قضايا وآراء

"اتّحاد الشغل" التونسي.. بين الوظيفية المعدّلة وشبح إنهاء الحاجة إليه

إن الخطأ القاتل لاتحاد الشغل هي أنه تعامل مع سردية تصحيح المسار باعتبارها سردية تقبل بوجود شريك اجتماعي يستمد شرعيته من خارج السلطة أو بالأحرى وجود شرعية تنازع تصحيح المسار احتكارَ التمثيل الشعبي لمختلف الفئات الاجتماعية.
لفهم دور الاتحاد في هندسة المشهد العام بعد الثورة- من منطلق دوره "الوطني" بالمعنى الذي تفهم به الأقليات الإيديولوجية معنى الوطنية-، سيكون من المهم التأريخ للعلاقة بين اتحاد الشغل والسلطة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، أي خلال مرحلتي الحكم الدستورية(بقيادة "الزعيم" بورقيبة) والتجمعية (بقيادة "صانع التغيير" المخلوع). ولكنّ ضيق المساحة النّصية  للمقال واشتغالنا أساسا على المشهد التونسي بعد "الثورة"، يوجبان ترك تلك المهمة للمؤرخين.

وسنكتفي في هذا المدخل بالتذكير بأن أهم ما يسم تلك العلاقة هو التعامد الوظيفي أو التخادم داخل منظومة الحكم ذاتها مع وجود بعض فترات التوتر والمواجهة التي لا علاقة لها بالخيارات الاستراتيجية الكبرى لمنظومة الاستعمار الداخلي ونواتها الصلبة. وهو تعامد وظيفي استدعى اختلاله المؤقت بعد الثورة تصدّر اتحاد الشغل واجهة المشهد لتعويض التجمع المنحل بحكم قضائي وليتحول الاتحاد إلى قاطرة المنظومة القديمة في استراتيجية إعادة التموضع والانتشار التي انتهت بتأسيس "حركة نداء تونس" وانتصارها في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية سنة 2014.

مثّل إسقاط حكومة الترويكا سنة 2014 وتشكيل حكومة "التكنوقراط" برئاسة مهدي جمعة حدثا مفصليا في مسار الانتقال الديمقراطي الهش من جهتي التأسيس والمخرجات. وقد كان لاتحاد الشغل دور مركزي في إنضاج الشروط الفكرية (تأجيج الصراع على أساس الهوية والاصطفاف الصريح ضد حركة النهضة مع معاملة تفضيلية لورثة المنظومة القديمة باعتبارهم جزءا من "العائلة الديمقراطية") والشروط الموضوعية (تأزيم المشهد الاقتصادي والاجتماعي من خلال آلاف الإضرابات والتحركات "الابتزازية") لانتقال السلطة من شرعية التمثيل ومرجعية صناديق الاقتراع إلى شرعية "الغلبة" و"القهر" بمنطق مُعلمن ومعاد بالقصد الأول لأي وجود إسلامي داخل أجهزة الدولة، بل داخل منظمات المجتمع المدني. ولكنّ خارطة الطريق التي فرضت حكومة بلا أي تمثيل شعبي وذات علاقات مشبوهة بالدولة العميقة وبفرنسا لم تكن كافية لتحقيق تلك الغاية الاستراتيجية للأقليات الإيديولوجية المهيمنة على اتحاد الشغل (اليسار الوظيفي بشقيه الماركسي ـ خاصة الوطد ـ والقومي ـ حركة الشعب ـ).

كان "تصحيح المسار" بالنسبة إلى الاتحاد وللأقليات الإيديولوجية المهيمنة على المركزية النقابية فرصة للتخلص من حركة النهضة ومن النظام البرلماني المعدّل الذي جعلها تحتل مركز الحقل السياسي. و
بعد انتخابات 2014 وهيمنة نداء تونس على الرئاسات الثلاث، جاء خيار التوافق بين هذه الحركة وبين حركة النهضة ليضع القوى اليسارية الوظيفية في الحقلين السياسي والمدني /النقابي أمام مشهد لم يكن هو مطلوبها عندما ساندت المرحوم الباجي وحركته ضد الرئيس الأسبق منصف المرزوقي وضد حركة النهضة. فبعد الخطاب الانتخابي الذي تختزله مقولة أن "النداء والنهضة خطان متوازيان لا يلتقيان" اقتضت إكراهات السياسة أن يمد المرحوم الباجي يديه إلى حركة النهضة في إطار توافق براغماتي غير مؤسس من الناحية النظرية. وهو توافق تم بشروط المنظومة القديمة وقدّم لها خدمات لم تكن لتتحقق لولا الوجود الصوري لحركة النهضة في السلطة ودعمها القوي لخيارات النداء ـ أي دعمها لمصالح المنظومة القديمة ماديا ورمزيا ـ في البرلمان.

