مهما
كان موقفنا من "تصحيح المسار"، أي من إجراءات الرئيس
التونسي ونظامه منذ 25 يوليو 2021،
فإننا لا نستطيع إلا أن نربط أزمة "الانتقال الديمقراطي" أو فشل مأسسة
استحقاقات "الثورة" بهذا الحدث المفصلي في تاريخ تونس. فسردية تصحيح
المسار -كما أوضحنا في أكثر من مقال سابق- كانت تتويجا/ توظيفا لمسار تأسيسي هش
ومتناقض ذاتيا، وهو مسار لم ينجح الفاعلون الجماعيون من مواقعهم المختلفة في
تحصينه ضد الانقلاب، بل إن الكثير منهم لم يخفوا رغبتهم في إنهاء "الفاصلة
الديمقراطية" والعودة إلى زمن "التجانس الأيديولوجي" المفروض بقوة
الدولة وتواطؤ النخب الحداثية "الوظيفية"، بينما حرص آخرون على تحويل
"الانتقال الديمقراطي" وروح التأسيس الجديد إلى لحظة من لحظات الجمهورية
الأولى بلحظتيها الدستورية والتجمعية، سواء بمنطق "استمرارية الدولة" أو
بمنطق "التوافق".
بصرف
النظر عن مقاصدها وتبريراتها، فإننا على يقين من أنّ "نخب الديمقراطية
التمثيلية" -على حدة اختلافاتها الأيديولوجية- قد لعبت دورا مركزيا في تأزيم
المشهد العام بصورة أنضجت الشروط الموضوعية والفكرية لتقبل سردية تصحيح المسار
وجعلها مطلبا شعبيا على الأقل في مراحلها الأولى، ولا شك عندنا أيضا في أنّها ما زالت
تمد هذه السردية بأسباب بقائها بصرف النظر عن شرعيتها ومشروعيتها.
"نخب الديمقراطية التمثيلية" -على حدة اختلافاتها الأيديولوجية- قد لعبت دورا مركزيا في تأزيم المشهد العام بصورة أنضجت الشروط الموضوعية والفكرية لتقبل سردية تصحيح المسار وجعلها مطلبا شعبيا
رغم
ارتباط وصم "الوظيفي" بالعديد من مكونات اليسار -بشقيه الماركسي
والقومي- فإن الخيارات الاستراتيجية لحركات الإسلام السياسي "المقنن"
بعد الثورة -خاصة حركة النهضة- تجعل من اختزال "الوظيفية" في اليسار
مقاربة مجانبة للصواب. ورغم أنّ الأدبيات السياسية لحركة النهضة -في مبلغ علمنا- تخلو
من مفهوم "المثقف العضوي" على خلاف الأدب السياسي اليساري، فإن قيام
"الانتقال الديمقراطي" على مطلب "التغيير الاجتماعي"، سواء
بمنطق الإصلاح أو بمنطق التثوير، من جهة أولى، وطرح النهضوي نفسه من جهة ثانية
باعتباره مثقف الهامش السلطوي الذي لا يتماهى مع المثقف "الحداثي"، والذي
يعبّر عن مصالح مادية ورمزية لفئات اجتماعية وجهوية مقموعة في السرديات الحداثية
السلطوية والمعارضة، هو أمر يشرّع استثمار القوة التفسيرية لمفهوم "المثقف
العضوي" الغرامشي بعيدا عن الأطروحات الموجهة للتوظيف السياسوي في الصراع بين
السلطة و"ظِلالها/بدائلها" داخل منظومة الاستعمار الداخلي ذاتها.
في
أبسط تعريفاته، فإن "المثقف العضوي" عند غرامشي هو شخص يرتبط بطبقة
معينة ويُعبر عن مصالحها ويساهم في تشكيل وعيها الجمعي أو إعادة تشكيله للدفاع عن
تلك المصالح. ولا يكون المثقف العضوي ثوريا/إصلاحيا بالضرورة، فقد يكون معبرا عن
مصالح الطبقة المهيمنة ويضع محصول عقله في خدمتها. وبصرف النظر عما يثيره مفهوم
"الطبقة" من إشكالات نظرية خارج السياق الأوروبي، فإننا نستطيع أن نقول
إن "المثقف العضوي" المنحاز للثورة في السياق التونسي هو شخص يُفترض فيه
ألّا يُعبّر عن مصالح الفئات المهيمنة (أي لا يعبّر عن مصالح النواة الصلبة
لمنظومة الاستعمار الداخلي، ولكنه قد يسعى إلى "احتواء" تلك المصالح أو
توجيهها لخدمة مشروعه السياسي)، كما يُفترض فيه أن يسعى إلى توسيع قاعدته
الاجتماعية وإلى تحصين "الثورة" ضد استراتيجيات الانقلاب؛ بتأسيس
"كتلة تاريخية" داعمة للتغيير من مختلف الفئات والأيديولوجيات. فلماذا
لم تظهر مجموعة مثقفين وازنة وتحمل هذا المشروع في تونس بعد الثورة؟
لا
شك عندنا في أن الانطلاق من السرديات الكبرى "المغلقة" والتفكير بمنطق
احتكار الحقيقة أو بمنطق التنافي ومفردات الصراع الوجودي؛ هو أمر يتعارض جذريا مع
هذا المشروع ومع هذا "المثقف" بصرف النظر عن خلفيته الأيديولوجية. كما
لا شك عندنا في أنّ الفلسفة السياسية التي هندست الانتقال الديمقراطي لم تكن تتحرك
في هذا الأفق الفكري والمشروع التحرري، وهو ما نزعم أنه السبب الرئيس في تحول أغلب
النخب إلى نخب وظيفية، وكذلك تغييب أي سجال عمومي حول "الكتلة
التاريخية" وفشل "النخب" في التوافق حول سردية مرافقة للتأسيس
الجديد.
