قضايا وآراء

السياسة في تونس بين مأزقي العزلة والعولمة

ما بين الاستسلام للقدرية السياسية، أو التفكير الجذري في المستقبل، لا بدّ من بناء رؤى استراتيجية جديدة، يكون فيها الإنسان، وحرية الإنسان قبل السوق وقبل الدولة، هو محور الفعل التاريخي الحضاري والكوني.
تمر تونس اليوم بأزمة سياسية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة منذ ثورة 2011، تتقاطع فيها الأزمات الداخلية والمؤثرات الإقليمية والعربية إضافة الى التحولات الكبرى التي يشهدها العالم على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية. ولم يعد ممكنًا فهم الوضع التونسي دون النظر في سياقه الإقليمي والدولي، حيث تتشابك أزمة الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال مع أزمة النظام العالمي النيو ليبرالي، وصراع القوى الكبرى، وانهيار المنظومات السياسية والاجتماعية التقليدية.

ملامح الأزمة

دخلت تونس منذ 25 تموز / يوليو 2021، في طور سياسي استثنائي مع قرارات الرئيس قيس سعيد الانقلابية بتجميد البرلمان وحلّه، وتعليق العمل بالدستور، وتركيز منظومة حكم رئاسي فردي عبر "دستور 2022". هذه التحولات التي فرضتها الأجهزة البيروقراطية الصلبة والمتداعية للنظام القديم وتجمع البرجوازية الطفيلية أفضت إلى انقسام النخب، وانهيار ثقة المواطن في المؤسسات، وزيادة الشعور العام بالعجز السياسي.

ـ ففي 25 يوليو 2021، قام الرئيس قيس سعيد بتجميد البرلمان وإقالة الحكومة، وتوسيع صلاحياته عبر دستوره القديم الجديد، مما عدّه كثيرون انقلابًا صريحًا على الديمقراطية الناشئة.

ـ منذ ذلك الحين، شُنت حملات قضائية على السياسيين والمعارضين، حيث تمت محاكمة أغلب رموز المعارضة الوطنية بتهم تتعلق بـ المسؤولية عن الأمن القومي" و"التمويل الأجنبي" أو ما عرف بالتآمر على أمن الدولة، ووصفها نشطاء بأنها محاكمات سياسية وكيدية.

ـ في أوائل يوليو 2025، صدرت أحكام سجنية طويلة تتراوح بين 12 إلى 35 عامًا بحقّ شخصيات بارزة مثل الشيخ راشد الغنوشي رئيس البرلمان /مجلس نواب الشعب واخوانه ورفاقه من رموز الطيف السياسي التونسي وتم غلق مقرات الأحزاب ومنها مقرات حركة النهضة المركزية والجهوية وتم حل المنظمات المدنية والسيادية في محاولة للإجهاز على الديناميك السياسي التونسي ، مما يُنظر إليه على أنه تعميق لقمع الحريات وتفكيك بنيوي للدولة ونظامها الجمهوري وشعارها المركزي تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها. الوارد في الفصل الأول من دستوري 1959 و2014م.

وإلى جانب اجهاز البرجوازية الطفيلية على الطبقة الوسطى تم الاستهتار بفصل السلطات وتفكيك النظام القضائي ومنظومة التقاضي العادل والمستقل وإلغاء جميع المؤسسات التعديلية والمنظومات الوسيطة.

الأزمة الاقتصادية

وعلى الصعيد الاقتصادي بلغت نسب النمو 1.4٪ في 2024 بعد ركود عام 2023، وتوقّع البنك الدولي نموًا بين 2.3٪ لعامي 2025 ـ 2026، لكنه أشار إلى وجود معيقات بنيوية كبيرة.

ووصل الدين العام إلى نحو 80٪ من الناتج المحلي، وانخفض التضخم إلى نحو 6.7٪، في حين ارتفعت أسعار الغذاء ايومي للمواطنين بنسبة 9.2٪ مقارنة بالعام السابق، ما يزيد الضغوط على نمط المعيشة اليومية للمواطن.

عادت الدولة السلطوية العالمية في أوضح تجلياتها الامبريالية وعرف العالم صعودًا واسعًا للنزعات الشعبوية والاستبدادية شرقا وغربا، وصار الشهداء والسجناء والضحايا ودماء الشعوب المهدورة أرقاما في بيانات الإحصا
ووصلت نسب البطالة، خصوصًا بين الشباب، إلى 28٪، مع تفاقم ظاهرة الهجرة وتأثر الموارد العامة بموارد مهاجرين لا يجدون تشريعات وممارسات مواطنية تشجع على الاستثمار والسياحة والتسوق في بلدهم.

