قضايا وآراء

تونس: بعد تحرّش مجلس النواب الأمريكي.. ما حدود السيادة الوطنية وما ضماناتها؟

"العولمة بما هي نزوعُ نحو الهيمنة لدى الغالبين تريدُ التسلل الناعم عبر فلسفة الكونية"- CC0
بعد أن أصبح شعار "استعادة المسار الديمقراطي في تونس" مطلبا في البرلمان الأمريكي، وبعد أن صارت "العقوبات" تُطل برأسها على مسؤولي حادثة 25 تموز/ يوليو 2025، يُعاد طرح السؤال حول حُدود السيادة الوطنية وحول ضمانات تحقق إرادة الشعوب وكرامة الدول.

أولا: الكونية واختراقات السيادة

يعدّ مبدأ السيادة أهم مقوم من مقومات الدولة في الفكر السياسي والقانون الدولي المتعارف عليه بين الأمم. ويقسم الفقه الدستوري السيادة إلى:

أ- سيادة الدولة داخليا بتحديد النظام السياسي والسيطرة على الموارد وتصريف أمور الناس.

ب- سيادة الدولة خارجيا، بعدم الخضوع لسلطة خارجية تحد من سلطتها المستقلة.

ج- سيادة داخل الدولة، وتعني الأشخاص الذين خصهم الدستور بممارسة السلطة كرئيس الدولة والبرلمان والحكومة.
التحولات الكبرى في المشهد الدولي وهذا التدافع السريع للتشكلات الطارئة، جعلت مفهوم السيادة الوطنية رخوا في باطنه وظاهره، ولم تعد الأنظمة السياسية تُحْكِم السيطرة على "المفهوم"، أي مفهوم السيادة، ومفهوم الوطنية، ومفهوم الخيانة، كما كانت سابقا


وقد برزت الدولة القُطرية العربية إثر الحربين العالميتين في عملية توازن استراتيجي بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي، حيث انتهت الحرب العالمية الأولى إلى تفكيك الدولة العثمانية، وانتهت الثانية إلى إنهاء صوري للاستعمار وتوزّع الدول الضعيفة بين الغالبين؛ تحت طقس حرب باردة ضمنت الحد الأدنى من ممارسة "السيادة" داخليا والمناورة خارجيا.

إثر انهيار الاتحاد السوفييتي رسميا في كانون الأول/ ديسمبر 1991، أصيبت دولٌ وحركات كثيرة بما يُشبه "اليُتم"، والعبارة لقائد عربي كان دعا يومها العرب إلى التوجه نحو الصين. لقد سقط اليمن الجنوبي -الاشتراكي- وهُوجم العراق وأصبحت الجزائر في العراء السياسي، وفُسِحَ المجال للرأسمالية المنتصرة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية -مدفوعة بنشوة الغلبة- كي تحاول بسط سيادتها على العالم من خلال قدرتها على تفعيل مقومات العولمة لصالحها.

ثانيا: مقومات العولمة

- المقوم الاقتصادي: منظمة التجارة العالمية، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي.

- المقوم المعلوماتي والاتصالي: شبكة الإنترنت، التجارة الإلكترونية، شبكة الاتصالات العالمية.

- المقوم القانوني: القانون الدولي الحديث يشترط على الدولة التكيف مع والتقيد بالالتزامات الدولية، من خلال تقنين حق التدخل في الشأن الداخلي للدول بمبررات أمنية وجنائية وحتى قيمية، وأيضا من خلال القوانين التجارية العابرة للحدود، وقوانين الإغاثة وعناوين التدخل الإنساني.

- المقوم الأمني: تداخل الأمن الوطني والأمن الدولي، حيث مسؤولية الدولة أمام المجتمع الدولي عن الأمن الإقليمي والدولي، وظهور مؤسسات أمنية عالمية ذات مجال حركة عالمي، إذ تحول حلف النيتو منذ قمة أعضاء الحلف المنعقدة بواشنطن في نيسان/ أبريل 1999 إلى مؤسسة أمنية عالمية؛ من حقها التدخل في أي مكان من العالم ودون تفويض من الأمم المتحدة، على خلاف الفقرة الخامسة من ميثاقه..

- المقوم الثقافي: لما كانت الثقافة طرائق عيش وفنون تعبير عن الحياة، فإن الحضارة الغالبة هي التي تنصر دائما ثقافتها، في حين أن المجتمعات الساكنة "الضعيفة" تستورد ضرورات العيش ومعها مفردات تلك الضرورات وطرائق استعمالها، وتُخترق في جهازها النفسي والذهني وفي ذائقتها وقيمها حين تشعر بالدونية فتقلد الغالبَ.

لقد فرضت العولمة ثقافة استهلاكية عن طريق الإشهار كما فرضت نمط تعامل تجاري بين الناس وأنماطا سلوكية تتطلبها المنظومة التجارية، لقد اقتحمت ثقافة الغالبين على المغلوبين حدود أوطانهم وأبدانهم.