ولم
تكن عودة البورقيبية لاحتلال موقع "الخطاب الكبير" (ومن بعدها ظهور
سردية تصحيح المسار باعتبارها بورقيبية جديدة أو إعادة صياغة للبورقيبية، خاصة في
مستوى الزعامة الفردية واحتكار تمثيل الإرادة الشعبية وتهميش المؤسسات والأجسام
الوسيطة، وكذلك في مستوى سردية "التحرير الوطني" وتخوين أي معارضة
وشيطنتها) إلا نتيجة حتمية لهذا المسار؛ الذي تواطأ فيه أهم الفاعلين الجماعيين
خلال عشرية الانتقال الديمقراطي على قتل "المثقف العضوي" ووأد
"الكتلة التاريخية"، أي على نسف استحقاقات الثورة من داخلها.
بناء
على ما تقدم، فإننا نستطيع أن نقدم الفرضية التالية: إن البديل الفكري والموضوعي
للمثقف العضوي لا يمكن أن يكون إلا مثقفا وظيفيا مهما كانت أيديولوجيته، كما أن
بديل "الكتلة التاريخية" لا يمكن أن يكون إلا كتلا أيديولوجية متصارعة
ولكنها جميعا في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي. وإذا كان المثقف العضوي
"الثوري" هو ذاك المثقف المنحاز للحقيقة ولمن هم أسفل، فإن
"الوظيفي" -مهما كانت ادعاءاته ومزايداته- لا يمكن أن ينحاز للحقيقة
معرفيا ولا للمقهورين اجتماعيا. إنه مثقف ملتبس أو مشكل، فلا هو ينتمي إلى الفئات
المهيمنة فيكون المعبّر عن مصالحها، ولا هو معبّر عن مصالح الفئات الاجتماعية التي
انحدر منها، وهي في الأغلب فئات مهمشة جهويا واقتصاديا.
في إطار ترسيخ منظومة الهيمنة، كان من أهم نجاحات منظومة الاستعمار الداخلي على مستوى الهندسة الاجتماعية هو الاستغناء عن إنتاج مثقفيها العضويين، أي مثقفين ينتمون إليها ويُعبّرون عن المصالح المادية والرمزية لنواتها الصلبة. فقد أوكلت هذه المهمة -أو تبنّاها طواعية- أغلب النخب التونسية الذين ينحدرون أساسا من جهات لا تنتمي تاريخيا إلى النواة الصلبة للحكم
إذا
ما أردنا صياغة "الالتباس" الوارد أعلاه بصورة واضحة فإننا سنقول إن
الوظيفي هو فاعل اجتماعي ملحق بالنواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي دون أن
يكون منها، وهو فاعل يستمد شرعيته من ادعاء تمثيل "المجتمع"؛ ولكنه في
الحقيقة لا يمثل إلا مصالحه الشخصية وفئة ضيقة من المواطنين الذين شكلت الأساطيرُ
المؤسسة للدولة-الأمة هوياتهم الفردية والجماعية أو خضعوا لها، مثل النهضويين.
ولما كانت الدولة-الأمة أو الدولة الوطنية مجرد كيان وظيفي (انظر هشام البستاني في
كتابه المرجعي المنشور في جزأين: الكيانات الوظيفية)، فإن أي تماه مع أساطيرها
التأسيسية هو تماه مع منظومة الاستعمار الداخلي أو مع "الاستعمار
الجديد"، وهو بالتالي خيار متعارض جوهريا مع ظهور "المثقف العضوي"
المنحاز للثورة ولِما يسندها ويحصّنها في المستويين الفكري والموضوعي، خاصة
"الكتلة التاريخية".
في
إطار ترسيخ منظومة الهيمنة، كان من أهم نجاحات منظومة الاستعمار الداخلي على مستوى
الهندسة الاجتماعية هو الاستغناء عن إنتاج مثقفيها العضويين، أي مثقفين ينتمون
إليها ويُعبّرون عن المصالح المادية والرمزية لنواتها الصلبة. فقد أوكلت هذه
المهمة -أو تبنّاها طواعية- أغلب النخب التونسية الذين ينحدرون أساسا من جهات لا
تنتمي تاريخيا إلى النواة الصلبة للحكم. وإذا كانت أغلب مكونات اليسار -التي ينتمي
رموزها وجمهورها إلى مناطق الظل/الذل- قد تحولت إلى أجسام وظيفية منذ عهد المخلوع،
تحت غطاء نقابي أو حقوقي أو ثقافي.. الخ، فإن النهضويين كانوا آخر الوظيفيين وآخر
ضحايا خيار التوافق مع المنظومة بشروطها، أي آخر ضحايا خدمة مشروع منظومة
الاستعمار الداخلي بوعي مزيف يتوهم أنه يخدم مشروعه الخاص.
ولا
شك عندنا في أن الوظيفية واقعيا هي الأفق الأوحد لأي خطاب سياسي يسلم للبورقيبية
بدور "الخطاب الكبير" ويُطبّع مع الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة (أي
للكيان الوظيفي الذي يشرعن وجوده بمجازات الاستقلال والسيادة والوطنية)، وهو معطى
لا يجب إغفاله عند محاولة فهم الأسباب العميقة لهيمنة منظومة الاستعمار الداخلي
على مسار الانتقال الديمقراطي المجهض، ومن بعدِه على سردية تصحيح المسار رغم
موقفها المعادي "خطابيا" لتلك المنظومة الفاسدة قِيما ورموزا ومؤسسات.
x.com/adel_arabi21