قضايا وآراء

الصراع الاستخباراتي بين إيران وإسرائيل

"الوثائق التي أُحضرَت إلى قلب إيران لم تكن أوراقا عادية"- تسنيم
في لحظة فارقة على خارطة الصراع المعاصر، نفّذت إيران عملية استخباراتية عاجلة، ومفاجِئة، وحاسمة، عملية لم تعد مجرد إنجاز تقني أو ترويج إعلامي، بل نقطة تحوّل استراتيجي تُعيد رسم معادلات النفوذ والقدرة على الضرب ضد خصمها اللدود إسرائيل. ما أعلنته إيران من نقل مئات آلاف الوثائق السرية من داخل مرافق إسرائيل الحساسة، وبث مقاطع من داخل مواقع لم تكن لتُعرض للعامة أبدا، وتفعيل شبكة عملاء داخل إسرائيل يعملون لصالح إيران؛ لم يكن مجرد تصريح؛ بل هو إعلان صعود قوة استخباراتية قادرة على تحويل المعلومات إلى سلاح يغيّر نتائج الحروب.

الوثائق التي أُحضرَت إلى قلب إيران لم تكن أوراقا عادية؛ بل كانت شَرَكات معلوماتية كاملة: خرائط تشغيلية، وسجلات فنية، وقوائم بالعاملين والروابط، وملفات تقنية تضبط إيقاع تشغيل المنشآت الحيوية مواقع وتفاصيل منشآت عسكرية ونووية. تحويل هذا الكمّ من البيانات إلى إحداثيات تنفيذية أعطى القيادة العسكرية لإيران قدرة لم تكن متاحة في السابق وهي القدرة على استهداف دقيق، وتصغير هامش الخطأ، وزيادة فاعلية الضربات لتصل إلى قلب البنى الحيوية للخصم بأقل تكلفة ممكنة. هذا التحول ليس تكتيكا عابرا؛ إنه تغيير معمّم في مفهوم القوة.

خرائط تشغيلية، وسجلات فنية، وقوائم بالعاملين والروابط، وملفات تقنية تضبط إيقاع تشغيل المنشآت الحيوية مواقع وتفاصيل منشآت عسكرية ونووية

ما يعزز هذه المعادلة هو الاعتراف الرسمي بأن إيران لم تكتفِ بالحصول على المعلومات، بل شاركتها مع وحداتها القتالية في حرب حزيران/ يونيو الأخيرة مع تل أبيب؛ إحداثياتٌ مُحدّدة، وجداول زمنية فعلية، ومشاهد داخلية تُسهِم في وضع خطة ضربات مفصّلة. إن وجود إحداثيات دقيقة يعني أن الزمن الذي كان يفصل بين جمع المعلومة وتنفيذ الضربة قد تقلّص إلى درجات قريبة من الصفر، ما يجعل الاستجابة المضادة للخصم شبه مستحيلة إذا لم يملك درعا استباقيا فعّالا وحقيقيا.

ومن زاوية أخرى، لعبت الشبكة البشرية دورا مهما. فالعملاء داخل إسرائيل يعملون ليلا ونهارا لمصلحة إيران، وهم ليسوا مجرد ناقلين لمعلومات سطحية، بل مُعطّون للمفاتيح التشغيلية مثل خرائط داخلية، طرق إدخال معدات، أسماء مُحدّدة لوحدات وموظفين حاسمين. هذه الشبكات البشرية، قلبت موازين الاستخبارات التقليدية: فجأة، لم تعد البيانات تُستخرج بالقوة التكنولوجية فقط، بل عبر قنوات محلية قادرة على فتح أبواب لا تستطيع التكنولوجيا وحدها تجاوزها.

النتيجة؟ حالة من الذعر الإداري داخل إسرائيل واعتقالات متواصلة بتهم "التعاون"، وتحقيقات موسّعة، وإجراءات أمنية مطوّلة تُكبد المؤسسة الاستخباراتية والأمنية الإسرائيلية تكاليف بشرية ومادية وتنظيمية هائلة. كل اعتقال وكل كشف داخلي هو بمثابة مؤشر على ضعف يُستغل سياسيا وإعلاميا. إيران، بعرضها للوثائق السرية، لم تنجح فقط في ضرب البنية التشغيلية؛ بل استطاعت أن تزجّ الرأي العام في دوامة الشك تجاه مؤسسات الخصم الأمنية، فتقوّض ثقة الجمهور وتزيد الضغوط السياسية على القيادة.

