زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب للمملكة
المتحدة (17 أيلول/سبتمبر 2025) أُقيمت في إطار بروتوكولي فخم ـ استقبالات ملكية
ومأدبة رسمية في قلعة وندسور ـ لكنها واجهت أيضاً احتجاجات شعبية ولقطات مضادة.
هذا التناقض بين بُعد الطقوس ودلالته الدولية، وبين غضب الشارع، يلخّص حالة
العلاقة الآن: مهمة للمصالح الاستراتيجية والاقتصادية، لكنها محل نقاش شعبي وسياسي.
الجذور التاريخية للعلاقة تعطي للمشهد
الحالي إطاراً مباشراً. ظهر التعبير عن "العلاقة الخاصة" علناً منذ خطاب
وينستون تشرشل الشهير في فولتون عام 1946، حيث ربط تشرشل مصير أوروبا وما بعدها
بثقلٍ أمريكي بعبارات مثل أن هناك "علاقة خاصة" بين الولايات المتحدة
وبريطانيا كمحور لمواجهة تحديات ذلك الزمن. تلك الخلفية ـ تحالف الحرب العالمية
الثانية ثم التعاون في بناء نظام أمني غربي ما بعد 1945 ـ هي ما يجعل أي لقاء
رئاسي طقساً ذا دلالة رمزية وعملية.
تطور العلاقة خلال عقود كان مزيجاً من
التعاون الوثيق والتباينات السياسية؛ من توأمة سياسات الحرب الباردة إلى شراكات
استخبارية متقدمة مثل "الأعين الخمس"، ومن ثمّ فترات توتر (خلافات حول
العراق 2003 أو تغيرات في أولويات إدارة أمريكية جديدة). في السنوات الأخيرة ترافق
ذلك مع محاولات رسم إطارٍ عملي جديد (حوار استراتيجي، تفاهمات تجارية وتقنية)
لتجنّب أن تبقى العلاقة مجرد شعار تاريخي.
الواقعية الاقتصادية حاضرة بقوة: التبادل
التجاري بين البلدين ضخم وموثق رسمياً فحسب مكتب الممثل التجاري الأمريكي بلغت
قيمة التجارة (السلعية والخدمية) بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة نحو 340
مليار دولار في 2024، ومن جانب
بريطانيا سجّلت البيانات الرسمية إجمالي تجارة
مشتركة بقيمة حوالي 322 مليار دولار حتى نهاية الربع الأول من 2025. هذه الأرقام
تظهر اعتماداً متبادلاً، خاصة في الخدمات المالية والتقنية. وفي ظل زيارة ترمب تم
توقيع ما عُرف بـTech Prosperity” Deal
" بقيمة بلغت حوالي 31 مليار جنيه (42 مليار دولار) لتعزيز
استثمارات الذكاء الاصطناعي والطاقة النووية المدنية وغيرها من القطاعات.
الحكومة البريطانية احتفت بإعلانات
استثمارية كبرى (احتفاؤها الإعلامي يشير إلى عوائد وفرص وظيفية)، بينما انتقادات
جادة تناولت هشاشة الاعتماد على رؤوس المال والتقنيات الأجنبية وضرورة بناء قدرات
محلية. بعض الأصوات السياسية والعلمية حذّرت من جعل اقتصاد المملكة
"تابعاً" لتوجيهات واحتياجات شركات وُجهت من قواعدها في وادي السيلكون.
الجوانب الأمنية والعسكرية بقيت محور شراكات
وثيقة وملفات تقنية استراتيجية: التعاون يشمل برامج طائرات مقاتلة (F-35 ) ومشروعات
غواصات وبرامج AUKUS الثلاثي مع أستراليا
والولايات المتحدة، بالإضافة إلى وجود الولايات المتحدة على قواعد بريطانية مهمة (مثل RAF Lakenheath) ) والربط في
منظومات استخباراتية عميقة. هذه الشراكات تمنح لندن قدرة تشغيلية وتأثيرية، لكنها
أيضاً تضعها في خلية تبعية جزئية لقرارات واشنطن في أوقات الأزمات.