وقد اعتمدت تونس على اقتراض داخلي مضاعف في 2025، مع تقليص القروض الخارجية، في محاولة لتغطية عجز الميزانية التي تراجعت إلى 20.45 مليار دولار مع عجز وصل إلى 3.18 مليار دولار. وشهدت البلاد أزمة مالية خانقة، تجلت في:

ـ عجز الميزانية العامة للدولة وتفاقم المديونية (أكثر من 80% من الناتج الداخلي الخام).

ـ تراجع قيمة الدينار وارتفاع التضخم (وصل إلى أكثر من 10% سنة 2023).

ـ شحّ المواد الأساسية وصعوبات في تمويل الواردات.

ـ انسداد الأفق أمام التوصل إلى اتفاق شامل مع صندوق النقد الدولي، بسبب رفض شروطه (خاصة خوصصة المؤسسات العمومية ورفع الدعم مع ممارسة رفع الدعم المقنع والخفض غير المباشر لكتلة الاجور). مع الاجحاف في رفع الدعم بطرق ملتوية توحي بعدم الاستجابة لشروط الصندوق الدولي مع اخضاع البلاد الى شروط اقتراض جاوزت شروط صندوق النقد الدولي بأضعاف مضاعفة.

وقد أفضت الأزمة الاقتصادية إلى توترات اجتماعية حادة: ارتفعت البطالة، خاصة في صفوف الشباب والخرّيجين، وانتشر الفقر والتهميش في جميع الجهات وخاصة الجهات الداخلية للبلاد وفي القرى والارياف التونسية. وتزايدت ظواهر الرغبة في الهجرة غير النظامية وخوض غمار الحرقة في زوارق الموت كخيار شبابي أخير للنجاة. وبدلا من اجتراح برامج تكوينية وتأهيلية لتوفير الشغل والاستقرار وفضاءات التثقيف والرفاه للشباب يتم ابرام اتفاقيات مشددة لحراسة الحدود دون مقابل تنموي ينهض بأنماط المعيشة في ضفتي شمال وجنوب المتوسط.

وشهدت آفاق التفاوض بين الدولة والنقابات انسدادا حادا زاد من الاحتقان ومن التهديد بالإضرابات القطاعية. وهمش الاتحاد العام التونسي للشغل وباتت النقابات تعيش غضبا وغليانا صامتا بعدما تخلت البيروقراطية النقابية عن الدفاع عن منظوريها، مما انتهى بها الى مواجهة نفس مصير السياسيين والأحزاب السياسية من صدام قد يؤدي الى محاكمات لتصفية أعتى وإحدى اهم المنظمات الوطنية التونسية الاتحاد العام التونسي للشغل. مما يجعل البيروقراطية النقابية تواجه مقولة اكلت يوم اكل الثور الأبيض.

الأزمة الاجتماعية

في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية استمر التدهور، حيث أدى التضخم وارتفاع أسعار الغذاء إلى تراجع القدرة الشرائية وانتشار الفقر.

وتفاقم التفاوت الاجتماعي وضاقت ثقة المواطنين في النزاهة والمؤسسات، مع تقييم تونس على مؤشر الشفافية العالمي عند 39/100 فقط.

وتواجه حقوق المرأة تراجعًا وسط مخاوف من تراجع مكتسبات ما بعد 2011 مع هيمنة السياسات المركزية. وهيمنة الثقافة السائدة التي لم تعد تشتغل على وعي المواطن ومشاغله بقدر تشتغل على ثقافة الغرائز.

ولا يمكن في الواقع فصل ما تعانيه تونس من أزمات عن الأزمة المركبة التي تضرب بنية النظام العالمي منذ أكثر من عقد من الزمان ويمكن اختزالها في النقاط التالية:

منذ أزمة ليمان براذرز العالمية سنة 2008، بدت مؤشرات نهاية الطور النيو ليبرالي وبدا النظام الرأسمالي العالمي يمر بأزمة بنيوية ابانت في تمظهراتها عن:

ـ تفاقم اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية.

ـ تراجع الثقة في الديمقراطية التمثيلية.

ـ انهيار "الطبقة الوسطى" كمصدر للاستقرار.

ـ اضطرار الدولة للتدخل من اجل تعديل ما حصل من اضطراب في اقتصاد السوق الرأسمالي العالمي وزادت ازمة جائحة الكوفيد في كشف ذلك الاضطراب.

