ساعة واحدة هي
المدة التي قطتها المقاتلات الإسرائيلية في الجو من تل أبيب إلى الدوحة، وكانت
كفيلة بتبدّل المشهد الإقليمي برمته؛ الدوحة التي اعتادت أن تكون وسيطا بين واشنطن
وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط، وجدت نفسها هدفا مباشرا لصواريخ إسرائيلية.
الغارات التي
استهدفت قادة من حركة "حماس"، بينهم شخصيات من الصف الأول، كانت سابقة
هزّت ثقة دول
الخليج العربي بواشنطن، وفتحت الباب واسعا أما أسئلة لم يعد ممكنا
تفاديها: إذا كانت إسرائيل وقحة لدرجة تنفيذ هجمات في قلب الدوحة، فأيّ حماية بقيت
لبقية العواصم الخليجية؟
المأزق لا يقف
عند حدود "السيادة الوطنية" التي انتُهكت في قطر (وقبلها في دمشق وبيروت..)
بل تجاوزتها إلى بنية التحالفات ذاتها. فكيف لحليف استراتيجي مثل الولايات المتحدة
أن يسمح بعمل عسكري إسرائيلي يُحرج حلفاءه العرب بهذا الشكل من دون تنسيق أو ردع؟
الإشارات التي خرجت من العواصم الخليجية بدت محمّلة بقلق غير مسبوق، خصوصا أنّ
المشهد ترافق مع إرباك أمريكي، وحتى أوروبي، بدا واضحا في عجزها عن اتخاذ موقف واضحة.
الإشارات التي خرجت من العواصم الخليجية بدت محمّلة بقلق غير مسبوق، خصوصا أنّ المشهد ترافق مع إرباك أمريكي، وحتى أوروبي، بدا واضحا في عجزها عن اتخاذ موقف واضحة
هذه الواقعة في
الدوحة ليس معزولة أو يتيمة، فقبل أسابيع شهدت العاصمة دمشق الأمر نفسه، لكنّ
سوريا لا تتحصّن بالدفاعات الجوية الأمريكي، وإنما بمفاوضات مع الولايات المتحدة،
وإسرائيل نفسها على السواء، لكن حتى هذه المفاوضات لم تحمِ دمشق من النَزَق
والوقاحة الإسرائيلية.
أمّا المستجدّ
الأهم من كل ما سبق، فكان حضور وفد روسي رفيع المستوى إلى دمشق قبل أيام. الوفد حَمَل
معه ملفات سياسية واقتصادية وأمنية، وطرح مع القيادة السورية الجديدة صِيَغا مبتكرة
لـ"علاقة متكافئة"، من دولة إلى دولة، رحّبت بها دمشق الملوّعة من "الخبث"
الإسرائيلي- الأمريكي.
الروس قدّموا
أنفسهم هذه المرة بوجه آخر: شركاء مستعدون لتقاسم "الإدارة العسكرية"
لقاعدتي حميميم وطرطوس، مطعمة بمساندة الجيش السوري بالذخائر وقطع الغيار،
ومساعدته في صيانة بناه التحتية، التي أنشأها الاتحاد السوفييتي قبل عقود.
اللقاء في دمشق
لم يكن بروتوكوليا بقدر ما كان إعلانا بأنّ موسكو تريد تثبيت حضورها العميق في
الشرق الأوسط، لا كـ"قوة ظرفية"، بل كـ"حليف استراتيجيّ" بديل.
حين توضع
الصورتان جنبا إلى جنب، تصبح الخلاصة أكثر وضوحا: واشنطن لم تعد موضع الثقة
المطلقة التي بَنَت عليها دول الخليج مظلتها الأمنية منذ نهاية الحرب العالمية
الثانية. الهجوم على الدوحة بعث بـ"رسالة قاسية" تفيد بأنّ الولايات
المتحدة عاجزة عن كبح جماح إسرائيل حليفتها الأولى في الشرق الأوسط، فيما موسكو
تطرح على دمشق صيغة "إدارة مشتركة" تعني أنها قادرة على توفير حماية
متبادلة وتفاهم طويل الأمد.