في البعد الجيوسياسي الأوسع، ينظر الأمريكيون إلى لندن كذراع أوروبي مهم في مواجهة الصين، خاصة في مجالات التكنولوجيا والطاقة النظيفة. في المقابل، تحاول بريطانيا فتح أسواق أوسع مع الهند وآسيا ضمن استراتيجيتها لما بعد البريكست، مما يضعها أحياناً في موقع موازن بين ضغوط واشنطن وحاجاتها الاقتصادية المستقلة.
على مستوى التصريحات الرسمية، ظهرت عبارات
واضحة وبتوقيع أسماء محددة تؤكد الوزن العملي للعلاقة: وزير الخارجية الأميركي
السابق أنتوني بلينكن صرّح بأن "العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة
المتحدة خاصة"، مؤكداً استمرار دفع حوار استراتيجي لتعميق التعاون السياسي
والاقتصادي. ومن الجانب البريطاني، قال رئيس الوزراء كير ستارمر إنه "لن تكون
هناك سياسة خارجية بريطانية فاعلة من دون شراكة وثيقة مع واشنطن"، لكنه شدّد
أيضاً على أن "هذه الشراكة يجب أن تكون قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح
المشتركة".
وفي ملف غزة، أعلن ستارمر أن لندن ستعترف
بدولة فلسطين في حال عدم استجابة إسرائيل لمتطلبات وقف التصعيد وإيصال المساعدات،
وهو موقف رفضته إدارة ترامب علناً.
في سياق الأزمات الإقليمية، كان الملف
الأوكراني محوراً رئيسا للتعاون: الولايات المتحدة قدّمت منذ فبراير 2022 وحتى
منتصف 2025 ما يزيد عن 114 مليار يورو كمساعدات شاملة لأوكرانيا، منها نحو 64
مليار يورو مساعدات عسكرية، فيما التزمت بريطانيا بأكثر من 18 مليار جنيه استرليني. أما في ملف غزة، فبرز التباين:
واشنطن ركزت على ضمان أمن إسرائيل، بينما لندن حاولت التوازن بين إدانة التصعيد
ودعم الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
في البعد الجيوسياسي الأوسع، ينظر
الأمريكيون إلى لندن كذراع أوروبي مهم في مواجهة الصين، خاصة في مجالات
التكنولوجيا والطاقة النظيفة. في المقابل، تحاول بريطانيا فتح أسواق أوسع مع الهند
وآسيا ضمن استراتيجيتها لما بعد البريكست، مما يضعها أحياناً في موقع موازن بين
ضغوط واشنطن وحاجاتها الاقتصادية المستقلة.
المفكرون الاستراتيجيون يقدمون قراءات
متباينة حول مستقبل هذه العلاقة. البروفيسور لورانس فريدمان من RUSI يرى أن "العلاقة الخاصة لم تعد ضمانة أوتوماتيكية
كما في القرن العشرين، بل تحتاج إلى تجديد عملي قائم على المصالح". أما
غيديون راتشمان، المحلل في فاينانشال تايمز، فيرى أن "المشكلة ليست في متانة
العلاقة، بل في انعدام اليقين بشأن قدرة بريطانيا على رسم سياسة مستقلة إذا اختلفت
توجهات البيت الأبيض عن مصالحها المباشرة".
في الختام يعود السؤال الأهم: هل تبقى
العلاقة الخاصة صامدة في عالم التعددية القطبية وصعود الصين؟ ما يظهر أن العلاقة
ستستمر بحكم التاريخ والاقتصاد والتحالفات الأمنية، لكنها قد تفقد لقب
"الخاصة" إذا لم تُترجم إلى آليات ملموسة، تحمي استقلالية بريطانيا
وتراعي في الوقت نفسه الوزن الأميركي الأكبر.
لندن في عهد ستارمر أمام اختبار مزدوج: أن
تظل حليفاً مفضلاً لواشنطن، وأن تبرهن لشعبها وأوروبا أنها قادرة على أن تكون أكثر
من مجرد تابع.