ـ وانعكست هذه التحولات على البلدان التي تنتمي الى ليبرالية الأطراف بمساوئها وضعفها الهيكلي مثل تونس التي اندرجت في نموذج تنموي تابع وهشً، معتمدة على القروض والسياحة والتحويلات، دون بعث دورة إنتاج حقيقية ودون تركيز قاعدة رأسمالية مادية وبنى تحتية للاقتصاد الوطني ودون هندسة للسيادة الاقتصادية.

إن الأزمة التي تمر بها تونس هي عرض من أعراض أزمة عالمية مركبة، يعيش فيها الإنسان المعاصر مأزق المعنى، وتعيش فيها الدولة مأزق الثروة والسيادة والثورة الوطنية ويعيش المكون الجغرافي العربي مأزق الهزيمة ويعيش فيها النظام العالمي مأزق الشرعية والعدالة الكونية.
وفي سياق انهيار الثقة بالديمقراطية والشرعية الدولية وانكماش الطور النيوليبرالي على الربحية القومية وفرض الرسوم الجمركية والحجر على التنقل الحر للسلع ولراس المال، وانقلاب العولمة على اقتصاد السوق وعلى مفاتيح التقسيم الدولي للعمل وللخيرات   اندلعت الحروب العالمية الموضعية في غزة بفلسطين المحتلة وفي أوروبا بين روسيا واكرانيا وفي عدد من مواطن التوتر.

وعادت الدولة السلطوية العالمية في أوضح تجلياتها الامبريالية وعرف العالم صعودًا واسعًا للنزعات الشعبوية والاستبدادية شرقا وغربا، وصار الشهداء والسجناء والضحايا ودماء الشعوب المهدورة أرقاما في بيانات الإحصاء، وانتزع منها هول الفاجعة الإنسانية والبشرية التي  كانت تعكس أصداء الإعلان العالمي لحقوق الانسان والميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب وإعلان الثورة الفرنسية 1789 لحقوق الانسان والمواطن ، تلك المواثيق والاعلانات التي كانت تستدعي الاحتشاد الدولي من اجل إيقاف الحروب وحقن الدماء و فرض السلام العالمي المتفق  عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومنذ نهاية الحرب الباردة لكن هيهات.. . وهو ما يعكس ميلاً عالميًا لتبرير الحكم الفردي كحلّ للفوضى وتحقيق الامن والربح والاستقرار بقطع النظر عن حقوق المواطن والانسان والشعوب.

واكتسحت في تلك الأجواء دبابات الحركة التصحيحية المزعومة التجربة التونسية ذات يوم اسود من أيام 25 جويلية 2021 ويرمون عشرية التجريب الثوري بالسواد. وضمن هذا المنحى الشعبوي، وذلك بمباركة من منصات للإعلام الزائف والمشوه للوعي الجمعي والمحاصر للإعلام والإعلاميين الوطنيين. وكما قال الزعيم الثائر شي غيفارا /وأورد مقولته بتصرف/إذا بالت الثعالب على الشعب بادرت وسائل الاعلام والدعاية الرسمية مفسرة بان السماء تمطر.

وقدم ذلك الاعلام الزائف الفرد المنقذ المخلص المقدس بديلاً عن النخب والمنظمات التي ارهقتها الانقسامات والأحزاب التي اقعدها الجهل المقدس والجمود العقائدي وفقر الخيال في الرؤية النظرية والاستراتيجية في التصور العملي عن تحمل المسؤولية والانتفاض من اجل الثورة، والديمقراطية، وخبز المواطن والوطن.

ففي عالم يشهد تحولات في النظام الجيوسياسي من الأحادية القطبية نحو التعددية (صعود الصين، روسيا، البريكس، تراجع الهيمنة الغربية)، تجد تونس نفسها في موقع هش، حيث لم تعد تحظى بالدعم الغربي التقليدي، ولا تمكّنت من بناء تحالفات استراتيجية بديلة، مما زاد من عزلتها السياسية والمالية.

وتواجه البشرية اليوم ازمة في المعنى والهوية وأزمة ثقافية كبرى تتعلّق بفقدان الإطار المرجعي، سواء الديني أو الحداثي. وتونس بدورها تعاني من اهتزاز في البنى التحتية والمرجعيات الفكرية والقيمية، إذ لا المجالسية ولا تذبذب القومية وهزائمها ولا الطوباوية الماركسية ولا الغموض الديني الكلاسيكي ولا الحداثوية البورقيبية التقليدية استطاعوا تقديم إجابات جديدة للجيل الحالي من الشباب، وهذا الفراغ أنتج مزيدًا من الانفصال بين المواطن والنخبة.