ما جرى في قطر
سيُقرأ في الرياض وأبو ظبي والكويت والمنامة بصفته اختبارا مؤلما لمحدودية النفوذ
الأمريكي. دول الخليج التي التزمت خطا ثابتا مع واشنطن في مواجهة إيران، واستخدمت
القواعد الأمريكية كدرع استراتيجي، ترى نفسها اليوم أمام واقع جديد: إذا لم تردع
الولايات المتحدة إسرائيل عن استهداف الدوحة، فما الضمانة بألّا تتكرر القصة في أيّ
عاصمة أخرى؟ أو ألا تُستخدم الأراضي الخليجية كساحة تصفية حسابات من دون اعتبار
لحساسيات الداخل؟
هنا تكتسب زيارة
الوفد الروسي إلى دمشق بُعدا أكثر معنى من سوريا نفسها. فالمفاوضات حول النفط
والغاز والفوسفات والسدود ليست مجرد مصالح اقتصادية، بل إشارة إلى أنّ
روسيا
مستعدة لتوسيع استثماراتها وعلاقاتها في المنطقة على قاعدة المصالح المشتركة، لا
الإملاءات. هذا النموذج قد يكون أكثر إغراء لعواصم عربية أخرى بدأت تراجع
حساباتها، خصوصا مع إدراكها أنّ الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب،
المتقلّب، صارت أقل التزاما من أي وقت مضى.
الصين بدورها
تراقب وتنتظر الفرصة. فبكين التي بنت خلال العقد الأخير حضورا اقتصاديا قويا في
الشرق الأوسط، تجد نفسها اليوم أمام فرصة ذهبية لتوسيع حضورها السياسي وربّما الأمني.
الخليج الذي يحتاج إلى تنويع شراكاته الاقتصادية، يدرك أنّ الصين تملك ما لا يملكه
الغرب: استقرارا في الموقف، واستعدادا للاستثمار من دون شروط سياسية معلنة.
لا يعني ذلك أن
الانفصال عن الولايات المتحدة سيكون وشيكا أو كاملا، فالتشابكات الأمنية
والاقتصادية ما زالت عميقة، لكنّ الشرخ النفسي الذي تسبّبت به ضربة الدوحة لن يكون
سهل الالتئام. في السياسة كما في الحياة، الضمانة أهم من الوعود، وما حدث أثبت أنّ
الضمانة الأمريكية لم تعد كافية.
الشرخ النفسي الذي تسبّبت به ضربة الدوحة لن يكون سهل الالتئام. في السياسة كما في الحياة، الضمانة أهم من الوعود، وما حدث أثبت أنّ الضمانة الأمريكية لم تعد كافية
الدوحة ليست مجرد
عاصمة صغيرة تُستهدف في نزاع عابر، إنّها قاعدة أمريكية متقدمة في الخليج، ومقر
للقواعد الأمريكية الأضخم في المنطقة، ومنصة لوجستية رئيسية في أيّ خطة عسكرية
للولايات المتحدة وحلفائها. وعليه، أن تضرب إسرائيل هناك من دون اعتراض أو ردع،
فهذا يعني أن المظلّة التي كان الخليج يظنها صلبة، قد بدأت تتصدع!
في المقابل، تأتي
موسكو لتعرض بديلا:
شراكة عسكرية واقتصادية، وحضورا يوازن النفوذ الأمريكي
والإسرائيلي، واستعدادا لأن تكون "الوسيط الموثوق" في صراعات الإقليم؛
من أنقرة إلى تل أبيب. وتأتي بكين لتقدّم نفسها كضامن اقتصادي طويل الأمد، لا تهتز
حساباته بتقلبات الانتخابات أو بنزعات ترامب الشخصية وبأهوائه.
من الدوحة إلى
دمشق، المشهد واحد: الشرق الأوسط بدأ يفتح صفحة جديدة من إعادة التموضع، أو في
أضعف الإيمان يفكّر فيها. وعليه، لم يعد السؤال هل تبحث العواصم العربية عن بديل،
بل متى وكيف ستُنسج التحالفات الجديدة؟ ومن سيملأ الفراغ الذي خلّفه اهتزاز الثقة
بواشنطن؟
الضربة
الإسرائيلية في قطر لم تستهدف فقط قيادات من حركة "حماس"، بل ضربت قلب
المعادلة الأمنية التي حكمت المنطقة منذ عقود. والجواب الذي يتبلور اليوم: البديل أو
ربما الشريك، قد يكون موجودا وينتظر.. واسمه موسكو وبكين.