قضايا وآراء

العدوان الإسرائيلي على الدوحة: استهداف الوسيط من قبل مجرمي الحرب

"أثبتت التجربة أن المظلة الأمريكية ليست ضمانة مطلقة"- الأناضول
لم يكن استهداف العاصمة القطرية الدوحة من قبل إسرائيل حدثا عابرا في مسار الصراع العربي- الإسرائيلي، بل يمثل محطة مفصلية تكشف عمق التحديات التي تواجه النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، وتهدد أسس القانون الدولي برمّتها. فالهجوم لم يقع في ساحة مواجهة مباشرة، ولا في ميدان قتال نشط، بل في قلب دولة ذات سيادة، معروفة بدورها الوسيط ومساعيها الدبلوماسية. وهو ما يجعل من القصف رسالة مركبة: إلى قطر، وإلى العالم العربي، وإلى المجتمع الدولي بأسره، مفادها أن إسرائيل كيان يتصرف "كعصابة مارقة" فوق القانون، وأن حماية السيادة الوطنية لأي دولة عربية تبقى رهينة التوازنات والاصطفافات، لا المبادئ الدولية.

من الخطأ النظر إلى ما جرى في الدوحة كواقعة معزولة، فالتاريخ الإسرائيلي حافل بسجل طويل من الاعتداءات على عواصم عربية وأراضٍ بعيدة عن مسرح العمليات المباشرة. ففي عام 1981 قصفت إسرائيل المفاعل النووي العراقي في بغداد، وفي 1985 استهدفت ضاحية حمام الشط في تونس لتغتال قيادات فلسطينية داخل أراضي دولة ذات سيادة، وفي 2007 ضربت موقعا عسكريا سوريا في دير الزور، فضلا عن عشرات الغارات التي طالت بيروت ودمشق على مدى عقود. كل هذه السوابق تؤكد أن الاعتداء على الدوحة ليس خروجا عن المألوف، بل امتداد لنهج استراتيجي يقوم على فرض وقائع بالقوة، بغض النظر عن حدود القانون الدولي.

هذا التحول يحمل دلالة خطيرة فإسرائيل لا ترفض فقط جهود التسوية، بل ترى في كل محاولة وساطة تهديدا لاستراتيجيتها القائمة على إبقاء النزاع مفتوحا بلا أفق سياسي

الدوحة لم تكن طرفا مقاتلا ولا خصما مباشرا، بل اختارت أن تؤدي دور الوسيط بين الأطراف المتصارعة. هذا الدور لم يقتصر على ملف فلسطين، بل شمل أزمات متعددة في المنطقة خلال العقدين الماضيين، من السودان إلى لبنان وأفغانستان. ومع ذلك، تحولت قطر إلى هدف للغارات الإسرائيلية، وكأن الوساطة جريمة تستحق العقاب. إن هذا التحول يحمل دلالة خطيرة فإسرائيل لا ترفض فقط جهود التسوية، بل ترى في كل محاولة وساطة تهديدا لاستراتيجيتها القائمة على إبقاء النزاع مفتوحا بلا أفق سياسي.

من منظور القانون الدولي، يمثل قصف الدوحة جريمة عدوان بالمعنى المحدد في ميثاق الأمم المتحدة ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فالمادة الثانية من الميثاق تنص بوضوح على حظر استخدام القوة ضد سلامة أراضي أي دولة أو استقلالها السياسي. كما أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في تعريفها للعدوان عام 1974، عدّت استهداف أراضي دولة أخرى بالقصف أو الاحتلال عملا عدوانيا يستوجب الإدانة والمعاقبة. ورغم وضوح النصوص، فإن إسرائيل لطالما تمكّنت من الإفلات من العقاب، مستندة إلى الدعم الأمريكي واستخدام حق النقض في مجلس الأمن.

الخطورة لا تكمن فقط في فعل العدوان ذاته، بل في الصمت الأمريكي الذي يحيط به. فقطر تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، وتغطيها منظومات دفاع يفترض أنها صُممت لحماية أمنها القومي، لكن هذه المنظومات لم تتحرك، وكأنها مشلولة أمام الطيران الإسرائيلي. هذا الصمت يطرح أسئلة صعبة وهي: هل واشنطن شريك سلبي أم متواطئ نشط؟ في الحالتين النتيجة واحدة: سقوط صورة الولايات المتحدة كضامن للأمن الخليجي، وتآكل الثقة في تحالفاتها الأمنية.