وما زالت معركة الوعي مطلوبة حتى تعود الثقة بين المواطن والسياسة، وتعود الثقة بين المواطن وحاجاته الضرورية. اذ هناك فرق بين معايشة الظلم وبين وعي الظلم وعي الحاجة وعي الحياة. فالوعي هو المحفز على الفعل. والفاعل الحقيقي هو الشعب والمواطن، فاذا وعى المواطن بالحاجة الى استرجاع مواطنته وكرامته والى التخلص من القيود التي تقعده، سيتخلص منها حتما. وليس للأحزاب السياسية ولا المنظمات المدنية أي دور الا في علاقة بوعي المواطنين وتطويره ووعي الشعب بالحاجة الى التحرر.

وليست تونس حالة شاذة أو منفصلة عن السياق العالمي، بل هي نموذج مكثّف لأزمة الدولة ما بعد الكولونيا لية التي فشلت في بناء مشروع الدولة الوطنية وتحقيق سيادة وطنية سياسية واقتصادية فعلية، في ظل تبعية نمطية مالية وتكنولوجية للمركز العالمي.

ولا سبيل للخروج من الأزمة دون إعادة بناء تعاقد اجتماعي حول مشروع وطني جديد، يقوم على:

ـ تجديد الطبقة السياسية والفاعلين السياسيين من الحركة الشبابية والحركة النسوية في تواصل مع الأجيال السابقة وليس في قطيعة معها من اجل تبادل التجارب الكفاحية والخبرات النضالية دون السقوط في البطريركية.

ـ تجديد التصورات والرؤى السياسية والمقاربات النظرية والمفهومية والمسارات المعرفية والثقافية والعلمية والسوسيولوجية لدى جميع الأحزاب وبالتأكيد لدى حركة النهضة والإسلام الوطني الديمقراطي حتى تتحقق سياسة القرب من المواطن وتتجدد الثقة وينهض المواطنون بمهامهم ومسؤولياتهم في بناء الإرادة الحرة وفي التغيير.

ـ  مراجعة المنوال التنموي وتحريره من التبعية وبناء منظومات للإنتاج والتسويق الوطني ضمن اقتصاد حر في مجتمع حر لمواطن حر سيواصل حركة التحرر الوجودي الروحي والعملي من الاغتراب والتوحش والإرهاب.

ـ إعادة انتاج وتطوير ديمقراطية اجتماعية وسياسية على أساس تشاركي ومؤسسي، وليس فرداني وشعبوي. لان الفرد مهم في مجتمعنا كأهمية المجتمع وهو يختلف عن الفردانية المغرقة في الفردية والمنسلخة عن بيئتها وشروطها الاجتماعية.

ـ ضمان استقلالية القرار الوطني إزاء المانحين الدوليين في شراكة تفاوضية نفعية، دون الوقوع في فخ العزلة.

ـ إعادة الاعتبار للثقافة كمجال لإعادة بناء الهوية الوطنية الديمقراطية واستعادة الجذور الحضارية والروحية لتونس ومحيطها الجغراسياسي.

وقد تتحول تونس في ظل هذه الازمة الحادة الى إلى مختبر لسيناريوين:

ـ ويتمثل السيناريو الأول في مخاطر الانهيار المدوي على غرار بعض التجارب اللاتينية أو الإفريقية إذا استمر غياب الدولة والثورة والرؤية والتجديد وانعدام الشفافية.

ـ ويتمثل السيناريو الثاني في الانبعاث من خلال خلق جديد يبعث موجة نهوض وطني جذري توحد وتجمع جميع الفعاليات والفاعلين وتنبع من الداخل، وتتجاوز الثنائية الخانقة بين الاستبداد والنيو ليبرالية.

إن الأزمة التي تمر بها تونس هي عرض من أعراض أزمة عالمية مركبة، يعيش فيها الإنسان المعاصر مأزق المعنى، وتعيش فيها الدولة مأزق الثروة والسيادة والثورة الوطنية ويعيش المكون الجغرافي العربي مأزق الهزيمة ويعيش فيها النظام العالمي مأزق الشرعية والعدالة الكونية. وما بين الاستسلام للقدرية السياسية، أو التفكير الجذري في المستقبل، لا بدّ من بناء رؤى استراتيجية جديدة، يكون فيها الإنسان، وحرية الإنسان قبل السوق وقبل الدولة، هو محور الفعل التاريخي الحضاري والكوني.