ورغم الوجود المحدود للنهضة في مراكز القرار الوطني والجهوي خلال تلك المرحلة، بل رغم دور استمرار الاتحاد في ممارسة دور سياسي قوي ـ من خلال تعيين الوزراء وكبار المسؤولين أو رفع "فيتو" أمام تعيينهم، خاصة إذا كانوا غير معادين لحركة النهضة وإن لم يكونوا بالضرورة متعاطفين معها-، فإن "خيمة تونس" التي كانت قاطرة خيار "الاستئصال الصلب" ـ أي تحويل حركة النهضة إلى ملف أمني ـ قضائي ومنعها ليس فقط من سلطة توازي تمثيلها الشعبي، بل منعها من العمل القانوني حتى داخل المعارضة- كانت تنتظر فرصة أخرى لتحقيق مطلبها الاستئصالي، وقد خُيّل إليها أنه وجدته في "تصحيح المسار" فساندته منذ اليوم الأول لإعلان الإجراءات الرئاسية بعد أن ساهمت في إنضاج شروط "مقبوليتها" من لدن طيف واسع من التونسيين.

كان "تصحيح المسار" بالنسبة إلى الاتحاد وللأقليات الإيديولوجية المهيمنة على المركزية النقابية فرصة للتخلص من حركة النهضة ومن النظام البرلماني المعدّل الذي جعلها تحتل مركز الحقل السياسي. وهي فرصة ستسمح لحلفائهم في أحزاب اليسار الوظيفي بالمشاركة في السلطة حتى إذا ما أصبح النظام نظاما رئاسيا كما كان شأن أحزاب "الديكور الديمقراطي" في عهد المخلوع. أما الاتحاد فكان ينتظر من السلطة الجديدة اعترافا بدوره "الوطني" وتشريكا له في صناعة القرار السيادي من خلال آلية "الحوار الوطني"، وهو حوار لا يتسع إلا للقوى "الحداثية" ، أي لتلك القوى التي تتحدد هويتها السياسية بمعارضة النهضة وتركيا وقطر، ولا تتحدد بمعارضة منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها الإقليميين والدوليين –خاصة محور التطبيع والثورات المضادة.

لقد كانت قراءة المركزية النقابية للمشهد التونسي بعد 25 يوليو 2021 قائمة على الوعي الوظيفي ولم تستطع أن تنتبه إلى الاختلافات الجذرية بين واجهة النظام الجديدة وبين سابقاتها بدءا بتحول 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 وانتهاء بحركة نداء تونس وشقوقها وحلفائها في اليسار الوظيفي. لقد نظرت الأقليات الإيديولوجية المهيمنة على الاتحاد إلى سياسات السلطة باعتبارها أحيانا "انحرافات استبدادية" ولكنه انحرافات لا تمس الجوهر الإصلاحي لتصحيح المسار. ولم تر في الاستهداف الممنهج لخصوم السلطة ولكل الأجسام الوسيطة ـ بما فيها تلك الأجسام المعادية للإسلاميين ـ إلا "أضرارا جانبية" معقولة ويمكن القبول بها لتحقيق الغاية الأصلية: إقصاء حركة النهضة وحلفائها من المشهد السياسي، ومنع أي إعادة تفاوض على عقد اجتماعي جديد يعيد توزيع الثورة والسلطة خارج إملاءات اللوبيات المالية والجهوية والأقليات الإيديولوجية. 

كان انتقاد السلطة بصورة جدية يعني بالنسبة للأقليات الإيديولوجية –خاصة الوطد والقوميين- إضعافا للرئيس وبالتالي تقوية لسردية المعارضة الجذرية بقيادة جبهة الخلاص. ولذلك حرصت القيادات النقابية ـ ومعها أغلب مكوّنات ما يُسمّى ب"العائلة الديمقراطية" ـ على البراءة من الجبهة ومن حركة النهضة وعلى اتخاذ مسافة نقدية ثابتة منهما، كما حرصت على ملازمة مربّع "الموالاة النقدية" للنظام. وهو مربّع يجد مرجعه الأعلى في سلوك المعارضة الكرتونية زمن المخلوع، وهو سلوك يسعى إلى رفع التعارض بين "امتيازات السلطة وشرف المعارضة".