العدوان على الدوحة يضع العالم العربي أمام لحظة اختبار حاسمة. فالسوابق تثبت أن إسرائيل لا تميّز بين دولة وسيطة وأخرى معارضة، بين وسيط دبلوماسي ومقاوم ميداني، فالجميع مستهدفون متى ما اقتضت مصالحها ذلك. والاكتفاء ببيانات الإدانة يعني منح إسرائيل ضوءا أخضر لاستهداف عواصم أخرى، أما الرد الفاعل فيتطلب تحركا عربيا جماعيا يعيد الاعتبار لفكرة الأمن القومي المشترك، ويحوّل حماية السيادة إلى قضية فوق الخلافات البينية.

لا يمكن تجاهل أن الخليج يمثل قلب الطاقة العالمي، وأن أي ضربة لعاصمة خليجية تهدد الاستقرار النفطي وسلاسل التوريد الدولية، فإسرائيل تدرك أن استهداف الدوحة يتجاوز البعد السياسي ليترك أثره في الأسواق العالمية. فإذا كان المجتمع الدولي قد تحرك بسرعة حين تعرضت منشآت "أرامكو" لهجوم عام 2019، فإن من التناقض الصارخ أن يقف صامتا أمام قصف عاصمة معروفة بثقلها الاقتصادي والنفطي. هذه الازدواجية في المعايير تفقد المنظومة الدولية مصداقيتها، وتدفع الدول العربية إلى البحث عن بدائل للتحالفات التقليدية التي لم تحمِ أمنها.

منذ اللحظة الأولى، حاولت إسرائيل تسويق القصف بوصفه "ضربة استباقية"، لكنها فشلت في إخفاء طبيعته العدوانية، فالعاصمة المستهدفة لم تشهد أي نشاط عسكري ضد إسرائيل، بل كانت تحتضن وساطة سياسية بتوافق دولي. هذا يكشف أن الهدف الحقيقي لم يكن "الوقاية"، بل تقويض أي إمكانية لمسار تفاوضي. المعركة على الرواية هنا لا تقل أهمية عن المعركة العسكرية، فنجاح إسرائيل في تسويق سرديتها يعني إعادة إنتاج شرعية زائفة لعدوانها، بينما فضح هذه الرواية يضعها في مواجهة القانون والرأي العام العالمي.

الهجوم على الدوحة يطرح سؤالا مقلقا على النظام الدولي: ما قيمة القوانين إذا كانت تُطبق بانتقائية؟ وكيف يمكن للدول الصغيرة والمتوسطة أن تحمي سيادتها إذا كان المجتمع الدولي يتغاضى عن انتهاكها؟ استمرار هذا النهج يهدد بتقويض فكرة القانون الدولي نفسها، وتحويلها إلى أداة بيد القوى الكبرى. وحين تفقد القوانين مصداقيتها، يصبح العالم أكثر عرضة للفوضى، حيث يغدو استخدام القوة هو القاعدة لا الاستثناء.

الدفاع عن الدوحة ليس دفاعا عن قطر وحدها، بل عن النظام العربي برمته، وعن ما تبقى من شرعية القانون الدولي في مواجهة كيان لا يعترف بحدود ولا بقواعد

ولذلك فلا بد لهذا العالم أن يتحرك ضمن المحددات التالية:

1- تحرك قانوني دولي: على قطر أن تقود حملة لتوصيف الهجوم كجريمة عدوان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتسجيلها في محكمة العدل الدولية.

2- إعادة النظر في التحالفات الأمنية: أثبتت التجربة أن المظلة الأمريكية ليست ضمانة مطلقة، ما يتطلب تنويع مصادر الأمن والدفاع عبر شراكات متعددة.

3- تفعيل العمل العربي الجماعي: بناء آلية إقليمية للتشاور والتنسيق الأمني، بحيث لا تُترك أي عاصمة عربية وحيدة أمام العدوان.

4- استخدام أوراق الضغط الاقتصادية: استغلال مكانة الخليج في أسواق الطاقة للضغط على القوى الكبرى للتحرك، وفرض كلفة على من يتغاضى عن الاعتداءات.

5- بناء سردية إعلامية متماسكة: الاستثمار في خطاب إعلامي موثق يفضح الرواية الإسرائيلية ويضع العدوان في سياقه القانوني والإنساني.

ختاما، قصف الدوحة لم يكن مجرد هجوم عابر، بل إعلان صارخ أن إسرائيل كيان عدواني يرى في نفسه استثناء من القوانين والأعراف الدولية، وإذا لم يواجه هذا الاعتداء برد حازم، فإن الرسالة التي ستستقر في ذهن الاحتلال هي أن العواصم العربية مباحة بلا ثمن. لقد آن الأوان لأن يتحول الغضب إلى فعل، وأن يُعاد الاعتبار لفكرة السيادة كقيمة غير قابلة للتفاوض. فالدفاع عن الدوحة ليس دفاعا عن قطر وحدها، بل عن النظام العربي برمته، وعن ما تبقى من شرعية القانون الدولي في مواجهة كيان لا يعترف بحدود ولا بقواعد.