على مستوى الاستراتيجية، ما أظهرته إيران يفضي إلى ثلاثة نتائج قاطعة:

أولا، نقل اليد العليا: القدرة على جمع وتحليل وتحويل المعلومة إلى مخرجات تنفيذية منحت إيران اليد العليا في ميدان الاستخبارات.

 ثانيا، تغيير أدوات الردع: الردع لم يعد يقتصر على التفوق التقليدي في الأسلحة أو القدرات الجوية؛ المعلومات التي تُترجم إلى ضربات دقيقة أصبحت عنصر ردع جديد وفعّال.

 ثالثا، إعادة تعريف الأمن الداخلي: على من يُستهدف أن يعيد هندسة دفاعه من داخل المؤسسة نفسها، لا فقط من الحواجز الخارجية أو الحوافظ الإلكترونية.

أكثر ما يخيف إسرائيل في هذا السياق هو الفاعلية المتكاملة فعندما تتوافر المعلومة البشرية، والإمكانات السيبرانية، والقدرات التنفيذية على الأرض، تتلاشى الفوارق بين التخطيط والاستخدام. إيران لا تتباهى فقط بكثرة الوثائق؛ بل بالتكامل بين المعرفة والقدرة على الإجراء. وهذا ما يجعل إعلانها عن تقديم إحداثيات حساسة أثناء حرب حزيران/ يونيو الماضية بمثابة إعلان نية ملموس أن الأولوية لم تعد للوقاية وحدها، بل للقدرة على الضرب بدقة متناهية عندما تتوفر اللحظة المناسبة.

نتيجة لعملية استخباراتية متكاملة مكنت الدولة من تحويل المعرفة إلى فعل، والفعل إلى نتيجة سياسية وعسكرية ملموسة

الآثار المباشرة على مضمار العمليات واضحة؛ منشآت كانت تُدار بمنطق الغموض والإنكار لم تعد محمية عمليا إذا وقعت إحداثياتها في يد إيران، شبكات الإمداد، ونظم الدعم الفني، والموارد البشرية الحساسة، كلها أهداف عرضة لإعادة هندسة الساحة بما يخدم الطرف الذي يملك المعلومات. وهذا يخلق ديناميكية جديدة: بدلا من الاشتباك التقليدي المباشر فقط، يبرز اشتباك معلوماتي -تشغيلي- نفسي يودي إلى نتائج استراتيجية بطيئة ولكنها حاسمة.

إن خطاب إيران، وعرضها الوثائقي المصاحب، ليس موجها ضد عدوّ واحد فقط؛ إنه إشارة إلى العالم بأسره بأن عصر المواجهات صار يعتمد على جودة وعمق الوصول المعلوماتي، وأن تملك قواعد بيانات تشغيلية وتحويلها بسرعة إلى ضربات فعلية هو ما يمنح السيادة الفعلية في ساحة المعركة المستقبلة. هذا التحوّل يفرض على الدول أن تعيد النظر في أولوياتها في حماية المصادر البشرية لا تقل أهمية عن حماية الشبكات السيبرانية، والتعامل مع العمليات الاستخبارية لم يعد وظيفة وزارة واحدة فقط، بل مهمة وطنية تتداخل فيها كل الأجهزة.

في الخلاصة، العملية التي نفّذتها إيران ليست مجرد فوز دعائي، فهي انقلاب في أدوات القوة. اليد العليا التي تتحدث عنها قيادة إيران ليست مجرّد مزحة أو تهويل؛ هي نتيجة لعملية استخباراتية متكاملة مكنت الدولة من تحويل المعرفة إلى فعل، والفعل إلى نتيجة سياسية وعسكرية ملموسة. في ميداني الاستخبارات والعمليات، الطرف الذي يحصد ويستثمر المعلومات هو الذي يملك اليوم مفتاح السيطرة ومن هذا المنظور، تقول قيادة إيران بوضوح بأن اليد العليا ليست بعد الآن مجرد ادّعاء، بل واقعٌ يفرض نفسه على موازين القوة المقبلة.