لقد كانت قراءة المركزية النقابية للمشهد التونسي بعد 25 يوليو 2021 قائمة على الوعي الوظيفي ولم تستطع أن تنتبه إلى الاختلافات الجذرية بين واجهة النظام الجديدة وبين سابقاتها بدءا بتحول 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 وانتهاء بحركة نداء تونس وشقوقها وحلفائها في اليسار الوظيفي.
ولكنّ ما لم يفهمه الاتحاد ـ أو على الأقل ما لم يحمله على محمل الجد ـ هو طبيعة السردية السياسية الجديدة للنواة الصلبة للحكم. فتصحيح المسار لا يطرح نفسه شريكا بل بديلا، وهو لا يتحرك تحت سقف الديمقراطية التمثيلية ويعتبر أنه يمثل زمنا سياسيا جديدا يلغي الحاجة للأجسام الوسيطة. ولا شك عندنا في أن الاتحاد لم يعتبر نفسه جسما وسيطا مستهدفا بهذه السردية المبشرّة بانتهاء زمن الأحزاب. فالاتحاد ليس حزبا ـ على الأقل في المستوى القانوني ـ ولكنه نسيَ أنه واقعيا كان حزبا أو "تجمّعا جديدا" لأحزاب الأقليات الايديولوجية العاجزة عن اكتساب شرعيتها بصناديق الاقتراع. ولذلك فإن "الدور الوطني" الذي سمحت به النواة الصلبة للاتحاد خلال "عشرية الانتقال الديمقراطي" ـ أي الدور السياسي للاتحاد ـ لم يعد مقبولا في ظل السردية السياسية للسلطة. وهو ما يعني حتمية المواجهة بين الطرفين. 

بعد "خراب مالطا" يبدو أن اتحاد الشغل قد فهم أنّ "تصحيح المسار" لم يعد في حاجة إلى مهادنته أو إلى تحمل شرعية تنازعه وتهدد استقرار منظومة الحكم. فأمام غياب "مشروعية الإنجاز" اقتصاديا واجتماعيا وبعد إضعاف أغلب الأجسام الوسيطة وتدجينها أو حلها، يبدو أن السلطة ستبحث عن مشروعية إنجاز في مستوى محاربة الفساد أو ما تسميه ب"الخطر الجاثم". فإذا كانت السلطة قد شرعنت إجراءات 25 يوليو 2021 بمواجهة "الخطر الداهم"، فإن الانتقال من الوضع المؤقت إلى "التأسيس الثوري الجديد" استدعي استحضار "الخطر الجاثم"، أي خطر الأجسام الوسيطة التي هيمنت على الديمقراطية التمثيلية ثم انقلبت على الإرادة الشعبية في إطار ما يسميه الرئيس ب"الصفقات" و"التسويات" داخل البرلمان وخارجه. ولا شك في أن الأحزاب لم تكن لتنحرف باستحقاقات الثورة وانتظارات المواطنين دون تواطئ من "الشريك الاجتماعي" وقياداته المركزية والجهوية، وهو تواطؤ يبدو أن النظام التونسي يعلم مدى مقبوليته لدى الرأي العام وذلك سيتخذه ذريعة لإعادة هندسة المشهد العام في البلاد بعيدا عن منطق التشاركية والحوار. فالاتحاد الذي ظن نفسه فوق المساءلة والمحاسبة يجد نفسه اليوم في عين العاصفة، وهو وضع تحاول المركزية النقابية مواجهته بالتحشيد "النقابي" وباعتماد سِجل المظلومية والطهورية والوطنية، ولكن حظوظها في الخروج منتصرة من هذه المواجهة تبدو صفرية.

إن الخطأ القاتل لاتحاد الشغل هي أنه تعامل مع سردية تصحيح المسار باعتبارها سردية تقبل بوجود شريك اجتماعي يستمد شرعيته من خارج السلطة أو بالأحرى وجود شرعية تنازع تصحيح المسار احتكارَ التمثيل الشعبي لمختلف الفئات الاجتماعية. فتصحيح المسار هو وكالة عامة ونهائية ومطلقة ولا تقبل بوجود أي طرف يشكك في تلك الوكالة أو يزاحمه فيها. ولذلك فإن الاتحاد مدعوّ إلى العودة إلى مربع الولاء التام للنظام و"رفع التحديات" معه كما كان شأنه زمن المخلوع، وهو مدعو إلى اختزال دوره الوطني في البعد المطلبي المحض والابتعاد عن أي تدخل في الشأن السياسي، مع "تفهم" خيارات الدولة الاقتصادية والاجتماعية وشرعنتها أمام منظوريه.

وفي صورة رفض الاتحاد لهذا الدور داخل سردية تصحيح المسار، فإن السلطة تمتلك أوراقا للضغط مازالت تلوح بها دون تستعملها (إنهاء الاقتطاع الآلي وفتح ملفات الفساد النقابي). ولا شك عندنا في أن مساحة المناورة عند الاتحاد محدودة جدا. فقوته لم تكن يوما قوة ذاتية، بل كانت دائما مرتبطة بحلفائه/ أذرعه في المجتمع المدني والإعلام (وهي حاليا في وضعية الموت السريري أو في تحالف مع السلطة) كما كانت تلك القوة مشتقة من النواة الصلبة للحكم ومن احتياجاتها السياقية للاتحاد. وهو ما يجعلنا نرجح تراجع المركزية النقابية عن التصعيد والقبول بوضعية "النضال الصامت" الذي سيتحول من خيار تكتيكي مؤقت إلى خيار استراتيجي دائم على الأقل في المستوى المنظور.