قضايا وآراء

الهيمنة الأمريكية ليست قدراً.. متى يصحو القرار العربي؟

الحقيقة التي تتجنب كثير من الأنظمة العربية الاعتراف بها، هي أن الهيمنة الأمريكية لم تكن لتترسخ لولا هشاشة القرار العربي وارتهان النخب السياسية للخارج. الأناضول
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وضعت الولايات المتحدة المنطقة العربية وشمال إفريقيا في قلب أولوياتها الاستراتيجية. لم يكن النفط مجرد سلعة اقتصادية، بل أصبح مرادفاً للأمن القومي الأمريكي منذ لقاء الرئيس فرانكلين روزفلت بالملك عبد العزيز آل سعود عام 1945 على متن الطراد "كوينسي". ومع اندلاع الحرب الباردة، تحولت المنطقة إلى ساحة صراع بين واشنطن وموسكو. لكن مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، بدت أمريكا وكأنها اللاعب الأوحد في المنطقة. يومها قال الرئيس جورج بوش الأب عبارته الشهيرة: "النظام العالمي الجديد يبدأ من الشرق الأوسط". بعد سنوات، جاءت كوندوليزا رايس لتؤكد عام 2005 أن "الشرق الأوسط الكبير هو قلب المصالح الحيوية الأمريكية".

ومع ذلك، فإن المشهد لم يبقَ كما هو. صعود الصين كقوة اقتصادية عظمى وعودة روسيا بقوة عسكرية، خصوصاً بعد تدخلها في سوريا، جعلا الهيمنة الأمريكية أكثر تعقيداً من ذي قبل.

العراق كان المثال الأوضح على التدخل المباشر. الغزو الأمريكي عام 2003 أطاح بصدام حسين، لكنه فتح أبواب الفوضى والانقسام الطائفي. ووفق مشروع "Costs of War" بجامعة براون، أنفقت واشنطن أكثر من 2.2 تريليون دولار على الحرب وإعادة الإعمار، فيما أبقت على قواعد عسكرية ونفوذ سياسي جعل العراق عالقاً بين واشنطن وطهران.

الحقيقة التي تتجنب كثير من الأنظمة العربية الاعتراف بها، هي أن الهيمنة الأمريكية لم تكن لتترسخ لولا هشاشة القرار العربي وارتهان النخب السياسية للخارج. منذ عقود، تتحرك الحكومات العربية بين واشنطن وموسكو وبكين كقطع شطرنج على رقعة الآخرين، بلا مشروع إقليمي موحد أو رؤية استراتيجية حقيقية.
ليبيا لم تكن بعيدة عن هذا السيناريو. عام 2011 قادت الولايات المتحدة من الخلف عملية الناتو التي أسقطت نظام معمر القذافي. الحجة كانت "حماية المدنيين"، لكن النتيجة كانت دولة غارقة في الفوضى، فتحت الباب أمام نفوذ أمريكي وأوروبي في ملفات الطاقة والهجرة.

أما شمال إفريقيا، فقد فضّلت واشنطن العمل بأدوات ناعمة. المغرب يحتضن مناورات "الأسد الإفريقي"، أضخم مناورات عسكرية في القارة بمشاركة القوات الأمريكية. تونس وقّعت عام 2015 اتفاق "الشريك الاستراتيجي غير العضو في الناتو"، ما فتح الباب لتعاون أمني واسع. وحتى الجزائر، رغم تمسكها باستقلالية القرار، تبقى على صلة غير مباشرة بواشنطن عبر الطاقة والسلاح. وإلى جانب ذلك، تواصل الولايات المتحدة تكريس نفوذها عبر الجامعات الأمريكية والمنح الدراسية والإعلام، في استخدام واضح لـ"القوة الناعمة".

