليست معركة الفلسطينيين وحدهم، بل معركتهم جميعا ضد مشروع لا يعترف بوجودهم
إلا كفراغ يمكن ملؤه.
في النهاية، ما يحدث في غزة ليس نكسة عابرة ولا مأساة
محلية، بل هو حلقة في سلسلة ممتدة من مشروع استيطاني توسعي، إذا لم يُوقف الآن،
فسيمتد ليكتب فصلا جديدا من ضياع الأرض، وتبدد الهوية، وانكسار الإرادة العربية.
إنها دعوة للاستيقاظ قبل أن نصحو على خريطة بلا أسمائنا، وأرض بلا أهلها، وتاريخ
يُروى بلسان الغزاة.