"العولمة" بما هي نزوعُ نحو الهيمنة لدى الغالبين -بعد انهيار المعسكر الاشتراكي- تريدُ التسلل الناعم عبر فلسفة "الكونية" بما هي تصور إنساني لوحدة النوع البشري ولوحدة نظام الكون ووحدة القيم والحقوق الإنسانية، يُحاولُ الغالبون إحداث امتزاج بين الفلسفة وماكينة الإنتاج الرأسمالي، يحاولون التسلل إلى الأوطان عبر مُفرداتٍ حقوقية ومعايير سياسية ويمتزج لديهم الجشعُ و"الشفقة".

ثالثا: الداخل والخارج

هذه التحولات الكبرى في المشهد الدولي وهذا التدافع السريع للتشكلات الطارئة، جعلت مفهوم السيادة الوطنية رخوا في باطنه وظاهره، ولم تعد الأنظمة السياسية تُحْكِم السيطرة على "المفهوم"، أي مفهوم السيادة، ومفهوم الوطنية، ومفهوم الخيانة، كما كانت سابقا، بحيث تستندُ إليه كـ"مقدس" لمحاسبة المتعاملين مع الخارج والمتواطئين مع الأجنبي أو حتى اتهامهم بالتآمر على الوطن.

هذه الأنظمة نفسها لا تكف اليوم عن المجاهرة بالانخراط في المشهد الدولي الجديد، بدءا من التجارة العالمية مرورا بالالتزامات الحقوقية والتنموية وانتهاء إلى الاشتراك في الحرب على "الإرهاب"، ولا يخفى ما تتعرض له هذه الأنظمة من ضغط خارجي باتجاهات عدة تغري البعض من أهل الداخل بالاستقواء بأولئك الضاغطين من أجل تحصيل بعض حقوق ومقتضيات مواطنة، بل وقد يغترّ البعض فيُوغلُ في أوهام وتخيّلات يرسمها له الغامزون من الخارج.

إن القيم "الكونية" ليست مجرد فلسفة بريئة، إنها ذات أنياب لا تكف عن النهش في كامل الجسد العربي، و"الحقوق" أيضا ليست دائما إنسانية، بل غالبا ما تكون مداخل للتشريح السياسي وِفق مواصفات يضبطها أولئك الذين استفاقوا فجأة على أن الآدميين جميعا سواسية في أصل التراب.

تحاول الأنظمة التأكيد على أنها حقوقية وديمقراطية وإنسانية وكونية، وهي أيضا تحرص على ألا يتداخل خطابُ الداخل مع إملاءات الخارج المهينة.

السياسة ليست نشاطا خيريا ولا حميمية صداقة، لذلك لا يَقيلُ أحدٌ من السياسيين عند ظل أحدٍ، وحدهم المقامرون يستبدلون ويبيعون ما لا يُباعُ، وحدهم الحمقى يكتشفون في النهاية أنهم مغدورون

إن السياسة ليست نشاطا خيريا ولا حميمية صداقة، لذلك لا يَقيلُ أحدٌ من السياسيين عند ظل أحدٍ، وحدهم المقامرون يستبدلون ويبيعون ما لا يُباعُ، وحدهم الحمقى يكتشفون في النهاية أنهم مغدورون.

لا يخفى على عاقل ما ينتج عن حرف الاختلافات الداخلية إلى نزاع حول "الخارج"، حين ينصرف الاهتمام عن المسائل العملية داخليا إلى موضوع السيادة وحرية القرار.

لقد جرت العادة أن "شركاء المكان" يؤجلون دائما خلافاتهم ويتجندون ضد أي تهديد خارجي، هذا التأجيل مُربك لمسارات الحوار ولمقتضيات التدافع السياسي والحوار الفكري بين السلطة ومعارضيها من الأحزاب والنخبة، حين تسود الحياةَ السياسيةَ حالةٌ من التصارخ والتتاهم والتحشيد على الضفتين تضيق مساحات العقل وتضعف فرص التصاغي وحظوظ التعبير الهادئ.

أيّ حكمة سياسية أو فكرية من تبديد زمنٍ وطاقاتٍ في غير مواضيع حقيقية؟ وفي غير مسائل مبدئية؟ وأيّ إنجاز وطني يحققهُ من يُفلح في استنهاض قبضاتٍ خارجيةٍ تُطرّق أبواب الوطن؟

وحتى لا يُقال بأن خلايا النحل لم تذهب بعيدا إلا حين لم تجد الرحيق بمقربة منها، فإن الأنظمة مدعوة إلى "الذهاب" إلى الداخل لتحصين السيادة الوطنية فعلا وسدّ ذرائع استصراخ "الخارج"، ولا يشك عاقلٌ في كون نقد الداخل -وإن اشتد- هو أقل وطأة من إملاءات الخارج وتدخلاته المهينة للجميع..

وفي هذا الطقس السياسي والدولي المائج يُعوَّلُ على أصحاب "الرؤية" في تهدئة الخطاب وإثراء القاموس الثقافي والسياسي بمفردات التوافق والاصطبار والتصاغي والتواضع للوطن وللإرادة الجامعة، يُعوّل على مُبدعي السياسة وعلى قادحي الأفكار الوامضة كي يجتهدوا في كبح الخطابات النافرة والمفردات العضوضة والأصوات القارعة والأنفس المشحونة، يُعوّل على الإعلام كي يتسع للاختلاف والتنوع، وكي يترفع عن كل ما لا ينسجم مع طبيعة دوره في التنوير وفي التعريف والإثراء.

x.com/bahriarfaoui1