أدوات السيطرة البنيوية

اليوم، يتمركز في المنطقة ما بين 40 و50 ألف جندي أمريكي (منتصف 2025)، أبرزهم في قاعدة العديد بقطر والأسطول الخامس في البحرين. أما مبيعات السلاح، فتمثل المنطقة العربية نحو 38% من صادرات الأسلحة الأمريكية بين 2019 و2023، بحسب معهد ستوكهولم (SIPRI)، مع تصدر السعودية وقطر والكويت.

اقتصادياً، يبقى الدولار سيد اللعبة. يشكل نحو 59% من احتياطيات النقد العالمي (2024)، ما يجعل ارتباط الاقتصادات العربية به شبه حتمي. السعودية وحدها تملك احتياطات بنحو 450 مليار دولار، مقابل 40 مليار دولار لمصر.

أما الرأي العام، فقد بات أكثر سلبية تجاه واشنطن. استطلاع مركز الأهرام العربي عام 2024 كشف أن 82% وصفوا الموقف الأمريكي من حرب غزة بـ"سيء جداً"، و76% ازدادت لديهم مشاعر سلبية تجاه واشنطن، فيما يرى 51% أنها التهديد الأكبر للسلام والاستقرار في المنطقة.

سيناريوهات المستقبل

السيناريو الأول ـ استمرار الهيمنة ولكن بصيغة معدلة. أي أن تبقي أمريكا على قواعدها ونفوذها الاقتصادي مع تقليل التدخلات المباشرة، معتمدة على شراكات أمنية وتكنولوجية.

السيناريو الثاني ـ عالم متعدد الأقطاب. الصين تترسخ كشريك اقتصادي أول عبر "الحزام والطريق"، وروسيا تعزز حضورها في السلاح والطاقة، وهو ما يضعف الدور الأمريكي كضامن وحيد.

اليوم، السؤال لم يعد: هل ستستمر الهيمنة الأمريكية أم تتراجع؟ بل: هل ستظل المنطقة العربية عاجزة عن صياغة مشروعها الخاص؟
السيناريو الثالث ـ تراجع واضح للنفوذ الأمريكي، إذا انشغلت واشنطن بأزماتها الداخلية أو بمواجهة مع الصين في آسيا. عندها، يبرز فراغ استراتيجي خطير: الخليج يتجه نحو سباق تسلح أو تحالفات جديدة، شمال إفريقيا تصبح ساحة تنافس بين الأوروبيين والروس والصينيين، والمشرق العربي ينزلق نحو مزيد من الاضطراب في غياب "الشرطي الأمريكي".

الحقيقة التي تتجنب كثير من الأنظمة العربية الاعتراف بها، هي أن الهيمنة الأمريكية لم تكن لتترسخ لولا هشاشة القرار العربي وارتهان النخب السياسية للخارج. منذ عقود، تتحرك الحكومات العربية بين واشنطن وموسكو وبكين كقطع شطرنج على رقعة الآخرين، بلا مشروع إقليمي موحد أو رؤية استراتيجية حقيقية.

الأنظمة التي رهنت ثرواتها للأجنبي مقابل حماية قصيرة الأمد، هي نفسها التي دفعت شعوبها إلى الفقر والبطالة والتبعية. أما تلك التي ترفع شعار السيادة، فسرعان ما تنكشف هشاشتها عندما تنتظر قرارها من البيت الأبيض أو موافقة صندوق النقد.

اليوم، السؤال لم يعد: هل ستستمر الهيمنة الأمريكية أم تتراجع؟ بل: هل ستظل المنطقة العربية عاجزة عن صياغة مشروعها الخاص؟

الجواب مرهون بشجاعة الأنظمة في تحمّل مسؤولياتها، وبقدرة الشعوب على الضغط من أجل استقلال حقيقي، لا مجرد شعارات. فالهيمنة ليست فقط سلاحاً وجنوداً، بل أيضاً إعلاماً وثقافة واستهلاكاً، أي نفوذ رمزي يوازي النفوذ العسكري والاقتصادي. والتحرر لن يكتمل إلا إذا امتلكت المنطقة وعياً قادراً على مقاومة الهيمنة الأمريكية الناعمة والصلبة.